سلوى جودة لـ"العرب": كل كلمة ننقلها لقاءٌ بين حضارتين وانتصار على النسيان

الترجمة سلاح العرب ضد صورهم النمطية في الغرب.
الثلاثاء 2025/06/24
الترجمة تكشف الحقائق (لوحة للفنان أحمد مهنى)

ما كان للحضارة الإنسانية أن تبلغ هذا التطور لولا الترجمة، فقد مثلت أداة العولمة الأولى وربطت بين الحضارات والثقافات والمعارف والحقب التاريخية، وخلقت مسارات ثقافية أكثر قوة وتأثيرا، ولكنها اليوم تواجه تحديات كبرى، خاصة ما يتعلق بالتكنولوجيا والانحياز. "العرب" كان لها هذا الحوار مع المترجمة المصرية سلوى جودة حول رؤاها لواقع الترجمة.

القاهرة– الترجمة جسرٌ رابطٌ بين الشعوب، عليه تعبر الثقافات، ويتم تبادل المعرفة. والمشكلة الدائمة عربيًا هي أننا نستقبل أكثر كثيرًا مما نرسل، نترجم ولا يُتَرجم إلا قليل عنا، ما يُعرف باسم ضعف الترجمة العكسية، ولذلك أسباب عدة، إلا أن البعض من المثقفين يصرون بدأب على محاولة علاج المشكلة، وإن يكن بالنحت في الصخر، كي يمتد الجسر.

سلوى جودة، مترجمة وأكاديمية مصرية بجامعة عين شمس، قسم اللغة الإنجليزية وآدابها، أتمت دراستها الأكاديمية بين مصر وجامعة كاليفورنيا في سان برناردينو بالولايات المتحدة، وصدرت لها كتب عدة في الأدب الإنجليزي والنقد الأدبي، ونشرت ترجماتها لأعمال مئات الشعراء والأدباء العرب بمجلات دولية.

مهمة صعبة

سلوى جودة: ما تُرجِم من العربية إلى اللغات الأخرى لا يمثل نسبة نفخر بها
سلوى جودة: ما تُرجِم من العربية إلى اللغات الأخرى لا يمثل نسبة نفخر بها

تكشف المترجمة المصرية لـ”العرب” معالم رحلتها مع الترجمة والشعر، وتفاصيل قيامها بإعداد عدد خاص من مجلة “لايف إنكونترز” العالمية للشعر في أكتوبر الماضي بعنوان “صورة غزة في الشعر العربي”.

وتؤكد أن مستقبل الترجمة أكثر إثارةً مع صعود الذكاء الاصطناعي، إلا أن للروح الإنسانية سرَّها الأبدي، والترجمة هي الوجه الإنساني للعولمة، فكل كلمة ننقلها هي لقاءٌ بين حضارتين، وكل نصٍّ نعيد إحياءه هو انتصارٌ على النسيان، كما قال الشاعر الإسباني أنطونيو ماتشادو: “المترجمون هم بطاريق الحضارة، ينقلون دفء الثقافات عبر محيطات الجهل.”

شعرت جودة بعد أحداث السابع من أكتوبر 2023، واشتداد وتيرة الاعتداءات والانتهاكات الإسرائيلية على قطاع غزة، بضرورة أن تفعل شيئًا، “فالألم عظيم والحزن مزق الجميع،” وهي لا تجيد إلا الكتابة والترجمة، فتحدثت مع مارك يوليسيس رئيس تحرير مجلة “لايف إنكونترز” العالمية للشعر والكتابة عن رغبتها في إعداد إصدار عن غزة، فتردد في البداية، ثم وافق على أن يتم ذلك في غضون عشرين يومًا.

كانت المهمة صعبة للغاية بالنسبة إليها، أصعب ما فيها مخاطبة الشعراء العرب في مصر وفلسطين والعراق والأردن واليمن وتونس والمغرب وغيرها من البلدان لإرسال ما كتبوه عن غزة، واستطاعت أن تجمع عشرين شاعرًا في هذا الإصدار خلال فترة وجيزة.

تقول لـ”العرب” إن عملية الترجمة كانت موجعة لها، وعاشت عذابات وغضب جميع القصائد، واعتبرتها المجلة ضيفًا للتحرير، فكتبت المقدمة الافتتاحية بعنوان “غزة في الضمير الشعري”، ورصدت تاريخ المدينة والعدوان عليها منذ فترة، ومعاناة شعبها المحاصر برًّا وبحرًا وجوًّا.

وضمَّنت افتتاحيتها رسالة إلى أحرار العالم، ذكرت فيها أن “أطفال غزة مثل جميع أطفال العالم، خلقوا للحياة وليس للموت في حرب ليسوا مسؤولين عنها ولم يقرروها، لقد خلقوا من أجل الفرص الجديدة والموسيقى والشعر، وللأحلام والحب مثل أطفالكم.”

وتعتبر المترجمة المصرية أن الشاعر الحقيقي والشعر الجيد يفرضان نفسيهما في الحروب والأزمات، قائلة “وهل خلت حقبة زمنية من الشعر؟ شعر الحرب جنس أدبي موجود في العصور القديمة والحديثة، ولعب دورًا كبيرًا في التنديد بالحرب وأهوالها منذ هومر وحرب البسوس إلى الحربين العالميتين الأولى والثانية، ولم يتوقف الشعر على الأرض.”

الترجمة جسرٌ رابطٌ بين الشعو
الترجمة جسرٌ رابطٌ بين الشعو

ساهمت جودة في ترجمة موسوعة “أعلام العرب” تحت إشراف اليونسكو، وترجمت العديد من الكتب الشعرية والروائية من العربية إلى الإنجليزية ومن الإسبانية إلى الإنجليزية ومن العربية إلى الفرنسية. وأنهت مؤخرًا ترجمة رواية “حانة الست” للأديب المصري محمد بركة.

معايير انتقائية

وضعت سلوى جودة لنفسها معايير انتقائية تختار وفقها الأعمال الإبداعية التي تقرر ترجمتها، وتتمثل في الأهمية الثقافية، بأن تُظهر النصوص تنوع التجربة العربية، والجودة الفنية، بأن تتمتع الأعمال بعمق فكري وجمالي، والجمهور المستهدف، أن تكون النصوص قادرة على الحوار مع ثقافة اللغة الهدف.

وواجهت المترجمة المصرية تحديات من الناحية الفنية من أبرزها اختيار النصوص، فليست كل النصوص الشعرية صالحة لتقديمها للآخر، كما تعتقد، والحكم على صلاحية النص للترجمة يعتمد على أمور كثيرة، تقررها بعد دراسة متعمقة ومعايشة للنص من حيث بنيته اللغوية والمعرفية ووحدة الفكرة التي يحملها، فالنص كائن حي ينبض بالحياة ولا بد أن تكون بنيته متماسكة.

ويتمثل البحث عن ناشر دولي يؤمن بالترجمة وبالثقافة العربية وأهميتها تحديا ثانيا، وبعد تجارب متعددة في الترجمة والنشر خلال الأعوام القليلة الماضية استطاعت أن تخلق مساحة وتلفت الأنظار إلى الشعر العربي، حتى صار المعنيون يطلبون الاستمرار في تقديمه لهم مترجمًا. وهناك حرص كبير على قراءة هذه الترجمات والإشادة بها، وبلغت الثقة حد أن الشعراء في إنجلترا وأيرلندا والولايات المتحدة صاروا يعرضون نصوصهم لترجمتها إلى العربية وعرضها على الشعوب العربية، ما تعتبره جودة إنجازًا في صالحنا.

وانصب اهتمام الأكاديمية سلوى جودة على ترجمة الشعر العربي إلى الإنجليزية لإيمانها بأن لدينا تاريخًا شعريًّا يستحق أن يحظى باهتمام يتناسب مع فرادته وأن يكون على خريطة الإبداع العالمي.

وتوضح لـ”العرب” أن العرب أمة الشعر، وكان الجنس الأدبي الوحيد والأقرب إلى الشخصية العاشقة للحياة وللبداوة والموسيقى وللمعاني الثقال، والعرب أصحاب أول سوق للشعر، سوق عكاظ، الذي يطلقون عليه مهرجانًا شعريًّا في العصر الحديث، وحظي الشعراء على مدار التاريخ باحترام وتكريم من الملوك والحكام والساسة لمحورية الدور الذي يقومون به إعلاميا وثقافيا وإنسانيا، والتاريخ عامر بالنماذج والأمثلة.

المترجمة تكشف معالم رحلتها مع الترجمة والشعر
المترجمة تكشف معالم رحلتها مع الترجمة والشعر

حرص العرب في القرن الماضي على ترجمة الخبرات الشعرية الغربية ونقلها إلى ساحتنا الشعرية والثقافية، خاصة شعراء الحداثة وما بعدها، ما لا تستطيع سلوى جودة أن تتجاهل دوره في إثراء المدارس الشعرية، خاصة في الشعر الحر وقصيدة النثر، وترى في المقابل أنه حان الوقت لتتسع ساحاتهم لقراءة منجزنا الشعري الذي لا يقل في جودته المعرفية والإنسانية والفنية عن العالمي الذي يحمل خصوصيتنا الثقافية ويعبر عنها.

ونظرًا إلى ضعف التوجه إلى هذه الترجمة العكسية، فإن ما تمت ترجمته من العربية إلى اللغات الأخرى لا يمثل نسبة نفخر بذكرها، كما تقول، والكثير مما تمت ترجمته لم يتم بالجودة المطلوبة، ولذا جاء توجهها إلى ترجمة الشعر والعمل الجاد لنشره لأرباب الثقافات الأخرى.

رحلة وجودية

لا تنظر سلوى جودة إلى الترجمة باعتبارها مهنةً عابرة، بل هي بالنسبة إليها رحلة وجودية تربط بين الذات والآخر. ويعود اختيارها لها إلى طفولتها المبكرة، إذ نشأت في بيتٍ يمتلئ بكتبٍ عربية وإنجليزية، فكانت تتساءل: كيف يمكن لكلمةٍ واحدةٍ أن تحمل وجوهًا متعددة؟ ومع الوقت أدركت أن الترجمة هي الفن الوحيد الذي يتيح للإنسان أن يكون كاتبًا ثانيًا، يتنفس روح النص الأصلي ويعيد تشكيله بلغة جديدة.

وترى أن التاريخ يشهد بأن الحضارات العظيمة بُنيت على أكتاف المترجمين؛ ففي العصر العباسي كان “بيت الحكمة” مركزًا لنقل علوم الإغريق، ما أثرى الفكر العربي. واليوم أصبحت الترجمة سلاحًا ضد الصور النمطية، خاصة أن الغرب لا يزال يرى العالم العربي من خلال عدسة ضيقة. وحين ترجمت جودة قصيدةً لِمحمود درويش إلى الإنجليزية شعرت بأنها أنقذت جزءًا من حكاية فلسطين من النسيان. فالترجمة، بهذا المعنى، بالنسبة إليها، هي مقاومةٌ بالكلمة.

ترجمت العديد من الكتب الشعرية والروائية
سلوى جودة ترجمت العديد من الكتب الشعرية والروائية

تقول جودة “إننا كعرب ننتمي إلى حضارة إنسانية واحدة وثقافات متعددة، ولسنا في عزلة معرفية وثقافية، ولا نكتب لأنفسنا فقط، بل نخاطب في نصوصنا إنسان هذا العالم، فالشعر صوت الإنسان في محنته وسعادته وصرخته وطموحه وحتى في خيباته.”

لذلك تشدد على أنه لا بد من أن نقرأ بعضنا البعض، كما توضح، في هذه المرحلة من مراحل إعادة الخريطة العالمية جيوسياسيا ومعرفيا أيضًا، لا بد أن نكون حاضرين وبقوة على كل الأصعدة، كلٌّ فيما يعرف ويجيد، وثمة اهتمام عالمي بالاطلاع وقراءة الشعر العربي المترجم، وزيادة واضحة في الدراسات المقارنة حول العالم وفي كل اللغات.

تسألها “العرب” لماذا الشعر بالذات؟ لتجيب المترجمة بأنه جزء من بنيتها النفسية، وقد سجلتْ ذلك في كتاب تقوم بإعداده عن سيرتها مع البيت الكبير في القرية التي تنتمي إليها روحيا، وشكلت مشاهداتها وربما جزءًا من معارفها الفطرية. وفيها بدأ الشعر يلتفت إليها مبكرًا مع راعي الحديقة السبعيني (أحمد أبوعلي) في بيت جدتها وهي في السابعة من عمرها، إذ سمعته وهو يرتجل الشعر في كل المواقف الحياتية، وفي عبارات مموسقة تُدخلها في حال لم تفهمها وقتها.

تذكر جودة أنها كانت تتعجب لماذا يتحدث بلغة مختلفة عن كل أهل البيت والعاملين فيه، واعتقدت حينها أنها لغة خاصة برعاة الحدائق.

ولا تزال لدى جودة أحلام وطموحات، منها حلم إنشاء مكتبة رقمية عالمية متخصصة في ترجمة الأعمال العربية، خاصة كتابات المرأة العربية وأدب المهجر، ومشروع توثيقي يجمع بين الترجمة النصية والوسائط المتعددة لتعزيز الحوار مع ثقافات لم يصلها الكثير من الإبداع العربي بعد.

12