الجزائر: في ضرورة منطق جديد تحكمه المصالح

المناخ السياسي والأيديولوجي الذي هيمن على العالم في القرن الماضي ليس هو المناخ السائد حاليا، وإذا كانت الجزائر قبلة الثوار والأحرار في عقود مضت فإن لغة العالم تغيرت الآن.
الخميس 2025/05/29
المطلوب مراجعة جادة للأوراق

أن يحترم المرء قانون الطبيعة، فإن الجمود هو ضياع الفرصة. وأن تحترم المجتمعات ناموس الطبيعة البشرية، فإن عدم التقدم هو تأخر. وأن تحترم الدول القواعد الجيوسياسية والإستراتيجية، فالعالم ليس جمعية خيرية، وإنما مجموعة مصالح قد تتوافق كما قد تتقاطع، والعبرة في من فهم سيرورة التحولات واستشراف المستقبل.

في معيار الجيوبوليتيك، هناك ضرائب يتوجب تحمل تبعاتها؛ فأن يكون بلد معزولًا في زاوية من الجغرافيا، وبعيدًا عن ممرات صناعة القرار الإقليمي والدولي، ليس كأن يكون بلدًا يتوسط قارة، ومساحته شبه قارة، ويتقاسم حدودًا مع ست دول. دون تعداد باقي المقومات، فإن هذا وحده كافٍ للدلالة على حجم الضريبة التي تثقل كاهله من أجل مكانة أو صفة أو مقام.

الحديث هنا عن الجزائر؛ فمجرد نظرة بسيطة على خريطة القارة الأفريقية تكفي لاستنباط استنتاجات سريعة، توحي بأن الانطباع الأولي حول هذا البلد يبرز ارتفاع سقف التحديات بحجم المكاسب والمقومات، وأن المسؤولية ستكون ثقيلة على كاهل أي نخبة تقود البلاد. فكما يمكن أن تكون قاطرةً لجرّ المنطقة، يمكن أيضًا أن تكون هدفًا لتثبيط دورها ومكانتها.

◄ لم يكن أي ضابط أو فصيل أو تنظيم يجرؤ على التحرك خارج عيون الجزائر، فلا انقلاب ولا تغيير سياسيا ولا قرار إستراتيجيا إلا بعلمها ومشورتها

لكن الخطاب المتداول في السنوات الأخيرة يبدو أنه أفرط في بكائيات المؤامرة والاستهداف، ويكاد يتحول إلى نقطة ضعف تنمّ عن قصور في فهم وتحليل التحولات المتسارعة في المنطقة والعالم. فالقيم السياسية والإنسانية التي تحررت بها ولأجلها الجزائر، لم تعد مرجعيةً يُستلهم منها.

العالم، من أقصاه إلى أقصاه، والمجموعة الدولية، والتنظيمات والمؤسسات العالمية، تجمع كلها على قيم الحرية والعدالة وحقوق الإنسان والديمقراطية. لكن لا أحد وضع إسرائيل عند حدها أو أقنعها بوقف التقتيل والتدمير الذي تنفذه في قطاع غزة. وتلك رسالة تؤكد أن لعبة ما خلف الستار أو تحت الطاولة هي التي ترجح الكفة، وليس لغة الشعارات والخطب المرددة في المنابر.

لا يختلف اثنان على أن الرياح لن تتوقف عن تحريك حبيبات الرمل إلى أشكال ولوحات متجددة، وكذلك سيرورة العالم لن تتوقف عند نقطة معينة أو تثبت على مسار محدد. فمن اعتقد أنه انزاح جانبًا لأخذ قسط من الراحة، سيكون قد تأخر عن مواكبة باقي السائرين. والنزول من القطار لا يعني نهاية الرحلة، فهناك ركاب جدد يريدون خوض شغف اللعبة.

ومن اعتقد أنه أضفى على الرحلة شيئًا من ألوانه ولوحاته، لتكون جزءًا من الديكور الأزلي للقطار، فهو مخطئ؛ لأن الاعتراف بجمالية اللون واللوحة لا يعني أن الأذواق والأمزجة واحدة. وكذلك العالم اليوم، فموروث حربين عالميتين مدمرتين، وحرب باردة منهكة، وحركات تحرر دامية لإسقاط موجة استعمار واسعة، يكاد يتلاشى أمام قيم وقواعد جديدة قائمة على القوة الناعمة كنمط حياة وقاعدة لإدارة الشأن العام الإقليمي والدولي.

المناخ السياسي والأيديولوجي الذي هيمن على العالم في القرن الماضي، ليس هو المناخ السائد الآن. وإذا كانت حركات التحرر آنذاك وسامًا تُرصَّع به صدور الدول المستقلة، وإذا كانت الجزائر قبلة الثوار والأحرار في عقود مضت، فإن لغة العالم قد تغيرت اليوم، ولم يستطع بيمينه ويساره ووسطه، وقف الحرب الإسرائيلية المدمرة في قطاع غزة.

والجزائر، الفخورة بتاريخها النضالي، لم تصل بعد إلى النقطة الفاصلة بين أدبيات إنسانية كانت أحد صناعها، وبين منطق جديد تحكمه المصالح والقوة الناعمة. وإلا لما حولت التحولات المتسارعة في محيطها إلى مرثية للتشكي من التآمر والاستهداف، أو التوجس من سلوك صادم كشفه أولئك الذين سُلم بوفائهم لأمجاد الماضي الإستراتيجي والجيوسياسي، في حين أنهم قطعوا أشواطًا في التغيير والتحول والمواكبة، بينما بقيت الجزائر وفية لخطاب متقادم.

ويبدو أنه لم يبقَ صالحًا من حقبة المجد التقليدي إلا قاعدة: “لا صداقة دائمة، ولا عداوة دائمة، هناك مصالح مشتركة.” وهو المبدأ الذي ينقص مسار الجزائر، لتخرج من حنين الماضي إلى واقعية الحاضر، والقبول بقواعد لعبة القوة الناعمة. وقبل الحديث عن تهديد مصالح أو مخططات معادية، تتوجب الجرأة في تحمل مسؤولية الفراغ الذي ملأه الآخرون.

◄ أن تحترم الدول القواعد الجيوسياسية والإستراتيجية، فالعالم ليس جمعية خيرية، وإنما مجموعة مصالح قد تتوافق كما قد تتقاطع

أن يتم في كل مرة تعليق شماعة الفشل على نظرية المؤامرة، وتبرير القصور في تقدير المواقف والتحولات، فذاك في حد ذاته مؤامرة على البلاد. لأن العالم، بقيادة الولايات المتحدة، يسير نحو حقبة جديدة، خالية من الحروب المسلحة، لكنها ستكون حروبًا اقتصادية وتجارية ضارية. ولذلك فإن العبرة تكمن في امتلاك أدوات وآليات القوة الناعمة، وما أكثرها في الجزائر لو أُحسن توظيفها.

لا بد من التسليم بأن الطبيعة تأبى الفراغ، وأن من الضروري القيام بمراجعة جادة للأوراق. فإلى غاية عام 2015، كانت الجزائر تملك أدوات مراقبة واستشراف التحولات الداخلية، ليس فقط في منطقة الساحل، بل حتى في جنوب الصحراء. لكن التجاذبات الداخلية والمصالح الضيقة ضيّعت على البلاد أولوية صناعة ومراقبة النسيج السياسي والاجتماعي في المنطقة.

وحين انسحبت بسذاجة من هناك، تحت بريق الضفة الشمالية اللامع، وبالتسليم الخاطئ بوصاية العقيدة التاريخية، فقدت أوراقها تدريجيًا، ولم تستفق إلا على وقع وافدين جدد إلى المنطقة، وهم من يمتلكون ناصية القوة الاقتصادية والمالية والعسكرية، خلف حكومات لا تملك الشرعية السياسية والشعبية، لكنها تملك أدوات إعادة رسم الخارطة الجيوسياسية، بدعم من قوى تبحث عن مصالح، وليس عن بطاقة انخراط في الاتحاد الأفريقي أو الأمم المتحدة.

لم يكن أي ضابط أو فصيل أو تنظيم يجرؤ على التحرك خارج عيون الجزائر، فلا انقلاب ولا تغيير سياسيا ولا قرار إستراتيجيا إلا بعلمها ومشورتها. لكن تجاهل تحول المجتمعات والنخب وحركية قواعد النفوذ، أدى إلى توقف أفضى إلى تخلف وفراغ ملأته قوى جديدة. لذلك فإن المؤامرة بدأت هنا، قبل أن تظهر هناك.

9