سوريا وإسرائيل: القصة لم تنتهِ بعد.. بدأت للتو

ما زلت أذكر بوضوح شديد أحداث يوم من أيام شهر فبراير/شباط 1979، كنت قد هيأت حقيبة السفر استعدادا لمغادرة دمشق متوجها إلى دبي. أذكر جيدا مشهد غروب الشمس الذي سكب نوره البرتقالي على أبنية المدينة القديمة، في يدي كوب شاي، وفي قلبي حكاية عمرها 24 عاما وأكثر. لم أكن آنذاك واثقًا مما إذا كان بالإمكان التصالح مع الماضي، لكني كنت أعلم أن الزمن يحمل معه لحظات يجب مواجهتها بعيون جديدة.
ولادتي كانت في مدينة اللاذقية الساحلية عام 1954، البلاد آنذاك كانت غارقة في أحاديث عن النكبة واللاجئين والضياع والمؤامرة الدولية ضد العرب والمسلمين. كبرت وسط شعارات الوحدة العربية والقومية والعداء المطلق لإسرائيل، حتى أصبح ذلك جزءًا من هويتي وهويّة جيل بأكمله. لم يكن هناك سؤال حول ماهية العداء. العداء كان أمرًا مفروغًا منه.
أذكر أياما كنت أجلس فيها مع والدي وإخوتي متحلقين حول المذياع، نصغي لخطب بدت لي، حينها، أنها لا تنتهي يلقيها جمال عبدالناصر عبر الراديو، يتحدث عن تحرير فلسطين، وعن أمة عربية واحدة، وعن كيان غريب في المنطقة اسمه إسرائيل، تسبقه الأغاني الحماسية، ويختتم بنفس الأغاني والشعارات.
◄ ربما لن يكون سهلا تجاوز كل هذا الماضي، لكن الزمن لا يقف عند الحروب، التاريخ يمدنا بعشرات الأمثلة على ذلك. الأجيال القادمة قد ترى الأمور بشكل مختلف
عندما جاءت حرب يونيو – حزيران 1967، وكنت آنذاك في الثالثة عشرة من عمري، شعرت بخيبة أمل كبيرة. اليوم الذي خسر فيه العرب الضفة الغربية وخسروا سيناء والجولان، كان لحظة فارقة، لحظة كشف حقيقة أن الشعارات والخطب والأغاني الحماسية لم تكن كافية لصناعة النصر.
بعد ست سنوات جاءت حرب أكتوبر – تشرين الأول، للوهلة الأولى كانت لحظة فخر، لكنها لحظة لم تستمر طويلًا. أدركت بمرور السنوات أن الحروب رغم أنها قدمت بطولات وشهداء، لم تغيّر الواقع، وأن إسرائيل بقيت حيث هي، والعداء لم يختفِ، لكنه أصبح أكثر تعقيدًا، وأكثر إنهاكًا.
مرت الأعوام، تغيّرت الدنيا، لكن لا أستطيع أن أقول إنّي تغيرت كثيرًا. لم أستطع أن أتحلل من إرث الماضي، تلك المشاعر التي زرعتها الحروب والخطابات القومية والأغاني الحماسية، حتى بدأت أسمع عن شيء جديد يسمى الاتفاقيات الإبراهيمية.
اليوم، 23 مايو – أيار عام 2025، وعلى بعد 2500 كيلومتر من سوريا، بالتحديد في تونس، أجلس على كرسي في شرفة تطل على البحر، أتصفح الأخبار عبر هاتفي الجوال، أدرك وأنا الصحافي “المخضرم” -أمضى 45 عاما في العمل الصحفي- أن هناك لحظات تصنع نفسها بهدوء قبل أن تهز العالم، لكن لم أكن أتخيل أن سوريا ستكون مركزا للحظة مثل هذه.
لو كان أحد يقف إلى جانبي كان حتما سيرى الدهشة مرتسمة بوضوح على وجهي وأنا أقرأ عنوانا لخبر كان مستحيلا حتى هذه اللحظة: “مباحثات غير معلنة بين سوريا وإسرائيل… هل السلام ممكن؟”
ابتسمت، لا أعلم، هي ابتسامة سخرية أم ابتسامة المهزوم، متذكرًا كيف كبرت وأنا أسمع عن الصراع الأبدي، وكيف كانت الجبهة السورية – الإسرائيلية مزيجًا من الخوف والكبرياء المرهون بالأرض المحتلة. وضعت الهاتف على الطاولة بعيدا عن يدي، واستسلمت لتفكير عميق، أفكر بـ70 عاما ضاعت من عمري، وأعود للتأكد من الخبر الذي قرأته للتو.
◄ هل ستكون سوريا مستعدة للمضي في هذا الطريق؟ وهل سيقبل الشعب السوري بحقيقة أن الماضي قد لا يكون هو المستقبل؟
إذا كان صحيحا ما قرأته، فالعالم العربي سيشهد أكبر تحول دبلوماسي منذ عقود.
مرت سنوات قليلة منذ أن وقعت دول عربية اتفاقيات إبراهيميّة مع إسرائيل. لم يكن أحد يعتقد أن التطبيع سيحدث بهذه السرعة، لكن المصلحة الاقتصادية والتعاون الإقليمي غيّرا قواعد اللعبة.
فهل يمكن لسوريا أن تسلك نفس الطريق؟
الإجابة بالتأكيد ليست سهلة، هناك إرث عدائي طويل، نزاع لم يُحسم، وشعب أنهكته الحروب. وفي الوقت نفسه هناك اقتصاد مدمر وحكومة تبحث عن مخرج من أزمتها ووسطاء يحاولون الدفع نحو التغيير.
لا أستطيع أن أقول إن خبرتي في تحليل الواقع السياسي ستسعفني للتوصل إلى جواب حاسم. فأنا أعلم أن إسرائيل لن تكون متحمسة للتطبيع أو توقيع معاهدة للسلام مع سوريا. هي ترى أن الوضع الحالي يخدم مصالحها، طالما أنها تسيطر على هضبة الجولان، وهي لا تريد الدخول في اتفاق قد يجبرها على تقديم تنازلات.
ثم هناك إيران، العائق الأكبر، التي لم تقبل بعد هزيمتها في سوريا وخسارتها كقاعدة إستراتيجية. إسرائيل لن تخاطر بالسماح لإيران بالتسلل ثانية إلى سوريا في حال توقيع اتفاق لا يعطيها ضمانات أمنية كافية.
حتى إذا قبلت إسرائيل التطبيع، هل يمكن لسوريا والسوريين تجاوز الإرث العدائي؟ هل يمكن لجيل عاش الحرب أن يتقبل السلام؟ هل ينسى العرب اللاءات الثلاث الشهيرة التي أطلقوها عام 1967 في مؤتمر الخرطوم، معلنين رفض الصلح مع إسرائيل، ورفض الاعتراف بها، ورفض التفاوض معها؟
وهل يمكن بعد سبعين عامًا من الأحداث والانكسارات والخطابات التي عايشتها وسمعتها، أن أتقبل فكرة التصالح مع إسرائيل؟
هل أستطيع أن أنسى انحيازي للشاعر المصري أمل دنقل صاحب قصيدة “لا تصالح” وكلماتها التي تقول: لا تصالحْ!/ ولو منحوك الذهب/ أترى حين أفقأ عينيك/ ثم أثبت جوهرتين مكانهما../ هل ترى؟/ هي أشياء لا تشترى.
◄ مرت سنوات قليلة منذ أن وقعت دول عربية اتفاقيات إبراهيميّة مع إسرائيل. لم يكن أحد يعتقد أن التطبيع سيحدث بهذه السرعة، لكن المصلحة الاقتصادية والتعاون الإقليمي غيّرا قواعد اللعبة
كيف أنسى وطعم كلماتها ما زال عالقا بفمي، منذ أن قرأتها لأول مرة منذ نصف قرن (عام 1976).
هل يمكن أن نستخدم نفس التراث الذي استخدمناه للخروج بذرائع تبرر العداء على مدى 70 عاما من الصراع، لنجد اليوم في نفس هذا التراث ما يؤيد النزوع إلى السلام؟
لن نعدم ذلك، الأمثلة كثيرة ومنها: “وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ،” و”لا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة.” هل يمكن أن تكون هذه النصائح الإلهية مفتاحًا لرؤية جديدة، رؤية تتجاوز العداء الذي استمر جيلاً بعد جيل؟
ربما لن يكون سهلا تجاوز كل هذا الماضي، لكن الزمن لا يقف عند الحروب، التاريخ يمدنا بعشرات الأمثلة على ذلك. الأجيال القادمة قد ترى الأمور بشكل مختلف.
توقفت عن تقليب الأخبار على هاتفي الجوال موقنًا أن القصة بدأت للتو. لكن الوقت لم يحن بعد للكتابة حولها. وإن كنت أعلم أن هذه اللحظة المشكوك في حدوثها الآن سيكتب عنها قريبا ليذكرها التاريخ، بعيدًا عن التحليلات السياسية والمواقف الأيديولوجية الجامدة.
هل ستكون سوريا مستعدة للمضي في هذا الطريق؟ وهل سيقبل الشعب السوري بحقيقة أن الماضي قد لا يكون هو المستقبل؟
لا أحد يعلم الجواب، الشيء الوحيد الأكيد هو أن هذه القصة لم تنتهِ بعد، بل بدأت للتو.
في عالم السياسة، كل شيء يبدو مستحيلًا حتى يحدث فجأة.