شبح القذافي

التخلص من هذا الشبح يتطلب أكثر من مجرد انتخابات؛ إنه يتطلب محاسبة وطنية ولجان تقصي حقائق وعدالة انتقالية خالية من الانتقام.
الأربعاء 2025/06/04
إرث القذافي لا يزال يطارد الذاكرة الجماعية

أنهى اعتقال معمر القذافي وقتله على يد الثوار في سرت خلال أكتوبر 2011 حكمه الدكتاتوري الذي دام 42 عاما، والذي اتسم بمزيج من الطموح الأفريقي الشامل والقمع الشديد. وأثار موته في البداية احتفالات واسعة النطاق في جميع أنحاء ليبيا. ومع ذلك، وبعد مرور أكثر من عقد على هذه اللحظة الحاسمة يبدو غياب القذافي وهما غريبا، حيث لا تزال ليبيا عالقة في صراع داخلي وتكافح من أجل بناء دولة موحدة. كما لا يزال إرثه يؤثر على سياسات البلاد، ويشكل هويتها الجماعية، ويطارد ذاكرتها الجماعية.

ليس نفوذ القذافي المُتبقي رمزيا فحسب، بل يتجلى في المدن التي دُمرت في أعمال انتقامية، وفي الشعارات السياسية التي تُذكّر بخطاباته، وحتى في عودة صورته (حرفيا أحيانا) على يد الانتهازيين والمؤيدين الذين يتواصل حنينهم إلى الماضي. ولم يكن سقوط الدكتاتور نهاية لتأثيره على ما يبدو، بل لم تتجاوز العملية مجرّد تحوّل.

كانت ليبيا تُعتبر عند مقتل القذافي قصة نجاح محتملة للربيع العربي. فعلى عكس سوريا، حيث أشعلت الثورة حربا طويلة، كان حلفاء ليبيا الدوليون (وخاصة فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة) يأملون رؤية البلاد تتحول إلى دولة حديثة. لكن هذه الآمال كانت سابقة لأوانها حيث تفككت المؤسسات، وسرعان ما فقدت الحكومة الانتقالية مصداقيتها. ونشأ فراغ في السلطة، ملأته حكومات وميليشيات متنافسة وجهات خارجية.

وازدادت ذكريات حكم القذافي قوة وسط هذه الفوضى، بدلا من أن تتلاشى. وأصبح بعض الليبيين يستذكرون دكتاتوريته بحنين مرير، على الرغم من وحشيتها. وهم يجادلون بتمتعهم بالنظام والاستقرار ودرجة من الرخاء في ظل حكمه. كما يشددون على أن الشوارع كانت آمنة، وعلى أن النفط كان يتدفق. وتبقى البلاد اليوم ممزقة وخارجة عن القانون، في ظل غياب قيادة موحدة ووجود حكومتين متنافستين. وفي الأثناء أحيت الرغبة في سلطة مركزية إرث القذافي في النقاش السياسي.

ليس هذا الإحياء نظريا. ففي 2021 عاد سيف الإسلام القذافي، أشهر أبناء الدكتاتور، إلى الظهور بعد سنوات من الاختباء ليطلق حملة رئاسية. وقررت بعض المحاكم استبعاده، لكن ترشّحه أظهر أن بعض شرائح السكان (لاسيما في الجنوب وبين المجموعات القبلية) تتوق للعودة إلى الماضي. ولم يخفِ تشابهه مع والده، من نظارته إلى نبرته الملكية، على الناخبين. وبذلك لم يترشح سيف الإسلام رغما عن إرث والده، بل بسببه.

ولعل إرث القذافي يتجلى بوضوح في مصير تاورغاء، المدينة التي كانت تؤوي عشرات الآلاف من الموالين للنظام، ومعظمهم من الليبيين السود. ففي عام 2011، ومع اقتراب الحرب من نهايتها، اتُهمت هذه المدينة بمساعدة قوات القذافي في حصار مصراتة المجاورة. ودمّرتها ميليشيات مصراتة انتقاما لذلك. وأُحرقت المنازل، وهرب السكان، ولا تزال تاورغاء اليوم مهجورة إلى حد كبير، حيث يعيش نازحون منها في مخيمات مؤقتة في أنحاء البلاد، ممنوعين من العودة إليها.

◙ ليس نفوذ القذافي المُتبقي رمزيا فحسب، بل يتجلى في المدن التي دُمرت في أعمال انتقامية، وفي الشعارات السياسية التي تُذكّر بخطاباته، وحتى في عودة صورته

تبدو تاورغاء مدينة أشباح حقيقية، ورمزا للانقسامات العميقة التي شهدتها ليبيا بعد الثورة. فبدلا من السعي نحو المصالحة، انزلقت البلاد في دوامة من الانتقام. ودُمرت مجتمعات بأكملها أو هُمّشت بسبب انتماءات سابقة، بينما تبقى العدالة غائبة أو غير متسقة. وكان مقتل القذافي قد أنهى دكتاتورية، لكنه ترك الصراعات القبلية والعرقية والإقليمية التي كان يسيطر عليها بالقوة دون حل.

لقد حكم القذافي ليبيا بمزيج من المحسوبية القبلية والعنف، مُفكّكا المؤسسات التي قد تتحداه. ومن أشهر أعماله إلغاء الدستور لصالح “الكتاب الأخضر” الخاص به، مُعطيا الأولوية للولاء الشخصي على الهياكل الرسمية. وأصبح ثمن هذا الفراغ المؤسسي جليا اليوم.

أصبحت ليبيا منقسمة إلى قسمين: الغرب، الذي يُحكم من طرابلس، والشرق، الذي يسيطر عليه القائد العام للجيش الليبي خليفة حفتر. وتوجد بينهما ميليشيات عديدة، ينشط بعضها كحكومات محلية، والبعض الآخر كعصابات إجرامية. وتُسيطر الفصائل المسلحة على المطارات ومواقع النفط والسجون. وقد اختفى حكم القانون.

ثم بثّ اغتيال عبدالغني الككلي، رئيس جهاز دعم الاستقرار التابع للمجلس الرئاسي، صدمة في أرجاء العاصمة. وكان الككلي، الشخصية شبه العسكرية البارزة، مسؤولا عن الأمن في أجزاء من طرابلس، بينما كان يمارس نفوذا سياسيا كبيرا خلف الكواليس. وكان مقتله سببا في زعزعة التوازن الهش بالفعل بين الميليشيات المتنافسة، وأثار اشتباكات دامية، وسلّط الضوء على الدور المركزي الذي يلعبه زعماء الميليشيات في الدولة الليبية المتصدعة.

ولا يزال المرتزقة الأجانب (بمن فيهم مقاتلون من مجموعة فاغنر الروسية، التي أُعيدت تسميتها بفيلق أفريقيا) ووحدات شبه عسكرية سودانية نشطين في ليبيا. ونتحدّث هنا عن مفارقة مأساوية، حيث ترك القذافي، الذي صوّر نفسه ذات يوم زعيما أفريقيّا مناهضا للإمبريالية، بلدا يعتمد على التدخل الأجنبي. وأصبحت السيادة الوطنية مجزأة، فليبيا ملك للجميع ولا أحد.

وانهارت المحاولات المتكررة لإجراء انتخابات وطنية. وتقرّر تأجيل تصويت 2021، الذي كان من المفترض أن يكون الأول منذ سنة 2014، إلى أجل غير مسمى بسبب الخلافات حول أهلية المرشحين وإجراءات التصويت. وكان ترشح سيف الإسلام القذافي مثيرا للاستقطاب بشكل خاص. واعتبره البعض خيانة للثورة، بينما اعتبره آخرون طريقا محتملا للخلاص.

وتهدف مجموعة جديدة من المقترحات الصادرة عن بعثة الأمم المتحدة في ليبيا إلى حل الخلافات الانتخابية طويلة الأمد. ومع ذلك لا يتوقع سوى عدد قليل من الليبيين إجراء انتخابات قريبا. ويرجع ذلك إلى تحول العملية الانتخابية من أداة للشرعية إلى أداة ضغط، تستغلها الفصائل المتنافسة لتأخير التنازلات أو افتكاكها. وربما كان إصرار القذافي على “حكم الشعب” المباشر ضربا من العبث، لكنه وفّر على الأقل مظهرا من الهيكلية. ويتجمد وعد الثورة بالديمقراطية اليوم.

ومع تواصل تأجيل الانتخابات تبقى ليبيا عالقة في مرحلة انتقالية. وتدّعي السلطات المتنافسة الشرعية بينما تُقوّض بعضها البعض. وازداد إحباط الليبيين العاديين. وتكثر نظريات المؤامرة في ظل غياب أي تقدم، وهي تردّد ادعاء القذافي القديم بأن الغرب زعزع استقرار ليبيا عمدا لإبقائها ضعيفة.

وأصبح الاقتصاد الليبي، الذي كان خاضعا لسيطرة القذافي المُحكمة والمُعتمد على النفط، الآن عرضة للصراعات الإقليمية. ففي أواخر مايو هددت الحكومة الشرقية، المتحالفة مع حفتر، بإعلان حالة القوة القاهرة على حقول النفط الرئيسية بسبب صراع على السيطرة على المؤسسة الوطنية للنفط. وتواجه المؤسسة الوطنية للنفط، ومقرها طرابلس، اتهامات بالفساد والمحسوبية من الفصائل الشرقية. وبينما تؤكّد المؤسسة استقرار إنتاج النفط، يُظهر التهديد نفسه كيف أصبح النفط، الذي كان في السابق موردا وطنيا موحدا، أداة للتفاوض بين الفصائل.

◙ القذافي حكم ليبيا بمزيج من المحسوبية القبلية والعنف، مُفكّكا المؤسسات التي قد تتحداه. ومن أشهر أعماله إلغاء الدستور لصالح “الكتاب الأخضر” الخاص به

ويمكن أن تموّل ثروة ليبيا النفطية إعادة الإعمار الوطني، لكنها متشابكة بدلا من ذلك مع الصراع الجيوسياسي. ويعكس هذا الوضع إرث نظام القذافي الممتد، حيث مارس سيطرة مركزية مطلقة على موارد البلاد.

ورغم معاناة العديد من الليبيين في عهد القذافي، وخاصة السجناء السياسيين والمعارضين، إلا أنه خلق شخصية لا تزال آسرة على نحو غريب. وجعلته أثوابه البراقة، وفريق حراسته النسائي، وخطابه الأفريقي، ومصطلحاته غير التقليدية، شخصية بارزة وطاغية في آن واحد. وتنتشر إلى اليوم مقاطع فيديو له على وسائل التواصل الاجتماعي، مصحوبة غالبا بتعليقات حنينيّة. ويرى بعض الشباب الليبيين، الذين لم يتسنّ لهم تذكر انتهاكاته، أنه قائد قوي تحدى الغرب.

وظهرت مؤخرا مقاطع فيديو على الإنترنت تُظهر شبيها بالقذافي تهتف له الحشود. ولا يُشير هذا التفاعل إلى الحنين إلى الماضي فحسب، بل أيضا إلى الإرهاق السياسي. فقد يبدو الماضي جذابا، مهما كان عنيفا، عندما تفشل كل حكومة جديدة.

وشهدت سنة 2021 تعيين عبدالحميد الدبيبة رئيسا للوزراء في حكومة الوحدة الوطنية المدعومة من الأمم المتحدة. وكُلّف بإنهاء الانقسامات الليبية طويلة الأمد. ومع ذلك، فشلت حكومته في توحيد البلاد أو تنظيم انتخابات. واتسمت فترة ولايته بالنزاعات السياسية، ومقاومة مختلف الفصائل، والاستياء واسع النطاق. واندلعت احتجاجات في طرابلس خلال مايو 2025، ما أجبر وزيرين على الأقل على الاستقالة وسط مزاعم بالفساد وعدم الكفاءة. وتزايدت المطالبات باستقالة الدبيبة، كاشفة عن إحباط واسع النطاق إزاء تعثر عملية الانتقال السياسي في ليبيا. ويُعدّ فشله في حل هذا الجمود مثالا آخر على الشلل الذي خلّفه القذافي.

كما تُضيف مليارات الدولارات من الأصول الليبية المجمدة في الخارج، وخاصة في أوروبا، مزيدا من التعقيد إلى الوضع. وتُقدر هذه الأموال بأكثر من 60 مليار دولار، ويُفترض أن تُفيد الشعب الليبي، لكنها لا تزال عالقة بسبب النزاعات القانونية والفساد والمصالح الجيوسياسية. وتشير مزاعم إلى أن قوى أجنبية ربما تستغل هذه الأصول أو تسحبها، بينما يخشى آخرون من مخاطر سوء الإدارة أو سوء الاستخدام في حال إرجاعها قبل الأوان.

ولا يزال الاقتصاد الليبي في حالة دمار، مع تهالك البنية التحتية، وانتشار البطالة، وغياب عدالة توزيع الثروة النفطية. وتبقى الأموال اللازمة لإعادة الإعمار الوطني عالقة في دوامة من الشلل وعدم الاستقرار، ما يعكس الحالة التي تُميز الوضع الليبي الحالي.

ولا تقتصر مأساة ليبيا على حكم القذافي لفترة طويلة، بل تشمل القليل الذي خلّفه. لم توجد مؤسسات راسخة، ولا ثقافة مدنية، ولا خطة للخلافة، فقط فراغ يبقى شبحه فيه مخيّما. إنه يعيش في حنين الخائبين، وحسابات أمراء الحرب، ومأزق السياسيين. ويتطلب التخلص من هذا الشبح أكثر من مجرد انتخابات. إنه يتطلب محاسبة وطنية، ولجان تقصي حقائق، وعدالة انتقالية خالية من الانتقام. ويجب أن تُعطي أي تسوية سياسية الأولوية لاحتياجات ليبيا على المصالح الفئوية أو القبلية.

وينبغي للقادة الليبيين، شرقا وغربا، التخلي عن الاعتماد على التحالفات الأجنبية التي تشجع التدخل، وبناء مؤسسات ديمقراطية تُمهّد الطريق لمستقبل موحد. إلى ذلك الحين، لن يبقى القذافي مجرد ذكرى، بل حضورا يطارد الأحياء، ويُشكّل الجمود، ويُبرز كيف تبقى ظلال الطغاة طويلا بعد سقوطهم.

6