صالون ضي يودّع عصمت داوستاشي.. تأبين مؤثر لفنان استثنائي

داوستاشي فنان أسهم في إثراء الحركة التشكيلية المصرية من خلال قيادته لمعارض جماعية تهتم بالهوية المحلية.
الاثنين 2025/05/26
رمز للفن المصري

القاهرة - شهد صالون “ضي” الثقافي في غاليري الزمالك، منتصف الأسبوع الماضي، حفل تأبين مؤثر للفنان التشكيلي الكبير الراحل عصمت داوستاشي، نظمّه أتيليه العرب للثقافة والفنون برئاسة الناقد التشكيلي هشام قنديل، بحضور نخبة من رموز الفن والأدب والنقد في مصر.

شارك في التأبين عدد من الأسماء البارزة في المشهد الثقافي المصري، من بينهم الروائي إبراهيم عبدالمجيد، والشاعر زين العابدين فؤاد، والدكتور رضا عبدالسلام، والدكتور حسن عبدالفتاح، والفنانان محمد عبلة، وأحمد عبدالكريم، والدكتور سامي البلشي، والدكتور محمد الصبان، إلى جانب نقيب التشكيليين طارق الكومي، وعدد من النقاد والمثقفين الذين جمعهم حب وتقدير شخصية داوستاشي ومسيرته الفنية والفكرية الثرية.

وفي كلمته، أشار هشام قنديل إلى أن إقامة هذا التأبين في «أتيليه العرب» لم تكن وليدة الصدفة، بل كانت امتدادًا لعلاقة وثيقة جمعت المؤسسة بالفنان الراحل، حيث تم تكريمه في حياته مرتين من خلال إصدار كتابين عن تجربته الطويلة مع الفن والحياة، بالتعاون مع مؤسسة الزاهدية للثقافة والإبداع. كما نظّم له الأتيليه أكثر من معرض، وكان من المقرر إقامة معرض استعادي كبير لأعماله في «ضي الزمالك» قبل رحيله المفاجئ.

داوستاشي رحل تاركًا مدرسة متفردة في الواقعية الرمزية الشعبية ومكتبة بصرية ثرية تعكس وجدان مصر الحقيقي
داوستاشي رحل تاركًا مدرسة متفردة في الواقعية الرمزية الشعبية ومكتبة بصرية ثرية تعكس وجدان مصر الحقيقي

وأضاف قنديل أن داوستاشي لم يكن فنانًا تقليديًا، بل كان موسوعيًا بحق؛ فنان وناقد وكاتب ومفكر، رسم بأسئلته قبل أن يرسم بريشته، وكتب يتأملها قبل أن يدوّن بقلمه، مشيرًا إلى أن من يتأمل أعماله يشعر وكأنه يخرج من حدود اللوحة إلى آفاق أوسع من الإدراك.

وتابع: «لم يكن سحر داوستاشي في غزارة إنتاجه أو تنوعه فحسب، بل في تلك التفاصيل الدقيقة والمنمنمات التي تسكن كل عمل، فتستحيل معها النجاة من غواية التأمل، ولا من شباك الغرق الفني المتقن. كل لوحة له كانت تُقرأ كما تُشاهد، وتُكتشف كما تُحسّ.”

واعتبر قنديل أن الحيرة التي تولدها تجربة داوستاشي لا تقتصر على فنه فقط، بل تمتد إلى شخصه ذاته، فهو من أولئك الذين يصعب فصل أعمالهم عن ذواتهم، حتى ليبدو أن الفنان والعمل في حالة دائمة من التماهي. واستشهد بمقولته الشهيرة في مقدمة كتابه “الفن والحياة” الصادر عام 1994، حيث قال: “إنه هوس توثيقي أنا صاحبه وصانعه، هوس لم يشمل ما كتب عني وما نشر عني وما أنجزته من أعمال، لأن هذا آخر ما فكرت فيه.”

وُلد الفنان المصري عصمت داوستاشي عام 1943 بالإسكندرية، المدينة التي عشقها وجعلها خلفية أبدية لعدد كبير من أعماله. ارتبط فنه بالبحر والنيل، وبالروح المصرية التي كان يسعى لتوثيقها بطريقته الخاصة. جمع بين التشكيل والكتابة والتوثيق الثقافي، ودوّن ذاكرة الفن المصري في أكثر من كتاب ومقالة، وظل حتى وفاته مرجعًا بصريًا وفكريًا لكثير من الفنانين.

تجاوز تأثيره حدود اللوحة ليصبح نموذجًا للفنان المثقف الذي لا ينعزل داخل مرسمه، بل يتفاعل مع محيطه، ويوثق تحولات مجتمعه، ويخاطب الأجيال القادمة بلغة تتقاطع فيها الصورة مع الكلمة، واللون مع الفكرة.

رحل داوستاشي جسدًا، لكنه ترك وراءه إرثًا ثريًا من الإبداع، سيظل محفورًا في ذاكرة الحركة التشكيلية المصرية، وملهمًا لكل من يبحث عن الفن الذي لا يزول.

عمل فني مميز

وتميّز عصمت داوستاشي بأسلوب فني خاص جمع فيه بين الأصالة والحداثة، فكان من أوائل الفنانين المصريين الذين أعادوا الاعتبار لـ”الموتيفة” الشعبية كعنصر بصري رئيسي داخل اللوحة، دون أن يسجنها في إطار الفلكلور، بل صهرها ضمن رؤى تشكيلية حداثية شديدة التعبير والثراء.

في أعماله، نجد الزخارف، ورموز المعتقد الشعبي، والأمثال، ومفردات البيئة الريفية والبحرية، مدمجة بعناية داخل تكوينات لونية جريئة، في حالة من التناغم المدهش بين البساطة الشكلية والعمق الرمزي. لم يكن يتعامل مع التراث كحنين سطحي، بل كمادة خام لتأملات فلسفية وإنسانية تتعلق بالهوية، والمكان، والذاكرة الجمعية.

كما أسهم داوستاشي في إثراء الحركة التشكيلية المصرية من خلال تأسيسه وقيادته لمعارض جماعية تهتم بالهوية المحلية، فضلًا عن إسهاماته في النقد التشكيلي، وتأريخه للحياة الثقافية والفنية عبر مقالاته وكتبه.

وما يجعل تجربته مميزة أنه لم يكن فنانًا فقط، بل مؤرخًا للفن، وشاهدًا عليه، وربما هذا ما منحه هذا الحس الوثائقي النادر الذي جمع بين الروح الشعبية والتأمل الفكري، فكان يرى أن الفنان يجب ألا يرسم ما يعجبه، بل يرسم ما يشبهنا.

رحل عصمت داوستاشي تاركًا مدرسة متفردة في الواقعية الرمزية الشعبية، ومكتبة بصرية ثرية تعكس وجدان مصر الحقيقي، ذاك الوجدان الذي لا تلتقطه الكاميرات، بل تلونه الريشة، وتنطقه الألوان، وتحرسه الذاكرة.

15