سوريا: تاريخ طويل من الثورات وخيبات الأمل

السوريون راهنوا على أن بشار الأسد القادم من جامعات بريطانيا سيكون مغايرا لوالده لكنهم سرعان ما اكتشفوا أنه أكثر استبدادا ووحشية فرددوا "طلع العشا شوكا ساما" تعبيرا عن قهرهم.
الثلاثاء 2025/06/03
السوريون يمنّون أنفسهم

كان من عادة السوريين إذا شعروا بالإحباط أو خيبة الأمل أن يرددوا الأغنية الفلكلورية “عزموني على العشا وطلع العشا خبيزة.” وللسوريين تاريخ طويل مع خيبات الأمل، سواء من ساسة بلادهم أو مسيرة ثوراتهم منذ الاستقلال. هذه الثورات تمثل علامة فارقة في نشأة الدولة وتطورها، إذ لم تشهد دول المنطقة عدد الثورات والانقلابات التي مرت بها سوريا، سواء كانت عامة أو عسكرية ادّعت كونها ثورات، تصريحا أو إيحاء.

عانى الشعب السوري من قهر الاحتلال الفرنسي، وضحّى بخيرة شبابه في ثورات وطنية عمّت أرجاء البلاد، وأسفرت عن استقلال سوريا وتشكيل حكومة وطنية برئاسة شكري القوتلي سنة 1943، عقب فوز حزبه “الكتلة الوطنية” في انتخابات حقيقية. لكن زمن الأحلام لم يدم طويلا، إذ بدأت زعامات عسكرية تتغلغل في نسيج الحياة السياسية، ولاسيما مجموعة الضباط الذين تربّوا في كنف السياسة الفرنسية الاستعمارية، فزرعت فرنسا ألغاما سياسية في الحياة السورية تفجّرت في مراحل ما بعد الاستقلال.

كان من أخبث تلك الألغام تأسيس فرنسا لما يسمّى “جيش الشرق” سنة 1919، وفق نصائح استخباراتها، بهدف بناء جيش سوري على أسس طائفية يعتمد على الأقليات، بغية تفتيت القوى السنية التي كانت العائق الأكبر أمام الاستعمار. وفعلا، صار ضباط هذا الجيش روادا للانقلابات العسكرية المتلاحقة في سوريا.

◄ مع انطلاق شرارة الثورة السورية عام 2011، ذهل السوريون بوحشية الوريث وفنون أساليب قمعه وجرأة إبادته لشعبه و تدمير بنى وطنه الاجتماعية والاقتصادية والحربية

لم يكن التخلص من الاستعمار الفرنسي كافيا لتحرير سوريا من المطامع الخارجية التي كانت تتربص بها، نظرا إلى موقعها الجيوسياسي الذي جعلها غنيمة تثير التنافس الإقليمي والدولي، وهو ما أدى إلى عدم استقرارها السياسي بعد الاستقلال. وقد أشار العميد محمد معروف في مذكراته “أيام عشتها” إلى ذلك بقوله “كانت سوريا محطّ طموحات جيرانها العرب الذين كوّنوا حزبين متنافسين؛ فمن جهة أراد الهاشميون في الأردن والعراق ضمها إليهم لتكون جزءا من مشروع الهلال الخصيب، ومن جهة أخرى، وقفت مصر، متحالفة مع المملكة العربية السعودية، بالمرصاد لهذا المشروع.”

كما لم تكن السياسة الأميركية بمنأى عن محاولات تقويض استقلال سوريا، لأسباب عديدة منها موقعها الإستراتيجي وثرواتها الطبيعية، بالإضافة إلى رغبتها في تفتيت الطوق العربي المعادي لإسرائيل. وتؤكد المصادر التاريخية دعم وزارة الخارجية الأميركية لانقلاب حسني الزعيم عام 1949 على حكومة شكري القوتلي المنتخبة، حيث كتب وزيرها المفوض في دمشق آنذاك كيللي مؤيدا الانقلاب “إن الوضع قبل الانقلاب الأول وصل إلى حالة من التدهور والفوضى، لم يبق معها أيّ احترام للقانون أو خضوع للنظام، وإن إعادة الأمور إلى نصابها ضرورة لا بد منها بأيّ ثمن كان.”

كانت للاتحاد السوفياتي أيضا طموحات توسعية في الشرق الأوسط، فسعى لتأجيج الاضطرابات السياسية في سوريا عبر دعم الحزب الشيوعي، وحزب البعث، والحزب العربي الاشتراكي. وفي ظل هذا المناخ المضطرب، نشأت تيارات فكرية وحزبية واجتماعية متناحرة تطمح إلى النفوذ السياسي، وهو ما يلخصه تعليق الرئيس شكري القوتلي لجمال عبدالناصر عندما تنازل له عن الحكم سنة 1958 قائلا “إنني أسلّمك قيادة بلد عدد سكانه ثمانية ملايين، وكل فرد منهم يعتقد في نفسه أنه صالح للرئاسة.”

تلهّف السوريون إثر نكبة فلسطين إلى زعامة تعيد لهم الأمل، فوجدوا في انقلاب حسني الزعيم عام 1949 بداية لحقبة جديدة، لكنهم سرعان ما اكتشفوا طموح الزعيم الفردي الاستبدادي، فرددوا “طلع العشا خبيزة” تعبيرا عن خيبتهم. ثم توالت الانقلابات العسكرية بدءا من سامي الحناوي الذي أطاح بحسني الزعيم وأعدمه، مرورا بأديب الشيشكلي الذي أطاح بالحناوي واتهمه بالخيانة، وصولا إلى انقلاب الجنرال فيصل الأتاسي على الشيشكلي عام 1954، ما اضطر الأخير إلى تقديم استقالته لتجنب نشوب حرب أهلية.

◄ التخلص من الاستعمار الفرنسي لم يكن كافيا لتحرير سوريا من المطامع الخارجية، نظرا إلى موقعها الجيوسياسي الذي جعلها غنيمة تثير التنافس الإقليمي والدولي

في عام 1958، أبرم شكري القوتلي اتفاق الوحدة مع مصر، لكنه سرعان ما اصطدم باستبداد الحاكم المصري لإقليم سوريا عبدالحكيم عامر، ما دفع الضباط السوريين إلى الانقلاب عليه عام 1961، فغنّوا “طلع العشا خبيزة” تعبيرا عن خيبتهم في الوحدة.

لم تتوقف الصراعات، إذ استغلت اللجنة العسكرية هذا السخط لتدبر انقلابا مفصليا في 8 مارس 1963، أطاح بالرئيس الشرعي ناظم قدسي وحكومة خالد العظم، وأرسى حكم الحزب الواحد، وفرض تطبيق قانون الطوارئ، وهو نهج استمر حتى اليوم. وفي عام 1966، قاد صلاح جديد انقلابا على قيادة حزب البعث فأطاح بأمين الحافظ، واضعا الأسس لحكم الأقلية العلوية.

كان حافظ الأسد حينها يُقصي الضباط السنة ويستبدلهم بعناصر موالية له، حتى أطاح بصلاح جديد بانقلابه المحكم عام 1970، ثم ثبّت حكمه عبر استفتاءات صورية حتى وفاته عام 2000، تاركا سوريا في قبضة ابنه بشار الأسد.

راهن السوريون على أن بشار الأسد، القادم من جامعات بريطانيا، سيكون مغايرا لوالده، لكنهم اكتشفوا أنه أكثر استبدادا ووحشية، فرددوا “طلع العشا شوكا ساما” تعبيرا عن قهرهم. ومع انطلاق شرارة الثورة السورية عام 2011، ذهل السوريون بوحشية الوريث وفنون أساليب قمعه وجرأة إبادته لشعبه و تدمير بنى وطنه الاجتماعية والاقتصادية والحربية.

وأخيرا، انتصرت الثورة وأسقطت الأسد، والسوريون يمنون أنفسهم بقوة ألا يغنوا “طلع العشا خبيزة.”

9