عبدالكريم الحجراوي لـ"العرب": صنعت رواية من التفاصيل الهشة لقرية مصرية

"سيرة هشة ليوم عادي" بانوراما حياتية مرسومة في يوم واحد.
الثلاثاء 2025/06/03
الرواية الحقيقية هي التي تأسر القارئ

في بداية عام 2018، كان لقاءٌ غير متوقع مع رواية "خلية النحل" للأديب الإسباني كاميلو خوسيه ثيلا، المحرك الأول وراء تأليف الروائي والناقد المسرحي والباحث في التراث الشعبي عبدالكريم الحجراوي لروايته “سيرة هشة ليوم عادي” التي تدور أحداثها في يوم واحد فقط داخل إحدى القرى المصرية، "العرب" التقت الحجراوي في حوار حول روايته هذه.

تتناول رواية “سيرة هشة ليوم عادي” لعبدالكريم الحجراوي الحياة اليومية في قرية مصرية بتفاصيلها الدقيقة، وعمق العلاقات الإنسانية والحياتية. وذلك من خلال شخصيات متنوعة بلغ عددها أكثر من 350 شخصية.

 تصور الرواية عالما يتداخل فيه الزمان والمكان بطريقة غير تقليدية، حيث تأخذ القارئ في رحلة فنية تمزج بين الواقع والخيال في توازن دقيق. وذلك بأسلوب سردي يعكس إيقاع الحياة في الريف المصري، ويقدم سجلا دقيقا لليوم الذي يتسلل فيه الواقع إلى أحلام الشخصيات دون أن تشعر بذلك.

من خلال هذا الحوار، يستعرض الحجراوي كيف أسهمت تجربته الأكاديمية في النقد المسرحي والدراسات الشعبية في تشكيل رؤية خاصة للرواية، وكيف اعتمد على التراث الأدبي العربي القديم لتطوير هذا الشكل الروائي الفريد. كما يكشف عن رؤيته حول عناصر الأساطير والمعتقدات الشعبية، التي تتداخل في الأحداث دون أن تجعل منها غرائبَ منفصلة، بل جزءًا لا يتجزأ من النسيج الحي للحياة اليومية.

رواية يوم واحد

الرواية وظفت الأساطير والمعتقدات الشعبية لا كعناصر غرائبية مدهشة بل كجزء من نسيج الحياة اليومية في القرية
الرواية وظفت الأساطير والمعتقدات الشعبية لا كعناصر غرائبية مدهشة بل كجزء من نسيج الحياة اليومية في القرية

يقول الحجراوي “في بداية عام 2018، رأيت على مكتب سكرتير رئيس الهيئة المصرية العامة للكتاب (محمد عزت) عملا باسم ‘خلية النحل’ للإسباني الحاصل على جائزة نوبل كاميلو خوسيه ثيلا من إصدارات الهيئة، وما لفتني أنها ترجمة مارك جمال، أي ترجمة جديدة تختلف عن ترجمة أستاذي د. سليمان العطار لها بعنوان ‘طرق ضالة: خلية النحل’ عام 1992، قلبت في صفحاتها، فجاءني صوت عزت ‘خذها يا دكتور هدية مني’، فشكرته.”

ويضيف “بدأت قراءتها في ليالي الشتاء، فوجدت أنني أمام عمل شديد الملل والرتابة ولولا عادة عندي ألا أترك كتابا فتحته قبل أن أنهي قراءته لما أكملت قراءتها، وأخيرا جاء اليوم الذي انتهيت من قراءتها، وفي ذهني أني قرأت أسوأ كتاب في حياتي؛ ولكني فوجئت في الأيام والأسابيع التالية أن الرواية لم تغادر رأسي، تلح في الحضور على ذهني، وتذكرت ما كتبه العطار عنها ‘إننا أمام عمل بالغ الكمال لأنه بالغ النقص. ولا يتحقق كماله إلا بنقصه على متن صفحات الرواية’، لقد اختفى الراوي الواعظ، وحل محله الفنان الذي يتحول داخل العمل إلى عامل مساعد يحفز التفاعل الخلاق بين العمل الناقص وبين خيال القارئ المكمل للنقص، هي رواية تستحق قراءة خلاقة لأنها بدأت عملا لا يكمله إلا قارئ جاد مثل العمل نفسه.”

ويتابع “أعادت لي تلك الرواية تعريف معنى الرواية الجميلة، هي الرواية التي تأسر القارئ ولا تترك له مفرا من أسرها. قلت في نفسي: هذا هو الأدب، وهذه هي الرواية التي أريد أن أكتبها. ومن تلك اللحظة، ولدت لدي الرغبة العميقة في كتابة عمل يشبه ‘خلية النحل’، عمل يمتلك تلك القدرة الفريدة على الاستحواذ على الروح والفكر، ويمنح القارئ تجربة لا تُنسى.”

في عام 2019، بدأ الحجراوي كتابة المسودة الأولى من روايته “سيرة هشة ليوم عادي”، وكانت محاولة لاستلهام الشكل السردي لرواية “خلية النحل”. لكنه، وبعد أن انتهى من كتابة المسودة، أعاد قراءة العمل الإسباني مرة أخرى عام 2020. يومها فوجئ بالفارق الشاسع بين العملين، حتى كاد ينعدم أي تشابه بينهما. عندها أدرك، رأي العين، الفرق الجوهري بين التصور الأولي والتحقق الفعلي على الورق. وفوجئ بأن ما كان يعتقده محاولة منه لمحاكاة أسلوب روائي معقد مثل أسلوب ثيلا، لم يكن سوى ضرب من الوهم لا صلة له بالواقع، فاتخذ قراره بأن يبحث عن شكل جديد يجمع شتات مضمونها.

ويلفت الحجراوي إلى أن عملية كتابة الرواية استمرت أكثر من خمس سنوات، خلالها أعاد هدمها وبناءها مرات عديدة. لم يكن ابتكار هذا الشكل الجديد سهلا، فقد أراد أن يقدم عملا يختلف كليا عن الصور النمطية المتكررة التي تُقدم عن القرية الجنوبية في الأعمال الروائية والدراما التلفزيونية.

تدور أحداث الرواية في يوم واحد فقط، لكنها تعبر عن كل أطياف وطبقات القرية: صغيرهم وكبيرهم، غنيهم وفقيرهم، صالحهم وطالحهم، أفراحهم وأتراحهم، وغنائهم وبكائهم. كل ذلك بلغة سردية جديدة تقدم عالما خصبا لم يُكتشف بعد، عالما ينظر إليه العديد من الكتاب بعين السائح الذي يلتقط السطح فقط، ذلك السطح الغريب والعجيب، تاركا ما تحته من عمق وأسباب حقيقية تكمن وراء صيرورة الحياة في تلك القرية.

ويضيف “أردت أن أصنع رواية من التفاصيل الهشة التي يهملها كتاب التاريخ وعلماء الاجتماع، فكانت ‘سيرة هشة ليوم عادي’. حملت كاميرا على كتفي وانطلقت في شوارع وبيوت القرية، ألتقط اللحظات الصغيرة التي تشكل نسيج الحياة اليومية. تدور أحداث الرواية في 24 ساعة فقط، مقسمة إلى ثلاثة أجزاء، كل جزء يمثل ثماني ساعات من اليوم. يمكن قراءتها من أي فصل أو جزء دون أن يؤثر ذلك على فهم الحبكة أو سير الأحداث. سميت كل فصل من فصول الرواية باسم ساعة من ساعات اليوم، معتمدا في ذلك على ما ورد في كتاب ‘فقه اللغة’ للثعالبي، الذي ذكر أن ساعات اليوم عند العرب 24 ساعة، لكل ساعة منها اسمها الخاص. الشروق، البكور، الغدوة، الضحى.. إلخ.”

ويشير الحجراوي إلى أنه استفاد في البناء السردي للرواية من أسلوب المؤرخين العرب القدماء، الذين اعتادوا تأريخ الوقائع عامًا بعد عام. واستلهم من هذا المنهج الزمني فكرة ترتيب فصول الرواية وفق ساعات اليوم، بحيث تشكل كل ساعة إطارًا لحكاية أو مشهد أو انطباع، فتتشابك القصص في فسيفساء يومية، ترسم حياةً تبدو عادية على السطح، لكنها شديدة العمق إنسانيًا. خاصة أنها تزخر بعدد كبير من الشخصيات، يتجاوز 350 شخصية، تتوزع على مختلف الفئات العمرية والاجتماعية والثقافية داخل قرية مصرية.

الرواية تصور عالما يتداخل فيه الزمان والمكان بطريقة غير تقليدية، حيث تأخذ القارئ في رحلة فنية تمزج بين الواقع والخيال في توازن دقيق

وقد سعى الكاتب من خلال هذا التنوع إلى رسم بانوراما حياتية شاملة، تتقاطع فيها المصائر الفردية لتشكل نسيجا حيا من التفاصيل التي تضيء العادي والمألوف بما فيه من هشاشة إنسانية وجمال خفي. فكل شخصية، مهما بدت عابرة، تسهم في بناء الصورة الكاملة ليوم واحد، هو في الحقيقة مرآة لعقود من التحولات الاجتماعية العميقة.

يؤكد الباحث والكاتب المصري أنه حرص على أن يكون إيقاع الرواية موازيا لإيقاع الحياة في القرية المصرية، منسجما مع التحولات الطبيعية ليومها الطويل. ففي الساعات الموغلة في الليل يسود القلق والحذر، بينما يحمل الصباح حيوية ونشاطا يعيدان للعالم حركته الأولى، ثم تأتي الظهيرة بإيقاعها الرتيب وثقلها الخامل، قبل أن يعود النشاط الإنساني في العصر إلى ذروته، وصولا إلى هدوء المساء الذي لا يخلو من ترقب خافت. فلكل وقت من أوقات اليوم عوالمه وتفاصيله التي تبرز فيه أكثر من سواها، كأن الزمن نفسه يختار ما يضيئه من الوجوه والحكايات، مما يجعل من الزمن نفسه جزءا أساسيا من الحبكة، وليس مجرد وعاء للأحداث.

في ذات الوقت تتميز الرواية ببنائها الهندسي الدقيق، المتحرر من أعراف الكتابة التقليدية في السرد العربي، حيث تتبع هيكلا خاصا في ترتيب الأحداث، لا مكان فيه للصدفة أو الارتجال. كل مشهد وكل تفصيلة وُضعت بوعي يضبط الإيقاع ويشكل المعنى، بما يجعل من الزمن والبناء معا أداة فنية تُوازي في حضورها حضور الشخصيات والمكان.

وحول لغة الرواية يقول الحجراوي “لغة مكثفة وعميقة، تمزج بين بساطة التعبير وثراء التصوير، فتجعل المشاهد تنبض بالحياة. الوصف الدقيق للأماكن ـ من الحقول المترامية إلى الأزقة الضيقة، ومن البيوت الطينية إلى الأسواق الصغيرة ـ يخلق عالما حيا يُشعر القارئ بأنه يسير فيه، يلمسه ويتنفسه. وفي بنية السرد. تتكئ الرواية على التداعيات الحرة، ما يُتيح انتقالا مرنا بين المشاعر والأفكار، ويفتح للقارئ أبواب وعي الشخصيات دون حواجز أو انقطاعات. هذا المزج بين السرد الموضوعي والذاتي لا يجعله مجرد متفرج على الأحداث، بل يقحمه فيها، مشاركا في نبضها، مأخوذا بتفاصيلها.”

قراءة مغايرة للأحداث

يحمل عنوان الرواية “سيرة هشة ليوم عادي” خدعة مقصودة للقارئ، إذ يوحي بأنه أمام تأمل بسيط في تفاصيل يومية، بينما الواقع أبعد ما يكون عن البساطة. يشير الحجراوي إلى أن اليوم الذي ترصده الرواية ليس يوما عاديا على الإطلاق، بل يعج بالأحداث الغريبة والمفاجئة: من حضور الجن إلى جرائم القتل، ومن تحولات درامية صاخبة في مصائر الشخصيات، إلى ما يشبه الانقلابات الصامتة في الوعي والمصير.

لكن المفارقة، وفق الكاتب، أن السرد لا يُعامل هذه الوقائع على أنها استثنائية أو خارقة، بل يُقدمها ببرود الحياة نفسها، دون تمهيد أو مبالغة، وكأنها تفاصيل عادية ضمن سياق اليوم. لأنه في الواقع، لا تُطلق الحياة صفارات إنذار قبل الكوارث، ولا تأتي المآسي مصحوبة بمؤثرات درامية، بل تمر الأحداث الجليلة وسط الرتابة، وتندمج المصائب في مجرى اليوم وكأنها مجرد عارض عابر. من هنا تقوم فلسفة الرواية السردية على هذه الرؤية الواقعية: اللحظات الحاسمة لا تأتي معلنة، وأن ما يُظن يوما عاديا قد يكون نقطة التحول الأهم في الحياة، دون أن يُدرك الإنسان ذلك إلا لاحقا… وربما لا يدركه أبدا.

عالم خصب لم يكتشف بعد تقدمه الرواية بطريقة مختلفة عن الكتابة بعين السائح الذي يلتقط السطح فقط

يقول الحجراوي “أثناء الكتابة لا أستطيع أن أحدد مدى تأثري بأي من المجالات البحثية التي أعمل فيها بالحقل الأكاديمي سواء في النقد المسرحي أو الدراسات الشعبية، لكن كقارئ عادي للعمل ممكن أن أرى أن الرواية وظفت الأساطير والمعتقدات الشعبية لا بوصفها عناصر غرائبية أو مدهشة، بل كجزء من النسيج الحي للحياة اليومية في القرية. أفعال الجن، أو جرائم القتل، أو التحولات المفاجئة في المصير، لم تُقدم بوصفها لحظات درامية منفصلة عن السياق، بل كأحداث تنمو بهدوء داخل الواقع وتتماهى معه. وبهذا، تُقدم الرواية قراءة مغايرة للأحداث غير العادية، ولكن لا تحتفي بها كمحطات استثنائية.”

ويرى أن “سيرة هشة ليوم عادي” تختلف تماما عن تجربته الروائية السابقة في روايتيه “ما قبل الرحيل” و”هند”، متابعا “لم أشأ نشر هذين العملين؛ فالأول ربما لظروف المناخ السياسي الذي لم يكن يسمح بطرح عمل يتماهى مع الأجواء العامة، والثاني، رغم قربي من التوصل إلى اتفاق نشر، تراجعت عن هذا الأمر، بعد قراءتي لرواية ‘خلية النحل’. فقد شعرت حينها بحاجة إلى تقديم نفسي للقراء بأسلوب جديد، غير مألوف في السرد العربي، يحمل في طياته قدرا كبيرا من التجريب في الشكل والمضمون.”

ويقر بأن “سيرة هشة ليوم عادي” جاءت رغبة منه في استكشاف آفاق سردية مختلفة، تستجيب لنبض الحياة وتفاصيلها الهشة، بأسلوب يحاول أن يكون صوتا جديدا في المشهد الأدبي العربي. أما عمله القادم، فقد أطلق عليه اسما مبدئيا هو “الأمير حمد”. يعود إلى التاريخ المصري في جنوب مصر خلال القرنين السابع والثامن الهجريين، متتبعا سيرة أمير عربي حكم تلك الأرض. كانت له علاقات وثيقة بالقائد الشهير بيبرس، غير أن تلك العلاقات شهدت اضطرابات مع خلفاء بيبرس، حين حاول الأمير حمد استعادة الحكم العربي لمصر على حساب المماليك.

ويكشف الحجراوي أن “الأمير حمد” تروي قصة ثورة فاشلة، وتجمع بين الأبعاد السياسية والاجتماعية، وتسلط الضوء على فترة حاسمة من تاريخ الصعيد لم تحظ بالاهتمام الكافي في كتب التاريخ. استمد العمل مادته من مخطوطات أحفاد الأمير ومسار عائلته التي امتدت من شبه الجزيرة العربية إلى المغرب العربي، إلى أن استقرت في مصر، إبان نهاية العصر الأيوبي.

13