المتاحف مازالت تتطور منذ ما قبل الميلاد إلى اليوم

يُعتبر الفن شهادة حيّة على الإنسانية وتحضّرها، وهو مرآة تعكس رغبات الشعوب وتطلعاتها ومخاوفها. كما يُجسد مراحل ازدهار الأمم أو تراجعها، معبّرًا عن جوانبها السياسية، الاجتماعية، والاقتصادية. فقد برع الفن في تصوير الحياة وتجسيدها في كل زمام ومكان، واستطاع فنانو كل عصر التعبير عن مشاعر الشعوب، أوجاعها وأفراحها بلغة محسوسة تخطت حواجز اللغة والزمن.
“متاحف الفن.. النشأة.. الأنواع.. أساليب العرض” هو الكتاب الثامن في سلسلة دراسات رئيس قسم إدارة المتاحف بكلية الآثار جامعة دمياط الدكتور محمد جمال راشد، عن المتاحف من تصميمها وعمارتها وعلمها إلى إدارتها وعرضها وتراثها الثقافي.
يتناول الكتاب موضوعات: ميلاد الفن في العالم القديم للتعريف بمدارس الفن في الحضارات القديمة؛ ثم يتطرق إلى الإرهاصات الأولى لمجموعات الفن وتكونها منذ العصور الوسطي وعصر النهضة الأوروبية. ويستعرض بصورة مبسطة مدارس الفن وأنواع الفنون المختلفة التي تزخر بها المتاحف حول العالم. ويعرّف بتصنيفات متاحف الفن وأنواعها المختلفة، لاسيما متاحف تاريخ الفن، ومتاحف الفن الحديث والمعاصر، ومتاحف الفن الرقمي. ويختتم باستعراض طرق تقديم مجموعات الفن في المتاحف، أنماط العرض والحالات التفاعلية الأنسب لها.
نشأة المتاحف
يقول راشد في كتابه، الصادر عن دار العربي، إنه “على الرغم من أن نشأة المتاحف يصعب تعقبها لفترات أقدم من متحف ‘موزين‘ الإسكندرية والذي يعود إلي بواكير العصر البطلمي في مصر (القرنين الثالث والثاني ق.م.). والذي يعتبر أحد شواهد التواصل الثقافي بين الحضارة المصرية القديمة التي كانت في مرحلة الشيخوخة والحضارة اليونانية – الرومانية التي كانت في أوج شبابها بعد أن تتلمذ علماؤها على يد المصريين في الإسكندرية وغيرها من المدن المصرية. وكانت مكتبة الإسكندرية القديمة ومتحفها منارة للعلم ومقصدًا للعلماء من كل أرجاء العالم القديم للدراسة في شتى العلوم.”
ويتابع “تشير الدراسات الحديثة إلى احتمال أخر ارتبط ببلاد الرافدين ويعود لثلاثة قرون قبل إنشاء ‘موزين‘ الإسكندرية. ثم تدلل الشواهد الأثرية علي أن أحد القصور الخاصة بالأسرة الحاكمة ربما أعيد توظيفه أو بعض غرفه للقيام بوظيفة تعارف عليها فيما بعد بأنها وظيفة المتحف. وهي منشأة يرى فيها بعض الدارسين تجسيدًا واضحًا لفكرة المُتحف؛ حيث تُدلل على ذلك الاكتشافات الأثرية في مدينة بابل. حيث عثر بها علي عدد من الآثار تعود إلى فترات تاريخية مختلفة تمتد إلى أكثر من سبعة قرون، وقد صاحبتها بطاقات وأختام عليها توصيف يتطابق مضمونه مع بطاقات التوثيق والبطاقات الشارحة لمقتنيات المتاحف حديثا.”
ويشير إلى أن “التساؤل يتعالى حول الصورة الأولى للمتحف. فهل كانت أقدم صورة للمتحف هي تلك التي تبلورت في ‘موزين‘ الإسكندرية ارتباطًا بالحضارة المصرية؟ أم سبقتها في ذلك الحضارة البابلية في القرن السادس ق. م؟ عامةً، هناك توافق على أن نشأة الإرهاصات الأولى للمتحف، من خلال فكرة ‘الاقتناء، والعناية والعرض‘، التي يمكن تتبع شواهدها في الحضارات القديمة في كل من مصر، العراق، اليونان، والصين. وهي وظائف تم التعارف عليها لاحقًا بأنها الوظائف الرئيسة للمتحف.”
ويلفت إلى أنه بداية هناك مؤسسات مختلفة تشاركت في النشأة وتشابهت في الوظائف الأساسية المنوطة بها. وهذه المؤسسات تشمل علي سبيل المثال: الأرشيف، والمكتبة، والمتحف. فإذا كانت المتاحف تقوم باقتناء، حفظ وعرض المقتنيات المادية الثمينة؛ فالأرشيف، والأمر كذلك بالنسبة إلى المكتبة، يقوم كل منهما باقتناء وحفظ وعرض مقتنياتهم من الكتب، المكتوبة والمخطوطة.
ويؤكد راشد أنه على صعيد صلات الفن بنشأة المتحف، وتأصيل هذه النشأة، فإن الحضارات القديمة في مصر وبلاد الرافدين واليونان، قد اهتمت بمختلف ألوان الفنون وبرعت فيها. وقد نشأت وتطورت في كل منها مدارس للفن في النقش والنحت والرسم وغيرها من الفنون تأتي على رأس الإسهامات الحضارية والأعمال الفنية التي تزخر بها متاحف العالم في الحاضر. فقد برع المصريون في فنون النحت والنقش والرسم والتصوير بشكل أثّر في العالم كله حتى اليوم. وقد حوّل المصري القديم معابده وقصوره إلى ساحات لعرض الفن ثنائي وثلاثي الأبعاد بالصورة التي جعلت من المعابد المصرية متاحف شامخة ثرية بقيمتها الفنية وموروثها الثقافي النطاق.
نشأة المتحف بالمفهوم الحديث مرت بعدد من المراحل عبر قرابة الألف العام شهدت خلالها تطورا ملحوظا
والأمر ذاته، نجده في حضارات بلاد الرافدين واليونان. وقد برع الفنان اليوناني في فن النحت وفي إبراز التفاصيل التشريحية للجسم البشري، وقد كانت ميادين المدن القديمة بمثابة متاحف مفتوحة تمتلئ بإبداعات النحات القديم. والذي صورته الأساطير اليونانية بأنه سليل ربات الفنون المُلهمة والتي ألهمت فناني اليونان وروما للإبداع في مختلف ألوان الفنون.
ويوضح راشد أن نشأة المتحف بالمفهوم الحديث مرت بعدد من المراحل عبر قرابة الألف العام، شهدت خلالها تطورا ملحوظا على صعيد طبيعة المجموعات المتحفية ووظيفة المتحف ورسالته العامة. فمن حيث طبيعة المجموعات المتحفية ارتبطت النشأة الجديدة للمتحف باقتناء الأعمال الفنية والأنتيكات القديمة بصفة خاصة، وإن اتسع مجال المجموعات المتحفية بصورة سريعة لتشمل المجموعات الطبيعية والتاريخية والعرقية وغيرها.
ومن ثم فإن وظيفته قد دارت حول صون وإنماء هذه المجموعات وتوظيفها بالصورة المناسبة في ضوء الإمكانيات والرؤية المتوفرة لدى القائمين علي العمل وبما يحقق رسالته التثقيفية والتعليمية والترفيهية للمجتمع. فكان أن مرّت قرون عديدة على الحضارات القديمة في مصر وبلاد الرافدين واليونان واهتمامها بالثقافة وألوانها المختلفة بالصورة التي عكسها التصور الديني اليوناني لرعاية الربات التسع بنات زيوس كراعيات للفنون والعلوم المختلفة. والاهتمام الواسع بجمع وتقديم الأعمال الفنية من النحت والتصوير والنقش في المعابد والقصور والبيوت.
وقد تركت لنا هذه الحضارة من نتاج حضارتها وإبداعاتها الفنية رصيدا لا يحصى من أعمال النحت والنقش والتصوير والرسم ظلت ملهمة للأجيال المتتالية عبر الزمن، ومنها استلهمت فكرة الجمع والاقتناء وتكوين المجموعات الخاصة في أوروبا منذ العصور الوسطي والتي كانت النواة الأولى للنشأة الحديثة للمتحف.
متاحف الفن
يلفت راشد إلى أن متاحف تاريخ الفن تعد على رأس أهم المتاحف التي تقدم الفن في قالب متناغم تحكي عبره رحلة الفن وتطوره وتطور مذاهبه ومدارسه المختلفة. هذه المتاحف تقوم على رسالة دقيقة في تقديم بناء متكامل لميلاد الفن وتطوره عبر تاريخ متصل من الإبداع الإنساني. ويمكن تعريف متاحف تاريخ الفن بأنها متاحف تهدف إلى عرض وتوثيق تاريخ الفن وتطوره عبر العصور. وهي تركز على تقديم الأعمال الفنية في سياقاتها التاريخية والثقافية، ما يسمح للجمهور بفهم تطور الفنون ومدارسها المختلفة. وعلى سبيل الاختصاص، فهي تجمع وتعرض أعمالًا فنية من مختلف الحضارات والفترات الزمنية، بدءًا من الفنون القديمة وأولى الإسهامات البشرية وحتى الفنون المعاصرة.
وتوجد، وفق الأكاديمي، نماذج عديدة لمتاحف تاريخ الفن حول العالم، وإن لم تكن بانتشار متاحف الفن الحديث والمعاصر أو متاحف الفن العالمية، ولعل مرجعية ضعف التمثيل لمتاحف تاريخ الفن لمدى الخصوصية التي تتمتع بها في رسالتها والتي تتطلب أن ينجح المتحف في اقتناء أعمال فنية وتحف تغطي تطور الفن عامة وأنواعها المختلفة من الإسهامات البشرية عبر مختلف الحضارات والثقافات والبلدان والعصور، وهي مُهمة يصعب التصدي لها إلا بتوافر إمكانيات وفرص استثنائية.
ولعل من أهم الأمثلة البارزة لمتاحف تاريخ الفن عالميا متحف تاريخ الفن في فيينا، وهو يعرض مجموعة واسعة من الأعمال الفنية من مختلف الفترات التاريخية، بدءًا من الفنون القديمة حتى الفنون الحديثة. وهناك أيضا متحف تاريخ الفن في جنيف، ويضم مجموعة غنية من الأعمال الفنية والتحف التي تعكس تطور الفن عبر العصور في سياق تاريخي وثقافي. وكذلك متحف تاريخ الفن في بروكسل، وهذا المتحف الذي أسس في 1910 يعرض تاريخ الفن الأوروبي والعالمي من خلال مجموعة متنوعة من الأعمال الفنية والتحف الأثرية. ومتحف بول إيلوار للفنون والتاريخ في باريس تأسس 1901.
الحضارات القديمة في مصر وبلاد الرافدين واليونان، قد اهتمت بمختلف ألوان الفنون وبرعت فيها
ويؤكد راشد أن متاحف الفن الحديث والمعاصر تلعب دورًا محوريًا في تشكيل وتوجيه المشهد الفني العالمي. فقد أسهمت هذه المتاحف في تعريف الجمهور بالاتجاهات الفنية الجديدة وتشجيع الابتكار من خلال استضافة معارض بارزة وعرض أعمال لفنانين مؤثرين. كما عملت على توفير بيئة تفاعلية تحفز الحوار بين الفنانين والجمهور، ما يعزز من فهم الفنون وتقديرها.
ويخصص راشد فصلا عن متاحف الفن الرقمي معرفا إياها بأنها “متاحف أو مؤسسات تعرض الأعمال الفنية التي تستخدم التكنولوجيا الرقمية كوسيلة أساسية للإبداع والتعبير. تشمل هذه الأعمال مجموعة واسعة من أشكال الفن الرقمي مثل الفيديو، والتركيبات التفاعلية، والفن ثلاثي الأبعاد، والواقع الافتراضي (VR)، والواقع المعزز (AR)، والفن الرقمي المبرمج. هي متاحف توفر بيئة تفاعلية فريدة تسمح للزوار بالتفاعل باستخدام الحواس المختلفة مع الأعمال الفنية بطرق جديدة ومبتكرة.
ويرى أن متاحف الفن الرقمي شهدت انتشارًا واسعًا في العقد الحالي، مع تزايد الاهتمام بالفنون الرقمية، والطفرة التكنولوجية لتعزيز التفاعل بين الجمهور والأعمال الفنية الرقمية. إذ أن متاحف الفن الرقمي لم يقتصر دورها علي تقديم الأعمال الفنية بصيغتها الجديدة، ولكنها باتت تعمل كمختبرات للإبداع والتجريب المستمر، حيث يمكن للفنانين والجمهور استكشاف إمكانيات التكنولوجيا في الفن، وقياس مدى تأثير هذه الأعمال وجدانياً على الجمهور.
يستعرض راشد نماذج لبعض أهم متاحف الفن الرقمي حول العالم، من بينها: متحف موري للفن الرقمي بطوكيو الذي يحوي تجارب فنية غامرة باستخدام تكنولوجيا رقمية متقدمة، من خلال عرض أعمال لفريق “teamLab” الفنية التي تدمج الضوء والصوت والحركة لخلق تجارب تفاعلية ثلاثية الأبعاد. ومتحف أرت هاوس الذي يعد بمثابة مركز للفن الرقمي يقع في عدد من المدن (واشنطن العاصمة، نيويورك، ميامي.. إلخ)، ويركز على تكنولوجيا الواقع المعزز والافتراضي، وهو يقدم تجارب فنية تفاعلية وغامرة ترتكز على الفن والتكنولوجيا والعلوم.