وداع هيثم الزبيدي.. لحظة يؤرخها الوجدان

الدكتور هيثم الزبيدي لم يكن الوحيد الذي دحض مقولة ألبير كامو بأن “الصحافي مؤرخ اللحظة،” بل كان من تيار البحث عن الأفق في اللحظة المغلقة. كان رحمه الله يؤمن بأن الحبر ينبوع يعيد إحياء الحقيقة ويبشر بانتصارها على الظلم. عاش كل أوجاع العرب، وهو يشيد ريشة قلمه شراعاً لسفينةٍ تمخر بحراً بلا شاطئ. آمن بأن الصحافي صانع مفاتيح أفق اللحظة، لا يراها تاريخاً حتمياً، بل يصوغها حاضراً ومستقبلاً، لتكون محطة عبور نحو الإشراق.
لم يحجب غبار المعارك المهزومة بصره عن قنديل يضيئه الحبر، وذلك لا يعني انفصاله عن الواقع أو تقوقعه في برج اللغة الإنشائية والمثل الرخوة. كان يقرأ الواقع وفق مبدأ فلسفة “الغد ابن اليوم،” فيمتص صدمته، ثم يشرّح أسبابها، بحثاً عن كُوّة يرى من خلالها فجراً، هو حق الإنسان في الوجود.
لم يكن الدكتور هيثم متصالحاً مع الواقعية السياسية التي تقوم على نقض المبادئ واستبدال الهويات انسجاماً مع المتغيرات، بل كان مؤمناً بأن تقنيات العصر سلاحٌ متاح للجميع، وهي فرصة تاريخية للتغلب على التقهقر العربي والسير في ركب الحضارة، بما يفسح المجال للعرب ليحصّنوا وجودهم في زاوية فاعلة من المشهد العالمي.
◄ الدكتور هيثم الزبيدي كان مؤمناً بأن تقنيات العصر سلاحٌ متاح للجميع، وهي فرصة تاريخية للتغلب على التقهقر العربي والسير في ركب الحضارة
وفي الوقت نفسه، لم يكن بائع أوهام، فقد أدرك عمق الهوة التي سقط فيها العرب نتيجة سياسات منفصلة عن الواقع العالمي الراهن. لكنه كان يؤمن بقدرة الإنسان العربي على استثمار تقنيات العصر لتقليص الفجوة بينه وبين حلم الخروج من صندوق العالم الثالث. فبقدر تخلف واقع هذا الإنسان، بقدر ما يمكنه تقليص المسافة مستفيداً من سرعة التطور التكنولوجي. وتلك مأثرة تاريخية تحسب للدكتور هيثم في إبداع فتح الآفاق.
لم تكن لي معرفة شخصية عن كثب بالراحل، فقط عرفته من خلال بضع رسائل شخصية وقراءة كتاباته، وهو ما ولّد بيني وبين فكره صلة قربى جميلة بين فهم الصحافة كحراسة للآمال وحق العرب في الوجود الإنساني، وسط التيه المعاصر.
وداع هيثم الزبيدي لحظة يؤرخها الوجدان، كما أرّخ وجدان الأحرار بتنوير حبره الصحفي. في وداعه، تأخذ الكلمات كسوتها من الحزن، ويأخذ المكان حيزه من الفراغ الذي لا يملأ إلا بالغائب عنه.
في غيابه عن مقعده، الذي لم يكن سوى مقعد حضورٍ للقيم والمثل النبيلة التي لا ترحل برحيل صاحبها.
سلام الله عليك، حارس الكلمة التي يأوي إليها الإنسان وطناً، لحظة التشرد الأبدي. وسلام الله عليك، تهمس في وجه الريح: “لست وطن الغبار والريش، بل كما حملت الغبار، تحمل الغمام.” وسلام الله عليك في رحيلك، واستعصاء أثرك عن الرحيل. رحمك الله وألهم ذويك ومحبيك الصبر والسلوان.