مصر تنسف منظومة التعليم القديمة لتبني جسورا نحو سوق العمل

المهارة الرقمية: جيل جديد من المدارس وخريجون بوظائف مضمونة.
الخميس 2025/05/29
الكمبيوتر بديل الدفتر

في خطوة إصلاحية غير مسبوقة تتحرك الحكومة المصرية لهدم منظومة التعليم التقليدي واستبدالها بنظام حديث يرتبط بسوق العمل، عبر تعديل تشريعات عمرها عقود. وتهدف الخطة إلى تقليص البطالة، وتطوير المهارات، وبناء جيل مؤهل لمهن المستقبل، في إطار دعم رئاسي وبرلماني شامل لتغيير قواعد المجال التعليمي.

القاهرة - يؤكد توجه الحكومة المصرية نحو نسف ميراث قديم لمنظومة التعليم واستحداث أخرى يرتبط خريجوها بسوق العمل، وجود إصرار رسمي على غلق ثغرات تؤدي لانتشار البطالة بين الشباب، ويقود هذا الاتجاه إلى ضرب أكثر من عصفور بحجر واحد، حيث تتم تقوية الاقتصاد، وزيادة معدل التنمية، والحد من إهدار الموارد البشرية، ومواكبة المستقبل بعيدا عن أنظمة التعليم التقليدية.

ولأول مرة منذ سنوات، قررت الحكومة تعديل ثماني عشرة مادة دفعة واحدة في قانون التعليم المطبق منذ أكثر من أربعة عقود، بعد أن كانت تلك النصوص عقبة في سبيل إقرار منظومة تعليمية عصرية تفضي إلى خفض معدل البطالة واستحداث تخصصات دراسية يحتاجها سوق العمل بشكل حقيقي، بعيدا عن تخصصات قديمة تسببت في وجود فجوة شاسعة بين الوظيفة وكفاءة الخريج.

وتحظى خطة نسف النظام الحالي في التعليم العام والفني بدعم رئاسي وحكومي وبرلماني غير محدود، لأن المنظومة تتضمن مسارات تعليمية وتخصصات ومناهج عفا عليها الزمن، بالتزامن مع توجه الحكومة نحو الاهتمام بالشقين التنموي والاقتصادي، ورأت أن نسف المنظومة القديمة يقدم خريجين يواكبون هذا التوجه على الأرض ويُخفّض معدلات البطالة.

واتُّهمت الحكومة السابقة بأنها سبب رئيسي في ما آلت إليه أوضاع البطالة في البلاد، لأنها خططت للربط بين نظام التعليم وسوق العمل بشكل عشوائي وتحركت في تحديث المنظومة التعليمية بلا رؤية، ما ترتب عليه استمرار تقديم مئات الآلاف من الخريجين سنويا ينضمون إلى طوابير البطالة، مع أنها تتوسع في مشروعات تنموية وقومية كبرى منذ سنوات، وظلت البطالة كما هي.

فتح خزائن الدولة

محب الرافعي: التخصصات العصرية تزيد معدلات التنمية وتقوي دعائم الاقتصاد وتفتح أبواب الاستثمارات المحلية والأجنبية
محب الرافعي: التخصصات العصرية تزيد معدلات التنمية وتقوي دعائم الاقتصاد وتفتح أبواب الاستثمارات المحلية والأجنبية

نجح وزير التربية والتعليم محمد عبداللطيف في إقناع الحكومة ومجلس النواب مؤخرا بالتخلي عن المخاوف المرتبطة بنسف المنظومة التعليمية القديمة، والابتعاد عن التقشف وفتح خزائن الدولة للتعامل بشكل جاد مع الميراث القديم المرتبط بعجز المعلمين وبناء وصيانة المدارس وخفض عدد مواد الثانوية العامة واستحداث أخرى معاصرة، بالتوازي مع تغيير شكل التعليم الفني من الجذور.

وقوبلت وزارة التعليم بتحفظات شعبية ارتبطت بأن شريحة من المصريين ترتاح للوضع الراهن، حيث يخدم تطلعاتها في استغلال التعليم كهدف لتحقيق الحصول على شهادة جامعية، لكن الوزارة تمسّكت بموقفها وقرّرت تمرير رؤيتها من خلال موافقة الحكومة على الخطة، في توجه يتناقض بشكل واضح مع ما كانت تتعامل به حكومات سابقة بأن تُجمّد أيّ خطوة طالما يرفضها الشارع.

وقررت وزارة التعليم التوسع في الاستعانة بالمستثمرين ورجال الصناعة والشركات الكبرى، المحلية والعربية والأوروبية، في اختيار التخصصات الفنية ووضع المناهج الجديدة، لأنهم أجدر بمعرفة احتياجات سوق العمل، لتكون المناهج والتخصصات مواكبة لمتطلبات التوظيف، بمعنى أن يكون أيّ تخصص جديد يساوي فرصة عمل، أو مدرسة برمّتها تابعة لقطاع صناعي بعينه.

وتعتمد المنظومة الجديدة للتعليم الفني على تغيير النظرة المجتمعية للطالب الفني الذي لا يزال يُعامل كخريج من الدرجة الثانية، حتى تقرر أن تكون جميع المدارس الفنية تكنولوجية تؤهل إلى جامعات متقدمة تخدم ذات التخصص العصري الذي درسه الطالب.

وسوف يتم إشراك رجال الصناعة والكيانات الاقتصادية الكبرى المحلية والأجنبية في إدارة وتشغيل واختيار تخصصات المدارس الفنية، ما يجعل الطالب مؤهلا بشكل كامل لسوق العمل، طالما أنه درس التخصص المطلوب، واكتسب خبرات تكفي لأن يتخرج على الوظيفة مباشرة.

عصرنة التخصصات

زمن القلم والقرطاس

قال وزير التربية والتعليم الأسبق وعضو مجلس الشيوخ محب الرافعي إن عصرنة التخصصات التعليمية السبيل الأمثل للقضاء على البطالة، لأن سوق العمل لم يعد يحتاج إلى مهارات تقليدية يكتسبها الخريجون من تخصصات قديمة، وما تفعله الحكومة بداية منطقية لمحاصرة عداد البطالة بنسف نمطية التعلم على مستوى المناهج والتخصصات واستحداث أساليب وطرق حديثة تلبّي متطلبات التوظيف.

وأضاف في تصريح لـ”العرب”أن مواكبة سوق العمل تعليميا في حاجة إلى جرأة، لأن هناك شريحة في المجتمع تخشى التغيير، ونسبة من الشباب يميلون إلى التخصصات التقليدية خوفا من تجربة نظام عصري، وفي النهاية تكون المحصلة وجود شاب (أو فتاة) ليس متعلما ويفتقد مهارات سوق العمل، ما يترتب عليه ارتفاع في معدلات البطالة، وما حدث مؤخرا يمكن البناء عليه لتوظيف كل الخريجين.

وظلت خطة التوسع في التخصصات العصرية تصطدم بثقافة أسرية متحجرة مرتبطة بالوجاهة الاجتماعية للعائلة، بغض النظر عن أن التخصص سوف يؤهل الطالب لوظيفة من عدمه، وهي إشكالية قررت معها الحكومة أن تكون جميع التخصصات الدراسية في التعليمين، العام والفني، معاصرة، بعيدا عن الاستسلام المجتمعي للتقليد الأعمى، بحيث إذا التحق الطالب بأيّ تخصص يجد الوظيفة.

وألغت الحكومة جميع المناهج القديمة والتخصصات التي كانت تخاطب الماضي وبعضها مرّت عليه مئة عام، ولم يعد هناك مجال أمام الأسرة أن تختار تخصصا تقليديا، كما أن طبيعة الدراسة نفسها تغيرت وصارت أقرب إلى فترة تأهيل لمتطلبات المستقبل، بالالتحاق بجامعة تكنولوجية عصرية أو وظيفة عمل مباشرة، أو الانخراط ضمن نظام بكالوريا حديث معترف به دوليا.

ومن شأن التغير الحاصل أن يكون خريج أيّ مدرسة مصرية بحوزته رخصة مزاولة المهنة في التخصص الذي درسه، لأن جميع المسارات عصرية، ثم إن المستثمر أو صاحب الصناعة هو من يقوم بالتقييم والتأهيل وإعداد الخريج للوظيفة بالكفاءة والمهارة والخبرة التي يحتاجها السوق، أي أن الطالب أمامه أكثر من فرصة، إما التوظيف المباشر أو اكتساب المزيد من الخبرات في الجامعة.

ولدى الحكومة المصرية عدد كبير من الجامعات التكنولوجية، لكن المشكلة كانت في تقليدية التخصصات المدرسية نفسها، ومع تطبيق المنظومة الجديدة سيكون متاحا لكل طالب يملك مهارات فنية وعلمية الالتحاق بكليات تكنولوجية بالجامعات المختلفة، على غرار ما هو متبع في ألمانيا واليابان، ويحصل الطالب على درجة الماجستير وربما الدكتوراه في التخصص الفني.

ما يطلبه المستثمرون

التكنولوجيا هي المفتاح
التكنولوجيا هي المفتاح

يرى متابعون أن أكثر ما يميز خطة القضاء على التشريعات القديمة المرتبطة بسوق العمل أن وزارة التعليم متاح أمامها فتح التخصصات المعاصرة بطريقة “ما يطلبه المستثمرون”، ما يقضي على عشوائية التعلُّم ويغلق ثغرة للبطالة، والأهم أن الحكومة أعلنت الخطة بطريقة تبدو أنها خطة دولة وليست خاصة بوزارة التعليم فقط، أي أنها ليست مرتبطة بالأشخاص، سوف تستمر مهما تغيرت الحكومة بمختلف مسؤوليها.

وجزء من المشكلة أن التطوير في تخصصات التعليم الجامعي مرتبط بتحديث وعصرنة المناهج في المدارس، وهناك كليات للذكاء الاصطناعي وعلوم البيانات، دون أن تكون مناهج المرحلة الثانوية (البكالوريا) تواكب الحداثة، وهو ما دفع الحكومة نحو تسريع تطبيق مقترح وزير التعليم بتحديث نظام الثانوية ليكون مواكبا للعصر، ويخدم الكليات المستقبلية ويقضي على التخصصات النمطية.

ويقوم نظام البكالوريا على خفض عدد المواد وتنوع المسارات أمام الطالب، فهناك الطب والهندسة وإدارة الأعمال والفنون والآداب، ويتفرع من كل مسار مواد تخصصية تؤهل إلى كليات متقدمة حسب احتياجات سوق العمل الحالي والمستقبلي، مع منح الطالب أكثر من فرصة للمحاولة في سياق الامتحانات، كما هو مطبق في الشهادات الدولية، وفوّضت الحكومة وزير التعليم باستحداث مسارات مستقبلية وفق متطلبات المرحلة، بعيدا عن رهن التطوير بموافقات برلمانية معقدة.

ووفق تصريحات وزير التربية والتعليم محمد عبداللطيف فإن شهادة البكالوريا المصرية تعتمد على تنمية المهارات الفكرية والنقدية، وهذا من صميم متطلبات سوق العمل الدولي، لأن الحفظ والتلقين لم يعودا مناسبين للغة العصر، كما أن جميع المسارات والتخصصات في البكالوريا المصرية تتوافق مع نظم التعليم العالمية، وثمة إصرار مصري على أن يكون نظام التعليم مواكبا لكل ما هو دولي.

وارتكنت وزارة التعليم في تغيير نظامي الدراسة والتخصص والمسارات بمرحلتي البكالوريا والشهادة الفنية، إلاّ أن الكثير من الدراسات أكدت أن سوق العمل للدولي سيشهد تحولات جذرية تشبه الغربلة للتخصصات الوظيفية التي تشبعت بالخريجين لصالح مهن وتخصصات معاصرة، ما يستدعي على وجه السرعة هدم كل المسلمات التي يتعايش معها المجتمع في الوقت الحالي.

وأكدت دراسات دولية أن قرابة 85 في المئة من المهن الموجودة سوف تختفي بحلول عام 2030، وهناك مهن حالية قد تستمر في المستقبل لكنها ستعرف تغييرات كبيرة للتأقلم مع الواقع الذي يسود في حينه، وهي إشكالية لا يستوعبها الكثير من الشباب وأسرهم، ويتعاملون مع أيّ تغيير مرتبط بالتخصصات التي تقرها الحكومة بريبة.

ولفت وزير التعليم السابق محب الرافعي في حديثه لـ”العرب” إلى أن التخصصات العصرية تزيد معدلات التنمية وتقوي دعائم الاقتصاد وتفتح أبواب الاستثمارات المحلية والأجنبية، والميزة أن الحكومة قررت التوسع في الشراكة التعليمية مع أصحاب الأعمال لتحديد المهارات التي يتطلبها سوق العمل وأبجديات التوظيف، متوقعا ارتفاع معدل التوظيف في مصر وزيادته بشكل قياسي بسبب التغيرات الجديدة.

أزمة هيكلية

العلم مفتاح النجاح
العلم مفتاح النجاح

أزمة الكثير من الشباب في المجتمعات العربية أنهم لا يجيدون قراءة المشهد والمستقبل ولا يهتمون غالبا بالتحولات العالمية المتسارعة على مستوى الثورة التكنولوجية، وإن قرأ بعضهم وأصبح على دراية قد لا يكون طموحا ليتعلم أو يتخصص في مجال معاصر يؤهله ليصبح أداة لتغيير ذاته ومجتمعه.

ويفرض هذا التحدي في مصر، مواكبة التطورات المعاصرة بافتتاح أقسام وتخصصات علمية حديثة، وإيقاف استقبال طلاب جدد بالتخصصات غير الموجودة في سوق العمل، إذ لا يمكن إلقاء المسؤولية على الشباب وحده وأنه متخاذل، وتوجد مؤسسات تساير المجتمع بالأمر الواقع، بذريعة أن الناس هي من ترفض التغيير، لأن التطوير هنا يجب أن يكون بسياسة الأمر الواقع.

وتخطط مصر لتكون طوابير خريجي الجامعات مؤهلة لمهن جديدة مثل: المدربون في المعاملات التجارية والطباعة ثلاثية الأبعاد، والمدربون على الواقع الافتراضي والتقنيين في المنازل الذكية، والمتخصصون في الجينات، والمطورون في البيئات الافتراضية، والمهندسون في الذكاء الاصطناعي.

ويتطلب تغيير أولويات الشباب ونظرتهم إلى التعليم وسوق العمل إقناعهم بمزايا التخصصات الحديثة، وهناك معضلة مرتبطة بصعوبة إقناع ولي الأمر الذي تربى ونشأ على تقديس كلمة طبيب أو مهندس بأن الأفضل لابنه أو بنته الالتحاق بكلية “تكنولوجيا تربية الأسماك” أو “الذكاء الاصطناعي”، ولن تنجح الحكومة دون ظهير مجتمعي يدعم حصار بطالة الخريجيين بالتناغم مع لغة العصر.

وأكد محب الرافعي، وهو أيضا عضو لجنة التعليم في مجلس الشيوخ ، ضرورة مسايرة التخصصات الجامعية لخطط وزارة التعليم في التخصصات والمناهج ، مع تطبيق فكرة الإرشاد الأكاديمي في المدارس لتوعية الطلاب وأولياء الأمور بمزايا التخصصات الحديثة.

ويوجد شباب طموح وشغوف بلغة العصر، لكنه لا يعرف الطريق الصحيح، أو تتدخل الأسرة في اختياراته التعليمية بالتوازي مع ارتفاع معدلات الأمية المجتمعية، ما يفرض على المؤسسات التعليمية التدخل بشكل إرشادي توعوي لتكريس ثقافة الإقبال على التخصصات المعاصرة، كحل سريع للحد من البطالة في مصر.

كما أن تكريس التخصصات التعليمية العصرية التي تؤهل لسوق العمل بالكفاءة والمهارة والخبرة سوف تقوض العرف السائد بسيطرة الوساطات ودوائر النفوذ على فرص التوظيف في المجتمع، وهو واقع تسبب على مدار سنوات في إحباط الخريجين وجعل البعض منهم يدركون أنه مهما اكتسبوا من مهارات وخبرات لن تتم مساواتهم مع من يملكون واسطة، وأمام عصرنة التخصصات تصبح المهارة معيار التوظيف.

16