دار "العرب" ومسؤولية الاستمرار

 في عالم الصحافة، لا يمكن التوقف ولو للحظة، لأن الاستراحة تعني فقدان القدرة على التأثير والتطور.
الخميس 2025/05/29
سنواصل التكيف مع المستقبل

لطالما كانت الصحافة بالنسبة إليّ أكثر من مجرد مهنة، إنها رسالة ومسؤولية تتطلب الشجاعة، الاستقلالية، والقدرة على التكيف مع المتغيرات المتسارعة في عالم الإعلام. حين أطلق والدي، أحمد الصالحين الهوني، صحيفة “العرب” عام 1977 في لندن، كان يدرك أنه يؤسس لمنبر إعلامي حر، قادر على تقديم الحقيقة بعيدًا عن ضغوط الأنظمة وسياسات الرقابة. أراد أن تكون “العرب” مساحة للفكر المستقل، مفتوحة لكل الأصوات التي تسعى إلى المساهمة في تشكيل الوعي العربي بعيدًا عن الخطابات الدعائية.

ورغم كل التحديات السياسية والمالية، ظلت الصحيفة صامدة. وعندما رحل والدي عام 2006، كانت مسؤولية مواصلة هذه المسيرة كبيرة، لكنها لم تكن مسؤولية فردية. عملت إلى جانب الدكتور هيثم الزبيدي، الذي كان شريكًا في قيادة المؤسسة، وصاحب رؤية متجددة في تطوير دار “العرب”، وإدخالها إلى العصر الرقمي، دون أن تفقد جوهرها الصحفي أو استقلاليتها التحريرية.

لم تكن “العرب” مجرد صحيفة، بل كانت مركزًا لتدريب وإعداد الصحافيين الشباب، الذين انتقلوا لاحقًا لشغل مواقع إعلامية بارزة في العالم العربي، من الخليج إلى المحيط. كان والدي يؤمن بأن الصحافة تحتاج إلى أجيال متعاقبة من الإعلاميين القادرين على حمل رسالتها بوعي ومسؤولية، ولهذا كانت الصحيفة تفتح أبوابها دائمًا أمام القادمين الجدد، تتيح لهم الفرصة للتعلم، التدريب، وصقل مهاراتهم الصحفية في بيئة مهنية تركز على الجودة والاستقلالية.

لا يمكننا الاستمرار إذا تمسكنا بأسلوب الصحافة التقليدية فقط. يجب أن نركز على التحليل العميق، الصحافة الاستقصائية، وإنتاج محتوى مرئي ومسموع

لم تكن الصحيفة تبخل عليهم بالدعم، بل كانت ترى في نجاحهم انعكاسًا لنجاحها. لم يكن انتقالهم إلى مؤسسات أخرى يُنظر إليه كخسارة، بل كامتداد طبيعي لمسيرتها الإعلامية، حيث كانت تفخر بمن تخرجوا من بين صفوفها، وترى في إنجازاتهم دليلاً على أن الصحافة العربية يمكن أن تنهض إذا استثمرت في الكفاءات الجديدة.

واليوم، ومع التحولات المتسارعة التي يشهدها عالم الإعلام بفعل التكنولوجيا الرقمية والذكاء الاصطناعي، أصبح هذا النهج أكثر أهمية من أيّ وقت مضى. يجب أن نستثمر في المواهب الصحفية الشابة، وندرك أن الصحافة الحديثة لم تعد تعتمد فقط على الكتابة التقليدية، بل تتطلب مهارات جديدة في تحليل البيانات، إنتاج المحتوى المرئي، والتفاعل مع الجمهور عبر المنصات الإلكترونية.

في عالم الصحافة، لا يمكن التوقف ولو للحظة، لأن الاستراحة تعني فقدان القدرة على التأثير والتطور. هذا ما كنت مؤمنًا به دائمًا، وما ناقشته مرارًا مع هيثم الزبيدي خلال سنوات العمل المشترك. لقد واجهنا معًا تحولات غير مسبوقة، ليس فقط بسبب انتشار الإنترنت، بل بسبب ثورة الإعلام الرقمي التي غيرت طريقة استهلاك المحتوى، وجعلت الصحافة التقليدية أمام اختبار حقيقي للبقاء.

كنا ندرك أن الصحافة الورقية وحدها لم تعد كافية، وأن الانتقال إلى الصحافة الرقمية هو ضرورة وليس خيارًا، وهو ما دفعنا إلى تعزيز حضور “العرب” عبر الإنترنت، وتوسيع نطاق محتواها ليشمل التحليل العميق، والمواد متعددة الوسائط، التي تناسب الجمهور الجديد الباحث عن المعرفة بأساليب حديثة.

الآن، مع رحيل هيثم الزبيدي في17 مايو 2025، وما شكله من خسارة، فإن المؤسسة تواجه تحديًا جديدًا، لكنه ليس بالأمر الجديد علينا. كما استمرت “العرب” بعد رحيل والدي، ستظل مستمرة اليوم، لأن ما تركه المؤسسون ليس مجرد صحيفة، بل فكر إعلامي راسخ قادر على إعادة تشكيل نفسه وفق ضرورات العصر.

كيف سنواصل المسيرة؟

لم تكن "العرب" مجرد صحيفة، بل كانت مركزًا لتدريب وإعداد الصحافيين الشباب، الذين انتقلوا لاحقًا لشغل مواقع إعلامية بارزة

ندرك في صحيفة “العرب” أن العالم الإعلامي يتغير بسرعة، والتقنيات الجديدة مثل الذكاء الاصطناعي لم تعد مجرد أدوات، بل أصبحت جزءًا من صياغة المحتوى الإعلامي. علينا أن نواكب هذا التحول، ونستغل الذكاء الاصطناعي في تحليل البيانات، تقديم محتوى مخصص للقراء، وتحسين تجربة المستخدم على منصاتنا الرقمية.

لا يمكننا الاستمرار إذا تمسكنا بأسلوب الصحافة التقليدية فقط. يجب أن نركز على التحليل العميق، الصحافة الاستقصائية، وإنتاج محتوى مرئي ومسموع يتناسب مع أساليب متابعة الأخبار الحديثة.

وفي هذا كله لن نحيد عن الخط التحريري العقلاني الذي أراده والدي وأراده الدكتور هيثم الزبيدي، بعيدًا عن النزعات الشعبوية أو الخطابات المتطرفة.

نحن ملتزمون بتقديم محتوى يراعي تعددية الفكر العربي، ويتناول قضاياه من منظور جاد ومستقل. واستقطاب المواهب الصحفية الشابة والابتكار في الصحافة الإلكترونية. فنحن نعلم أن لا استمرار دون ضخ دماء جديدة في المؤسسة. علينا جذب الصحافيين الشباب، وتوفير بيئة عمل تدعم الإبداع، وتسمح لهم بإنتاج محتوى يواكب تطلعات الأجيال الجديدة.

رحيل هيثم الزبيدي ترك أثرًا كبيرًا، لكن كما قال والدي يومًا، المؤسسات العريقة لا ترتبط بأشخاص، بل برؤية تبقى حية ما دام هناك من يحملها إلى الأمام. دار “العرب” ليست صحيفة فقط، بل مشروع ثقافي وإعلامي، مستمر في تقديم المعرفة بصدق واستقلالية.

إنني، اليوم، أتعهد بالمضي قدمًا على ذات النهج، وأدرك أن التوقف ولو للاستراحة يعني فقدان القدرة على التأثير والتطور. لذلك، كما تجاوزنا الأزمات السابقة، سنواصل التكيف مع المستقبل، وسنحافظ على موقع “العرب” كواحدة من المنابر الإعلامية المستقلة الأكثر تأثيرًا في الساحة العربية والدولية.

رحم الله الراحلين، ولتظل دار “العرب” منارةً للفكر الحر، ومنبرًا للصحافة الواعية والمستقلة.

1