فيلم تسجيلي عن "عاشق النغم" ورحلته الطويلة مع الموسيقى

الفنان المصري بليغ حمدي.. الطير المسافر في سماء الألحان.
الثلاثاء 2025/05/27
بليغ موسيقار استثنائي في تاريخ الموسيقى العربية

لا أحد ينكر عبقرية الموسيقار بليغ حمدي وتفرده، فقد صنع لنفسه منهجا موسيقيا خاصا، تدركه الآذان منذ النوتات الأولى لأي أغنية لحنها. لقد نجح في أن يعبّر عن"مصريته" وينقل الموسيقى المصرية الشعبية إلى مكانة فارقة، خلدت اسمه وجعلت مسيرته حكاية تروى لأجيال. وهذا ما يحاول فيلم "بليغ عاشق النغم.. الطير المسافر" تأكيده.

القاهرة- تعد محاولة استعادة معالم الرحلة الطويلة للموسيقار بليغ حمدي تحليقا جميلا في سماء صافية من النغم، امتدت لتظلل عصرا كاملا من الإبداع، لكنها أيضا مهمة عسيرة، في ضوء غزارة إنتاج بليغ، بموسيقاه وألحانه الخالدة التي تغنى بها مطربون كبار.

شهد مركز الثقافة السينمائية بالقاهرة العرض الثاني للفيلم التسجيلي “بليغ عاشق النغم.. الطير المسافر”، فكرة وكتابة فايزة هنداوي وإخراج حسين بكر، من إنتاج المركز القومي للسينما. وكانت دار الأوبرا المصرية قد احتضنت العرض الأول للفيلم، ونال استحسان المشاهدين.

يستعرض الفيلم على مدى خمسين دقيقة أبرز المحطات في حياة الموسيقار بليغ حمدي فنيا، التي شارك فيها بتلحين أهم الروائع الباقية في وجدان المستمع العربي، بأصوات كبار المطربين، من أم كلثوم إلى عبدالحليم حافظ، ووردة ومحمد رشدي، وعفاف راضي، ونجاة، وميادة الحناوي، وعلي الحجار، وغيرهم.

ويكشف الفيلم عن عناصر رئيسية في شخصية بليغ الإنسانية والفنية، أبرزها عشقه الشديد لمصر، ما بدا في كلماته لأصدقائه خلال فترة اضطراره إلى مغادرة البلاد في أواخر حياته إلى باريس، إذ كان يطلب منهم باكيا أن يصفوا له شكل الشوارع والناس، كما ذكر المطرب علي الحجار خلال الفيلم أن بليغ استمع إلى صوته في المرة الأولى للقائه به، وعندما أنهى الحجار أغنيته فوجئ به يبكي ويقول بحماس “مصر ولَّادة”.

بوكس

بعد هزيمة يونيو 1967 قدم بليغ حمدي مع الشاعر عبدالرحمن الأبنودي أغنية “عدى النهار” بصوت عبدالحليم حافظ، دون الإشارة بكلمة واحدة إلى الهزيمة أو النكسة، إنما عبّر عما جرى بأسلوب فني راق ومؤثر. وكان بليغ يقول أمام المقربين منه “عهد عليَّ يا مصر إني زي (مثلما) طبطبت عليكِ وقت الهزيمة أكون أول من يحتفل معكِ وقت النصر.”

وبالفعل جاء انتصار أكتوبر 1973 لينطلق بعده بليغ حمدي في الحال إلى مبنى الإذاعة والتلفزيون، ويفشل الموظفون في منعه من الدخول، ليسجل روائعه الخالدة المحتفية بنصر أكتوبر ومنها “بسم الله” و”على الربابة”.

استعرض الفيلم قصة لقائه بعبدالحليم حافظ الذي طلب منه والأبنودي بعد نجاحهما مع محمد رشدي أن يعملا معه لتقديم غناء شعبي يجذب الجماهير، والمفارقة أن صوت عبدالحليم لا يتناسب كثيرا مع هذا اللون.

تم التوصل إلى معادلة وازنة من خلال أغنية “التوبة” بألحان بليغ وتوزيع علي إسماعيل، بما يتماشى مع الشخصية الفنية لصوت عبدالحليم، وفوجئ الأبنودي بالموسيقى والآلات التي لا تنسجم مع الكلمات التي كتبها، وتوقع استخدام آلة الربابة، لكنه اقتنع في النهاية بأن هذا الشكل هو الأنسب للمطرب.

ونالت قصة الحب بين بليغ والمطربة وردة الجزائرية مساحة كبيرة في الفيلم التسجيلي، لانعكاس هذه العلاقة على ما أنتجاه معًا من فن، ثم تأثير انفصالهما بعد ذلك عليه من الناحية الفنية، إذ وجد بليغ أن صوت المطربة السورية ميادة الحناوي أنسب للتعبير عما بداخله من أفكار ورسائل كان يريد أن يرسلها إلى وردة التي ظل يحبها حتى آخر يوم في عمره، فكان يكتب بنفسه كلمات أغلب الأغاني التي قدمتها ميادة بموسيقاه، تحت اسم “ابن النيل” كمؤلف للكلمات.

وروت المطربة عفاف راضي في شهادتها التي قدمتها في الفيلم التسجيلي قصة عملها مع بليغ حمدي، والذي اكتشف إمكانية تقديمها كمطربة تغني للجمهور بشكل عام، برغم أن كثيرين قبله تعاملوا معها كصوت أوبرالي فقط، فكان تعاونهما من خلال أغنية “ردوا السلام” وما تلاها من أعمال.

أوضح الناقد الموسيقي الأكاديمي أشرف عبدالرحمن في الفيلم وخلال الندوة التي أعقبت عرضه في مركز الثقافة الموسيقية برئاسة أمل عبدالمجيد، كيف نجح بليغ في التعامل مع كل صوت على حدة بإمكانياته، ليستخرج منه أفضل ما فيه عبر صنع موسيقى تناسبه.

وأضاف عبدالرحمن أنه بسبب ذلك كان يُقدِم على التعامل مع كل صوت يعجبه، لأنه يعرف كيف سيقدمه، وقد يبدو مستغربا أن يلحن بليغ لأم كلثوم وأحمد عدوية أيضا، لكنها قدراته الخاصة في التركيز على العناصر الجمالية في كل صوت وإبرازها من خلال الموسيقى المتناسبة معه، ومن هنا جاءت موسيقاه لتحتضن الكثير من الأصوات المتباينة، من نجاة إلى سميرة سعيد، ومن ميادة الحناوي إلى شادية، وصولا إلى الشيخ سيد النقشبندي في ابتهال “مولاي”.

وسألت “العرب” المخرج حسين بكر عن أسباب عدم عرض الفيلم بشكل دوري في أحد المواقع الثقافية، أو رفعه على موقع يوتيوب، لإتاحته لأكبر عدد ممكن من المشاهدين والحفاظ على تراث مهم لموسيقار كبير.

أجاب قائلا إنه يتمنى هذا بالطبع، وكان هناك مشروع لإنشاء قناة على يوتيوب للمركز القومي للسينما إبان رئاسته له التي انتهت العام الماضي، لكنه لا يعرف ما وصلت إليه الفكرة حاليا.

وأشارت فايزة هنداوي كاتبة الفيلم، ردًّا على سؤال “العرب”، إلى أن المركز وهو الجهة المسؤولة عن السينما في مصر لا يزال بدون تعيين رئيس له، والسنوات الأخيرة شهدت وجود أكثر من رئيس على التوالي لم يستمر أي منهم أكثر من عام واحد، وهي فترة غير كافية لتحقيق النجاح والإنجاز في أي مشروع أو عمل.

بلغ عدد الساعات المسجلة في اللقاءات مع المطربين والنقاد وأصدقاء الموسيقار الراحل لإعداد الفيلم 11 ساعة، تم اختصارها في المونتاج إلى خمسين دقيقة فقط. ولم يكن مطروحا أن يتم عمل جزء ثان لأن ذلك يستلزم استخراج موافقات وإجراءات إدارية جديدة كما لو كان سيتم عمل فيلم جديد، وفقا للمخرج والكاتبة.

بدأ العمل في فيلم “بليغ عاشق النغم.. الطير المسافر”، بشكل فردي، قبل استكمال إجراءات الموافقة عليه، عندما علمت الكاتبة فايزة هنداوي بوجود نانو الحكيم شقيقة الإذاعي المصري الراحل وجدي الحكيم في مصر لمدة خمسة أيام، وهي من وفرت مكانا لإقامة بليغ حمدي في باريس واقتربت من حياته وفنه في سنواته الأخيرة.

◄ بليغ حمدي موسيقار كبير ما زال يسعد مختلف الأجيال بما قدمه من موسيقى رقيقة وشجية تتناسب مع كل صوت
بليغ حمدي موسيقار كبير ما زال يسعد مختلف الأجيال بما قدمه من موسيقى رقيقة وشجية تتناسب مع كل صوت

أخبرت هنداوي المخرج حسين بكر بذلك فانطلقا إليها في الحال معا، وتم التسجيل في ستوديو وجدي الحكيم الذي عمل بداخله بليغ لفترة طويلة. وبعد الانتهاء من تسجيل مادة الفيلم بالكامل، عرفت الكاتبة بالصدفة من حوار عابر مع المخرج عمر عبدالعزيز أنه كان صديقا مقربا لبليغ، فعادت لتخبر المخرج بالتسجيل معه لأهمية شهادته، فوافق أيضا على الفور.

وأوضح بكر أن إحدى العقبات التي واجهت صناع الفيلم هي حقوق الملكية الفكرية للأغاني التي لحنها بليغ حمدي، وتمنى إذاعة أجزاء من عدد أكبر من  الأغاني التي تم عرضها والحديث عنها في الفيلم، ومنحهم المنتج محسن جابر ست أغنيات من ألحان بليغ دون مقابل، ووافقت شركة أفلام ماجدة الصباحي على منحهم حق إذاعة الختام الموسيقي لفيلم “العمر لحظة” من إبداع بليغ.

لم يعترض المطرب علي الحجار على التسجيل برغم عدم وجود ميزانية لمنحه المقابل المادي، ووافق دون أن يطلب شيئا، قائلا “ده (إنه) بليغ”، واستجابت المطربة عفاف راضي، وعدد كبير من النقاد الموسيقيين والكُتَّاب والأصدقاء، ومنهم الشاعر الراحل شوقي حجاب ومحمود عبدالشكور وأيمن الحكيم وأشرف عبدالرحمن، وآخرون.

أخلص الكل بحب لإخراج عمل يليق بتاريخ موسيقار كبير، أسعد وما زال يسعد مختلف الأجيال، بما قدمه من موسيقى رقيقة، شجية وشفافة، تتناسب مع كل صوت، تعكس كل حالة، من الفرح إلى الحزن، ومن البهجة إلى الشجن.

وما يبقى هو ضرورة إتاحة الفرصة للمشاهدين على اختلاف فئاتهم للاطلاع بيسر على الفيلم، عبر توفير عرض أسبوعي ثابت له في أحد قطاعات وزارة الثقافة المصرية، أو رفعه على الإنترنت، حفظا لتاريخ رجل أخلص للفن، ويصعب أن يجود الزمان بمثله.

14