"حادث بسيط".. ذاكرة الجلاد والضحية التي ظفرت بسعفة كان

تأتي بعض الجوائز أحيانا لتسلط الضوء على مسيرة فنانين مناضلين، يقاومون الرقابة المشددة وبطش السلطة السياسية، والإيراني جعفر بناهي أحدهم، حيث حصد فيلمه "حادث بسيط" سعفة مهرجان كان الذهبية، كما اعتادت أفلامه السابقة أن تقتنص أكبر جوائز المهرجانات الدولية. وفي حين يحتفي بها العالم، يسعى النظام الإسلامي في طهران لإسكات صانعها بكل السبل المتاحة لديه.
فاز فيلم “حادث بسيط” للمخرج الإيراني جعفر بناهي بجائزة السعفة الذهبية في الدورة الثامنة والسبعين من مهرجان كان السينمائي الدولي، مؤكدًا من جديد حضور السينما الإيرانية الجريء في المشهد العالمي. ويروي الفيلم قصة شخص يدعى وحيد، الذي يؤدي دوره وحيد مبصري، وهو رجل يختطف شخصًا بساق صناعية يشبه تمامًا جلاده السابق في السجن، ليتحقق من هويته الحقيقية بمساعدة ناجين آخرين، قبل أن يقرر مصيره، بينما يستحضر العمل موضوعات الانتقام والعدالة والندوب النفسية، ويشكل إدانة ضمنية للعنف الممنهج والقمع السياسي.
وأعلنت رئيسة لجنة تحكيم المهرجان جولييت بينوش -خلال تسليمها الجائزة- أن “الفن يحرك الطاقة الإبداعية لإخراج أفضل ما بداخلنا، بقوةٍ تحوّل الظلام إلى تسامح وأمل وحياة جديدة،” في إشارة واضحة إلى الأبعاد الرمزية للفيلم الفائز. لقد أنجز جعفر بناهي هذا الفيلم خارج الأطر الرسمية، متحديًا الرقابة في إيران، كونه معارضا اعتُقل مرارًا بسبب أعماله الناقدة للنظام، وقد تمكّن من إخراج الفيلم دون
الحصول على تصريح تصوير رسمي، ويعد “حادث بسيط” عملًا مشتركًا بين فرنسا ولوكسمبورغ وإيران، وقد اختير للمنافسة الرسمية في مهرجان كان لعام 2025، قبل أن يتوج بجائزته الكبرى، ويُذكر أن آخر حضور شخصي لبناهي في المهرجان كان عام 2003 عند عرض فيلمه “الذهب القرمزي” الذي نال آنذاك جائزة لجنة التحكيم.
يشكّل موضوع سيناريو فيلم “حادث بسيط” تأملا في الذاكرة الجريحة، عندما تنبع عقدته من اشتباه بطله وحيد في أنّ أحد زبائنه هو جلاده السابق في السجن، فتنطلق القصة من شعور باطني مختلط بين الخوف والرغبة في الانتقام، وتستند إلى خط زمني يتصاعد تدريجيًا حتى يبلغ ذروته في الصحراء، حينما ينوي البطل دفن خصمه حيًّا، إلا أنّ السيناريو لا يقع في فخّ العنف المباشر، بينما يخلق مساحة شديدة التوتر للشكّ والتردّد، ويطرح أسئلة جوهرية حول إمكانية الوثوق بالذاكرة، وحول الفرق بين الضحية والجلاد حين تُمحى الحدود بينهما بفعل الألم والسنين، ويضعنا الفيلم أمام وضعية أخلاقية معقّدة، حينما يتحوّل الألم الشخصي إلى محفّز للانتقام، لكن دون أدلة واضحة، ليضع المشاهد بدوره في موقع المساءلة الأخلاقية.
تبرز متتالية مشاهد فيلم “حادث بسيط” البعد الجماعي للألم، من خلال استدعاء وحيد لعدد من المعتقلين السابقين كي يساعدوه في التعرّف على الرجل، في ما يشبه محكمة ضمير شعبية، وهنا تُعبّر مواقف الشخصيات المتباينة عن تشتت الذاكرة الجمعية، وعن صعوبة الوصول إلى حقيقة واحدة في ظلّ التجارب القمعية المختلفة.
وتلعب العناصر الرمزية دورًا مهمًا في تعميق هذه الرؤية، فالصحراء تُمثل عزلة الإنسان في وجه مصيره، والساق الاصطناعية بصوتها المزعج تفتح جراحًا لم تلتئم، بينما الصندوق الخشبي يرمز إلى العجز عن دفن الماضي، ومن خلال هذه المفارقات النفسية والرمزية يعيد الفيلم طرح سؤال العدالة: هل يمكن لعدالة مبنية على الألم أن تنصف أحدًا، أم أنّها تولّد جلادًا جديدًا في هيئة ضحية قديمة؟
ويعد المخرج جعفر بناهي أحد أبرز صناع السينما في إيران، التحق بجامعة السينما والتلفزيون في طهران، ودرس الإخراج، وهناك بدأ مسيرته الفنية بإنتاج أفلام قصيرة ووثائقية للتلفزيون الإيراني، وواصل تطوير مهاراته حتى عمل مساعدًا للمخرج الإيراني الشهير عباس كيارستمي في فيلم “عبر أشجار الزيتون”، وهو التعاون الذي ترك أثرًا واضحًا في أسلوبه السينمائي لاحقًا، وفي عام 1995 أطلق أول أفلامه الطويلة بعنوان “البالون الأبيض”، والذي حاز جائزة الكاميرا الذهبية في مهرجان كان السينمائي.
وساهم بناهي في تشكيل ملامح الموجة الجديدة في السينما الإيرانية، إذ تميزت أعماله بالواقعية الاجتماعية والنقد الجريء للمشكلات السياسية والقيود المجتمعية، وخاصة تلك المفروضة على المرأة، ومن بين أبرز أعماله فيلم “الدائرة”، الذي فاز بجائزة الأسد الذهبي في مهرجان البندقية، وكان بمثابة صرخة ضد القمع الممنهج للنساء في المجتمع الإيراني، كما أخرج في عام 2003 فيلم “الذهب والدم” الذي انتقد التفاوت الطبقي من خلال قصة جندي سابق يواجه الظلم بعد الحرب العراقية – الإيرانية، وقد نال الفيلم جائزة لجنة التحكيم في قسم “نظرة ما” بمهرجان كان.
وتعرّضت أعمال هذا المخرج للرقابة الشديدة والقيود الحكومية، إذ مُنعت بعض أفلامه من العرض داخل إيران رغم شهرتها العالمية، مثل فيلم “خارج اللعبة” الذي عالج قضية حرمان النساء من دخول الملاعب الرياضية، ومع أن الفيلم لم يُعرض رسميًا إلا أنه انتشر عبر أقراص “دي في دي” مقرصنة داخل البلاد، وهذا جعله يُحدث تأثيرًا واسعًا بين الإيرانيين، خاصة في أوساط الشباب.
واستمر بناهي في الحصول على تقدير عالمي رغم القمع الداخلي، وابتكر طرقًا جديدة لمواصلة عمله السينمائي رغم الحظر، من أبرزها تقنية الطاقمين، أي كان يستخدم طاقمًا وهميًا لجذب انتباه السلطات بينما كان طاقم العمل الحقيقي يقوم بالتصوير سرًا. وقد ألهمت هذه الطرق مخرجين آخرين داخل إيران وخارجها، بينما تحدى قرارات منعه من العمل بإخراج فيلم “هذا ليس فيلمًا” بالتعاون مع مجتبى ميرتهماسب، وتم تصوير العمل في شقته باستخدام كاميرا رقمية وهاتف محمول، وعبّر فيه عن مأزقه الشخصي كفنان محروم من ممارسة فنه. ورغم كل القيود، عُرض الفيلم في مهرجان كان وتم تهريبه إلى فرنسا على ذاكرة USB مخبأة في كعكة.
◙ أفلام بناهي تعرضت للرقابة الشديدة والقيود الحكومية إذ مُنع بعضها من العرض داخل إيران رغم شهرتها العالمية
واستمر في العمل سرًا، فأخرج في عام 2013 فيلم “ستارة” بالتعاون مع كامبوزيا برتوفي، وفاز بجائزة أفضل سيناريو في مهرجان برلين، وفي نفس العام منحت جامعة ستراسبورغ الفرنسية بناهي دكتوراه فخرية، وقد مثّلته ابنته في استلامها، حينما قرأت خطابًا من والدها جاء فيه: “يمكن منع الفنان من الإنتاج، لكن لا يمكن أبدًا تقييد خياله.”
وحصد بناهي في عام 2015 جائزة الدب الذهبي في مهرجان برلين عن فيلم “تاكسي طهران”، الذي صُوّر بطريقة مبتكرة، إذ جلس بناهي خلف مقود سيارة أجرة وجعلها موقعًا متنقلا لتصوير مشاهد شبه وثائقية تعكس الحياة اليومية في طهران، واعتُبر الفيلم تحديًا لحدود الرقابة بين الحقيقة والخيال، وقد حضرت ابنة شقيقته إلى برلين لتسلم الجائزة نيابة عنه.
وأُقيمت في عام 2016 أول مراجعة شاملة لأعماله السينمائية في مركز بومبيدو في باريس، تزامنًا مع إصدار كتاب عنه بعنوان “جعفر بناهي: صور/غيوم”، وفي عام 2018 عاد إلى مهرجان كان بفيلمه “ثلاثة وجوه”، الذي نال جائزة أفضل سيناريو مناصفة مع المخرجة الإيطالية أليس رورواخر.
وتعرّض للاعتقال مجددًا في 11 يوليو 2022 بعد مطالبته بمعلومات عن اعتقال مخرجين إيرانيين آخرين، ما أثار غضبًا دوليًا واسعًا، وأطلق مهرجان كان دعوة عاجلة للإفراج عنه وعن زميليه، واستنكر بشدة قمع السلطات الإيرانية للمبدعين، وألغت المحكمة العليا الإيرانية في أكتوبر 2022 الحكم الصادر بحقه، وأمرت بإعادة المحاكمة، لكن مع استمرار احتجازه أعلن في 1 فبراير 2023 إضرابًا عن الطعام والماء احتجاجًا على ظروف سجنه، وأُفرج عنه بكفالة بعد يومين فقط.
وغادر بناهي إيران لأول مرة منذ 14 عامًا في أبريل 2023 بعد استلامه جواز سفر سمح له بزيارة فرنسا حيث تعيش ابنته، وفي عام 2025 عاد إلى مهرجان كان السينمائي بفيلم جديد بعنوان “حادث بسيط”، وهو عمل درامي اجتماعي ملتزم، نال عنه سعفة كان الذهبية، تحت رئاسة لجنة تحكيم قادتها الممثلة الفرنسية جولييت بينوش.