الشعب السوري يريد الدولة

على مدى عقود، عانى الشعب السوري من الاستبداد والقهر الذي فرضته القوى الأمنية التابعة لحكم آل الأسد، حيث عملت السلطة على وأد أيّ مظاهر سياسية عبر تصحير المشهد السياسي، وقمع أيّ مطالب بالإصلاح، واستبدال السياسة بنشاطات حزبية شكلية فارغة من أيّ مضمون.
استخدمت السلطة إمكانيات الدولة العسكرية والمالية والقانونية والإدارية لسحق أيّ محاولة للتغيير، وربطت السياسة بالخيانة والعداء للوطن، كما صنعت طبقة من المسؤولين الوظيفيين الذين يشغلون المناصب السياسية دون أن يمارسوا السياسة فعليا.
آل الأسد، الذين سيطروا على الدولة دون رؤية واضحة للحكم، احتكروا السلطة وجعلوا الدولة مزرعة خاصة بهم، مستخدمين العنف والاستبداد المطلق ونفي أيّ طرف سياسي مختلف. لقد شوّهوا مفهوم الدولة عبر خطابات تبرر ممارساتهم القمعية بحجة الحفاظ على الوطن، ما خلق خلطا في وعي السوريين بين مفهوم الدولة والسلطة، فبات الكثيرون يرون أن السلطة هي الدولة، رغم أن الفرق بينهما جوهري.
الدولة تستند إلى الشعب، الأرض، والقانون، بينما السلطة متغيرة وزائلة، يُفترض أن تعمل وفق قوانين تشريعية تتيح للشعب الوصول إلى الحكم عبر ممارسات ديمقراطية. لكن في سوريا، انهارت السلطة في مواجهة الشعب الثائر، وأدى تفرد الحكم إلى انهيار مفهوم الدولة، حيث أُرهنت منظمات المجتمع المدني لهيمنة السلطة دون انتقادها، وأصبح منطق المصالح النفعية هو السائد.
بعد سقوط الأسد، بات ضروريا التفريق بين الدولة والسلطة، ومدى التأثير السلبي عندما تفرض السلطة سيطرتها المطلقة على الدولة وتستغل مواردها لصالح القوى الحاكمة. غير أن التصحر السياسي الذي عاشه السوريون جعل كثيرا منهم غير قادرين على التمييز بين المفهومين، حيث يرى البعض أن السلطة تمثل الدولة ذاتها، ما يخلق نظاما شموليا يضع مصالحه فوق مصالح الشعب والمجتمع.
على مدى عقود، كان الخوف من القبضة الأمنية يجعل السوريين يرون الدولة كعدوّ، حيث شعروا وكأنهم موظفون لديها، وليسوا مواطنين. جاءت الثورة السورية لاسترداد الدولة من قبضة العصابة الحاكمة، لكن انهيار النظام أدى إلى ظهور الطائفية والعشائرية والعرقية، حيث برز زعماء الطوائف كوسطاء بين الشعب وسلطات الأمر الواقع، ما زاد نفوذهم على حساب دور الدولة.
نتيجة لذلك، فقد السوريون انتماءهم إلى الوطن، وبدأت الطائفة والعشيرة والعرق تحلّ محل الدولة، حيث باتت توفر احتياجاتهم في ظل غياب السلطة الحقيقية التي يُفترض أن تعمل وفق قواعد العدالة والمساواة. من هنا، يجب على السوريين إدراك أن الولاء للوطن وبناء الدولة يجب أن يكون قيمة ثابتة ومتجذرة، بينما الولاء للطائفة أو الجماعة يجب أن يكون محدودا ولا يطغى على الانتماء الوطني.
◙ في سوريا، انهارت السلطة في مواجهة الشعب الثائر، وأدى تفرد الحكم إلى انهيار مفهوم الدولة، حيث أُرهنت منظمات المجتمع المدني لهيمنة السلطة دون انتقادها
لا ينبغي أن يكون الولاء لطائفة أو جماعة على حساب الدولة، لأن ذلك يؤدي إلى فوضى تهدد الجميع. يجب احترام الطوائف والعشائر والأحزاب، لكن يجب أن يكون الولاء للوطن فوق كل الولاءات لضمان الأمن والاستقرار بعيدا عن التعصب والانحياز الأعمى.
على مدى سنوات، كان السوريون خاضعين لحكم جماعة استبدادية، لا تهتم بالوطن وأهله، بل تسعى إلى السيطرة بدلا من البناء، حيث اعتبرت البلد غنيمة لها، وليس مشروعا وطنيا جامعا. جعلت الجهل ثقافة، وحاربت المفكرين، وسجنت المعارضين، واستخدمت الإعلام للخداع، والاقتصاد لفائدة المقربين منها، وحوّلت القانون إلى أداة لحماية مصالحها.
لقد جعل نظام الأسد الحقوق الأساسية للمواطنين رفاهية، ولم يهتم بفقر الشعب أو معاناته، واستخدم القبضة الأمنية والخوف كأدوات للحكم، حيث حوّل الجيش إلى ميليشيا تحمي السلطة، وليس الوطن. لقد رسّخ الولاء للسلطة بدلا من الدولة، ما زاد من الصراعات الطائفية والعرقية والمذهبية والعشائرية.
أما في سوريا الجديدة، فإن السوريين يسعون اليوم إلى حكم عقلية الدولة، التي تقوم على تحسين حياتهم، وتطوير التعليم، وبناء اقتصاد قوي، وجعل القانون فوق الجميع، وحماية الحريات، وتوفير الأمن، والحفاظ على سيادة البلد، كما يسعون إلى تأسيس جيش وطني ولاؤه للوطن وليس لأشخاص أو جماعات.
الدولة الجديدة يجب أن تكون منفتحة على العالم، وتقيم علاقاتها وفق المصالح المشتركة، وتتيح لكل المواطنين المشاركة في صياغة السياسة الوطنية. لكن التحدي الأكبر أمام سوريا الجديدة هو أن سلطة الأسد أورثت البلاد دولة متهالكة في جميع المجالات، حيث غاب مفهوم الدولة، واستغلت القوى الإقليمية والدولية هذا الفراغ لابتزاز السلطة، وتحويل سوريا إلى ساحة صراعات.
اليوم، تسعى بعض الفئات والعرقيات إلى إقامة مناطق مستقلة عن الدولة، وترى نفسها كيانات قائمة بذاتها، بينما الدولة تهدف إلى جمع شمل جميع السوريين تحت مظلة واحدة، لأن الدولة ليست ملكا لطائفة أو جماعة، بل لكل المواطنين، وهي مبدأ وحدة المجتمع وقوة الشعب بأكمله.
لقد كان الهدف الأساسي للثورة السورية إسقاط السلطة المستبدة وبناء دولة عادلة، لكن تحقيق ذلك يتطلب تحديد الظالم الذي دمّر الدولة ومحاسبته، واستعادة الحقوق لأصحابها، ورسم ملامح المستقبل.
وكما قال الشاعر "الضدّ يُظهر حسنه الضدّ،" فإن حلاوة الدولة الجديدة ستظهر عندما تستوعب السلطة الجديدة دروس الماضي المرير. إن بناء دولة حقيقية في سوريا يتطلب قطع العلاقة بين السلطة المطلقة واستغلال الدولة لمصلحة الحاكم، حتى لا يُعاد إنتاج نفس الأنظمة الاستبدادية التي حكمت البلاد لعقود. كما قال الفيلسوف شوبنهاور "الدولة هي اللجام الذي يهدف إلى منع عدوانية الحيوان الضاري."