"الغرفة المجاورة".. تحية من بيدرو ألمودفار لسينما إنغمار بيرغمان وفن إدوارد هوبر

يتابع المخرج بيدرو ألمودفار في فيلمه "الغرفة المجاورة" جرأته المعهودة حيث اعتمد على شخصيات نسائية قوية وقصص إنسانية عميقة، وحوارات عاطفية، تمزج الواقعي بالرمزي، والدراما بالكوميديا، ليحتفي بالحياة رغم تناوله لموضوع الموت، مظهرا قوة الصداقة وأهمية القرار الشخصي في اختيار الإنسان لنهايته.
شكلت النساء وعوالمهن معظم ثيمات المخرج الإسباني الكبير بيدرو ألمودفار فكانت معظم أفلامه عن بورتريهات نسائية يروي فيها حيوات نساء إسبانيات غائصا في تركيبتهن السيكولوجية ومتتبعا مصائرهن وعائدا إلى ماضيهن عبر كادراته ذات التكوينات البديعة وألوانه الزاهية الأخاذة، وكأنها المعادل السينمائي البصري للوحات الرسام الأميركي إدوارد هوبر.
كان ألمودفار في كل فيلم يقدمه يأخذنا فيه إلى عالم امرأة جديدة في إسبانيا ما بعد فرانسيسكو فرانكو وما بعد الثورة الجنسية فكان أفضل من شرح المجتمع الإسباني والمدريدي خصوصا، وهو الذي حصل ذات يوم على أوسكار أفضل فيلم أجنبي عن فيلمه “كل شيء عن أمي” عام 1999 والذي شكل نقلة نوعية في مسيرته متناولا فيه قضايا الأمومة والفقدان والذاكرة والجندر في المجتمع الإسباني الحديث.
لكن صاحب “العودة 2006” قرر في العام 2024 أن يتجه بسينماه خارج إسبانيا للمرة الأولى في مسيرته المهنية فاختار هوليوود والولايات المتحدة وقرر أن يبقى في عالم النساء الذي لطالما شغله، لكن هذه المرة عبر ثيمة جديدة يتطرق إليها لأول مرة وهي الموت الرحيم في فيلم ناطق باللغة الإنجليزية وهو فيلم “الغرفة المجاورة” بطولة تيلدا سوينتون وجوليان مور.
الفيلم من تأليف ألمودفار نفسه باقتباس عن رواية للكاتبة الأميركية سغريد نونيز، وقد حاز حين عرضه للمرة الأولى في مهرجان فينيسيا الإيطالي العريق على جائزة الأسد الذهبي، وجاءت هذه الجائزة لفيلم استحقها وتكريما كبيرا لألمودفار على مسيرته الفنية الحافلة وعلى النقلة النوعية الكبيرة فيها وهو في أواسط السبعينات من العمر. وقد حاز الفيلم أيضا على عدة جوائز كبيرة في مهرجان غويا الإسباني الشهير.
وهذه ليست المرة الأولى التي يتناول فيها ألمودفار ثيمة المرض فقد تناولها سابقا في فيلمه “الحديث معها” عام 2002، الذي يروي قصة شابين يتعرفان على بعضهما في المستشفى الذي ترقد فيه صديقتاهما، الأولى ليديا مصارعة الثيران التي تعرضت لإصابة خطيرة أثناء ممارستها هذه الرياضة دخلت على إثرها في غيبوبة دائمة، فيلازمها صديقها ماركو أثناء رقادها في المستشفى، والثانية هي أليشيا راقصة الباليه التي ترقد معها وهي في غيبوبة أيضا ويرافقها فيها صديقها بينشيو.
ويقارب فيلم “الغرفة المجاورة” في ثيمته فيلم “بيرسونا” الذي صدر عام 1966 للمخرج السويدي الكبير إنغمار بيرغمان بطولة ليف أولمان وبيبي أندرسون، والذي يروي قصة الممثلة المسرحية إليزابيث التي تفقد النطق أثناء وقوفها على المسرح وتنقل إلى المستشفى ويخصصون لها الممرضة ألما كي تعتني بها وتحدثها، فتنشأ بينهما صداقة قوية رغم صمت إليزابيث وهي فرصة لألما كي تبوح لها ما بداخلها ثم تنتقلان إلى منزل ريفي للنقاهة، كما حدث في فيلم “الغرفة المجاورة” لألمودافار حين تنتقل الصديقتان مارثا وإنغريد إلى المنزل الريفي في ضواحي نيويورك وكأنما ألمودفار أراد أن يوجه تحية للمعلم السويدي بيرغمان عبر فيلمه هذا.
الموت قرار
فيلم نرى فيه كل شيء إلا الموت فهو فيلم يضج بالحياة ابتداء من ألوانه وديكوراته وملابس أبطاله
يروي فيلم “الغرفة المجاورة” قصة مارثا (تيلدا سوينتون) المراسلة الحربية السابقة في جريدة نيويورك تايمز التي تكتشف فجأة أثناء إجرائها لفحوصات في المستشفى أنها مصابة بسرطان عنق الرحم وهي في مرحلة متقدمة من المرض فتقرر إنهاء حياتها بسرعة تجنبا لهذا الألم الذي يزداد كل يوم لكنها لا تعرف الطريقة التي ستنهيها بها، فتقوم بالبحث على الإنترنت فتجد حلا يساعدها على ذلك وهو تناول حبة دواء تدعى “دارك ويب” تتسبب في موتها بهدوء.
في هذه الأثناء تكون إنغريد (جوليان مور) صديقتها السابقة في العمل، والتي أصبحت الآن كاتبة روائية مشهورة، قد صدرت لها رواية جديدة وأثناء توقيعها تلتقي بصديقة مشتركة بينهما فتخبرها هذه الأخيرة بأن مارثا مريضة جدا وهي في المستشفى فتقرر زيارتها ومواساتها. تسعد مارثا كثيرا بزيارة إنغريد لها وتخبرها أن وضعها الصحي ميؤوس منه وقررت أن تنهي حياتها لكنها لديها رغبة أخيرة وهي أن تكون، أي إنغريد، بجانبها أثناء قيامها بذلك وأن يقضيا معا إجازة في الطبيعة يسترجعان فيها ذكرياتهما الجميلة.
توافق إنغريد ويستأجران منزلا في أرياف نيويورك تقضيان فيه وقتهما منعزلتين ومبتعدتين عن ضجيج المدينة، وهذا يحيلنا إلى تذكر فيلم بيرسونا لإنغمار بيرغمان حين نصح الأطباء إليزابيث بالذهاب إلى جزيرة برفقة ألما ممرضتها. تتحول إقامة مارثا وإنغريد في هذا المنزل الريفي إلى نوع من الاسترخاء فتقضيان وقتهما في الطبيعة ومشاهدة الأفلام والطهي وتبدأ الأحاديث الطويلة بينهما وتتحول هذه الأحاديث مع الوقت إلى مكاشفة لذاتيهما وتبدأ مارثا في استعادة ذكرياتها حينما كانت تعمل مراسلة حربية فتتذكر حرب العراق وحبيبها فريد (أليكس أندرسون) الذي أنجبت منه ابنتها التي لا تعرف والدها، كما تتذكر هي وأنغريد صديقهما داميان (جان تورتورو) الذي كان حبيبا مشتركا لهما في الماضي وأصبح اليوم أستاذا جامعيا يعطي محاضرات عن المناخ.
تمضي فترة زمنية لإقامتهما في هذا المنزل وتقرر مارثا أن الوقت قد حان لإنهاء حياتها فتطلب من إنغريد أن تكون في الغرفة المجاورة لها وهي تبتلع الحبة، ومن هنا جاء عنوان الفيلم، وتقول لها عندما تسمع باب الغرفة قد أغلق يعني أن العملية قد تمت. يغلق الهواء باب غرفة مارثا فترتعب إنغريد وتعتقد أنها قد تناولت الحبة في موقف كوميدي مضحك إلى أن يتم الأمر في النهاية ونرى مارثا ممدة على السرير والثلوج تنهمر في الخارج.
فيلم عن الحياة
أثناء مشاهدتنا لفيلم “الغرفة المجاورة” نرى كل شيء فيه إلا الموت فهو فيلم يضج بالحياة ابتداء من ألوانه وديكوراته وملابس أبطاله، حتى شخصيته الرئيسية مارثا التي تقرر الموت نراها تضج بالحياة ومتشبثة بها وهي بعيدة كل البعد عن فكرة الموت، فأثاث منزلها الملون العصري عكس أساس منزل صديقتها إنغريد الكلاسيكي القديم أكبر دلالة على الحياة وكأن الموت هو شيء كانت مجبرة على فعله فالحبة التي تريد تناولها تشبه حبة صداع يجبر الإنسان على أخذها حين يؤلمه رأسه هكذا الموت بالنسبة لها وكأنه شيء أرغمت عليه ولا يشبه شخصيتها المتشبثة بالحياة.
والفترة الأخيرة التي تقضيها مارثا مع إنغريد في الريف هي أكبر احتفال بالحياة وكأنهما في عطلة أو إجازة طويلة أخذتاها من عمل ملتزمتين به طيلة العام، لذلك كان فيلم “الغرفة المجاورة” فيلما عن الاحتفاء بالحياة والصداقة والحب والذاكرة الجميلة ولا يمكن تصنيفه فيلما عن الموت، فالموت فيه فكرة عابرة سهلة بسهولة ابتلاع الحبة.
وقد عبّرت كل من جوليان مور وتيلدا سوينتون عن سعادتهما الكبيرة في المشاركة بهذا الفيلم مع ألمودفار حيث صرحت الأولى “شعرت أنني محظوظة لأنه اختارني” أما سوينتون التي لطالما عبرت عن إعجابها الدائم بسينما ألمودفار وقالت ذات مرة إنها ستتعلم الإسبانية فقط من أجله، فقالت عن اختياره لها “نعمة عظيمة وامتياز كبير لي” وفعلا كان اختيارهما موفقا حيث تقمصتا شخصيتيهما باحترافية كبيرة فكانتا مميزتين ومناسبتين جدا لهذين الدورين.
وقدم بيدرو ألمودفار فيلمه هذا وكأنه يعيد تشكيل لوحة من لوحات إدوارد هوبر سينمائيا حيث نرى إحدى لوحات الأخير معلقة في المنزل الريفي الذي تقيم فيه مارثا وإنغريد وكأنه يرسل تحية لهوبر وفنه.
وكعادة ألمودفار المحببة استخدم الألوان الزاهية في فيلمه كالأحمر والأصفر والأخضر والأزرق مشبعا صورته بها مشكلا كادراته المميزة في اللقطات العامة التي اعتدنا عليها في أفلامه وكأنها لوحات زيتية لفنان تشكيلي، وهذا سر ألمودفار الذي يميزه عن غيره من السينمائيين بينما باقي اللقطات جاءت متوسطة أو قريبة لإظهار انفعالات وأحاسيس الشخصيات فكنا أمام فيلم متكامل نصا وإخراجا وتمثيلا أعاد إلى أذهاننا سينما إنغمار بيرغمان ولوحات إدوارد هوبر فكان تحية كبيرة لكليهما ونقلة نوعية كبيرة في مسيرة سينمائي موهوب كألمودفار.