الخرافات والشعوذة تقاومان الذكاء الاصطناعي

أكبر معضلة أفرزت طبقات التفاهة والرداءة في المجتمع هي عملية التفريغ الممنهجة المطبقة عليه، حيث جرى تصحيره من الفواعل والآليات الضرورية.
الثلاثاء 2025/06/03
العودة بالمجتمع إلى قرون الخرافة والدجل

وضعت السلطة الوطنية المستقلة لضبط السمعي البصري إصبعها على نصف الجرح وتركت النصف الآخر ينزف، بعدما وجهت تحذيرا لقنوات تلفزية خاصة حول بث محتويات تروّج وتشجع على الشعوذة والخرافات، لكن كان بإمكان إصبعها أن يكون بلسما، لو تعمقت في الأسباب والمناخ الذي عاد بالمجتمع إلى قرون الخرافة والدجل.

الكل في الجزائر يعرف الظروف التي ولد فيها النشاط السمعي البصري، فتحْت إكراهات موجة الربيع العربي في 2011، وميلاد قنوات معارضة في الخارج، أذعنت السلطة للأمر الواقع وقررت فتح المجال أمام الاستثمار الخاص، ولأن الخطوة كانت عشوائية ومتسرعة فإن الجنين ولد مشوها، ولم يستطع بعد 14 عاما من الحياة أن يستوي أو يرتقي إلى مستوى قوة وخطورة الصورة والصوت في هذا العصر المجنون.

وهذا النوع من المحتويات الرديئة في الإعلام السمعي البصري الجزائري ليس وليد اليوم، أو مجرد سلوك شاذ بدر عن هذه القناة أو تلك، بل صار قاعدة معمولا بها، بحثا عن نسب مشاهدة لدى جمهور مستعد أو تم غسل مخه بالشعوذة والخرافات، فبات التيار يمر بسلاسة في الذهاب والإياب بين مصدر يرى في نفسه نجما ومُعينا لحل مشاكل الجزائر، وبين متلقّ مزهو بما يتلقاه من وصفات خارقة يقدمها مذيعون ومشعوذون لا فرق بينهما.

حذرت السلطة المختصة عددا من القنوات التي تستوي عندها رسائل التجهيل والتنوير أو لا تميز بينهما، والحقيقة أن كل المشهد بائس ومقرف، ولا يشرف بلدا يصدر إعلامييه ومهنييه إلى مختلف مؤسسات الإعلام في العالم، وكان حريا بالهيئة (السلطة الوطنية المستقلة لضبط السمعي البصري) أن تضع النقاط على الحروف، وتساهم إلى جانب الجهات الوصية في وضع معالم مشهد إعلامي محترم.

وزير الاتصال يُرغي ويزبد في مختلف خطاباته وخرجاته مع منتسبي القطاع، حول جبهة إعلامية موحدة، لمواجهة التحديات المحيطة بالبلاد، وبغض النظر عن وجاهة الفكرة والطرح، فإن أي مبادرة لا يمكن أن تقوم بقنوات الشعوذة والخرافات في زمن الذكاء الاصطناعي، ولا بركام من الصحف والمواقع التي لا يتعدى صوتها حدود الجدران التي تحرر فيها.

والحديث عن تحذير قنوات معينة بسبب محتوى رديء يتنافى مع روح العلم والتطور التكنولوجي الذي بلغه العالم، لا يعني أن الآخرين بخير، ولا يمكن أن يكون معزولا عن مشهد إعلامي عام تهيمن عليه الرداءة والبؤس، ما دام حملة تطوعية ظاهرها سلوك حضاري، وباطنها ألم يعتصر القلوب، على جزائر حلت كل مشاكلها ولم يبق برأي ذلك الإعلام وهؤلاء النجوم إلا تنقية المقابر من السحر.

وكان جدير بالنخب الرسمية والأكاديمية والفكرية، بما فيها الهيئة المذكورة، أن تسارع إلى دق أجراس الإنذار، بمجرد تجلي هذا التواطؤ على تكريس الانحطاط، أما أن يتم تحذير البعض وترك باقي الرداءة تسرح وتمرح، فلن يكون إلا مجرد مسكن لمرض يستشري في جسد المجتمع.

ففي نفس المشهد هناك من يسوق لمنتوجات وأدوية لا أصل ولا فصل لها، ولوجوه قفزت إلى الواجهة بدكاكين الرقية والأعشاب، وهناك من يملأ بثه ببرامج وأعمال مقرصنة، أو يزعج المشاهد بمحتويات مستوردة في الدين والطب المغشوش، ومع ذلك لا تصلهم أداة الحماية من خطرهم قبل أن تكون دورا رقابيا.

إن أكبر معضلة أفرزت طبقات التفاهة والرداءة في المجتمع هي عملية التفريغ الممنهجة المطبقة عليه، حيث جرى تصحيره من الفواعل والآليات الضرورية، فلم تعد هناك نخب ناشطة، ولا أحزاب منتجة للأفكار، ولا نقابات تدافع عن العمال، ولا جمعيات تناضل من أجل البديل، ولا موالاة سياسية قادرة على إقناع الشارع بطرح السلطة، ولا إعلام متمسك بدوره كسلطة رابعة، وليس كمنصة لتسويق الخرافات والشعوذة.

 

إقرأ أيضا:

       • السحر والشعوذة وصفة إعلامية جزائرية لجذب المشاهدين

18