الصحافة تختبر قدرتها على الصمود

عالم الصحافة الذي دخلته في بداية ثمانينات القرن الماضي لم يعد كما كان، الأخبار تتغير بسرعة، والخوارزميات تحدد ما ينشر وما يحجب، والحقائق تضيع بين أكوام من المعلومات المغلوطة. أتذكر ذلك وأنا جالس في مقهى ريفي، هربا من ضجيج المدينة وضغوطها، أتأمل شاشة الموبايل التي أضاءتها رسالة بريد إلكتروني تحمل كلمات قالها غوتيريش لتوّه.
تمتمت بصوت كان مسموعا بما يكفي ليلفت انتباه شخص يجلس على طاولة بالقرب مني، دافنا وجهه في هاتفه الذكي، قال لي “غوتيريش اكتشف أخيرا ما نعيشه منذ سنوات.. هل قرأت تحذيراته؟” وتابع دون أن ينتظر ردا “لقد وضع إصبعه على الجراح.”
كان يوسف – عرّفني باسمه لاحقا – قد واجه في الأشهر الأخيرة تجربة مريرة لم يكن يتصور حدوثها، قبل السماع بالذكاء الاصطناعي، أدت إلى فقدانه عمله في صحيفة ورقية أسبوعية، اضطرت إدارتها للاستغناء عن نصف القوى العالمة فيها.
الخبر الذي أخرجنا نحن الاثنين من السرحان الذهني، كان تصريحا نشره الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، على حسابه بمنصة إكس، محذرا من أن الذكاء الاصطناعي يمثل “تهديدا خطيرا” على حرية الصحافة، وأن “الخوارزميات المتحيزة، والأكاذيب الفاضحة، وخطابات الكراهية هي ألغام مزروعة في الفضاء الإلكتروني.”
رفعت رأسي لأجده يتقدم نحوي ملقيا هاتفه على الطاولة، متسائلا بلهجة ساخرة: “هل هناك أيّ أمل في أن تُستعاد الصحافة الحرة وسط هذا الطوفان الرقمي؟”
سرعان ما اكتشفت أنني أتشارك الأفكار والهواجس مع يوسف، ونحن متفقان مع غوتيريش الذي شدد على أن أفضل وسيلة لمواجهة التهديدات الرقمية هي الاعتماد على الحقائق المثبتة، وعلى الدقة والحياد، فالذكاء الاصطناعي بات يلعب دورًا رئيسيًا في صناعة الأخبار، ليس فقط كأداة مساعدة، بل ككيان يحدد الاتجاهات الإعلامية.
تنهد يوسف الذي لم يستطع أن يخفي وجعه وأخذ رشفة من القهوة، وقال “المشكلة ليست فقط في الذكاء الاصطناعي، بل في كيفية استخدامه. أتعلم أن هناك دولًا بدأت بالفعل في استغلاله لطمس الحقائق؟ الأخبار تُفلتر بحسب التوجه السياسي، والخوارزميات تدفع المعلومات نحو المتلقي بناءً على ما يريد رؤيته، وليس ما يجب أن يراه.”
هززت رأسي موافقا، وأشرت إلى أن الأخبار ذات الأهمية باتت تُدفن تحت سيل من المحتوى الترفيهي، وحملات التضليل الإلكتروني أصبحت أكثر تأثيرًا من التحقيقات الصحفية الجادة.
نظر يوسف إلى هاتفه، وقرأ عبارة غوتيريش بصوت مسموع وحازم “الأكاذيب الفاضحة وخطابات الكراهية هي ألغام مزروعة في الفضاء الإلكتروني.” وعلق قائلا “ربما الحل في العودة إلى أساسيات الصحافة، في التحقق المستمر، في رفض الاعتماد الأعمى على ما يُبث عبر الإنترنت، في مقاومة التلاعب الرقمي بالحقائق.. الصحافة ليست مجرد نقل أخبار، بل بحث عن الحقيقة، وإن كانت الخوارزميات ضدنا، فعلينا أن نكون أذكى منها.”
ودّعت يوسف، بعد أن مددت يدي بثمن فنجاني القهوة، وأنا أفكر بمعركة جديدة، معركة تتطلب من الصحافيين أن يكونوا أشد حذرًا وأكثر تصميماً، حيث لا يكفي نقل الحقائق، بل تجب حماية الحق في الوصول إليها. الصحافة الحرة لن تُقتل بالذكاء الاصطناعي، بل ستُختبر قدرتها على الصمود أمامه.