الأردن وسوريا يعيدان وصل ما انقطع

التفاهمات الجديدة تشمل تنسيقا متعدد المستويات في ملفات مكافحة التهريب والتطرف العابر للحدود ويعكس إدراكًا متزايدًا بأن أمن الدولتين بات مترابطًا بنيويا وأن الفصل الجغرافي بين التهديدات لم يعد ممكنا.
الخميس 2025/05/22
العلاقات لم تعد رهينة النوايا الطيبة فقط

في سياق إقليمي يتّسم بالهشاشة وتزايد الفواعل غير المنضبطة، تبرز إعادة تفعيل العلاقات الأردنية – السورية بوصفها خطوة تتجاوز الرمزية الدبلوماسية نحو رسم مسار براغماتي يُراهن على الاستقرار عبر أدوات مؤسساتية. انعقاد مجلس التنسيق الأعلى بين الأردن وسوريا في دمشق خلال أيار – مايو 2025 يمثّل نقطة تحوّل في مقاربة البلدين للتحديات المشتركة، لاسيما مع التبدلات التي يشهدها الإقليم على مستوى التحالفات والتوازنات بعد سنوات من العزل والعقوبات.

إعادة تشكيل العلاقات لم تعد رهينة النوايا، بل انتقلت إلى مستوى التخطيط التنفيذي. تم التوافق على خارطة طريق مؤسساتية تشمل ملفات الطاقة والمياه والنقل والصناعة والصحة، وهي ملفات تعكس أن المقاربة لم تعد أمنية أو سياسية فقط، بل تنموية ذات بُعد تكاملي. هذا التحول لم يكن ممكناً لولا التغيّر في البيئة الدولية، لاسيما رفع العقوبات الغربية عن سوريا، ما مكّن الأطراف من مناقشة التعاون دون التقيّد بقيود الحظر التي كانت تعيق حتى المبادرات الإنسانية والتنموية.

تعامل الأردن مع التهديدات المنبثقة من الجنوب السوري لم يعد محصوراً في البُعد الأمني المباشر، بل بات يُنظر إليه ضمن سياق أمني إقليمي أوسع. التفاهمات الجديدة تشمل تنسيقاً متعدد المستويات في ملفات مكافحة التهريب والتطرف العابر للحدود، بما يعكس إدراكًا متزايدًا بأن أمن الدولتين بات مترابطًا بنيويا، وأن الفصل الجغرافي بين التهديدات لم يعد ممكنا في ظل سيولة الجغرافيا العسكرية في المنطقة. التحوّل الأهم هنا هو كسر الصمت السياسي إزاء التدخلات الإسرائيلية في العمق السوري، والتي باتت تُقرأ أردنيا كتهديد مباشر للأمن الوطني، لا كحالة جانبية من صراع إقليمي.

◄ التحديات لا تزال كثيرة، والإقليم مفتوح على احتمالات الانفجار، لكن وسط هذا الضجيج، تنبع من محور عمّان – دمشق نغمة هادئة تقول إن في وسع العرب أن يبنوا، لا فقط أن يرمموا

التنسيق الاقتصادي بين دمشق وعمّان يتجاوز مبدأ “المصلحة المتبادلة” نحو اعتبار الاقتصاد رافعة إستراتيجية لإعادة بناء الثقة السياسية. رفع العقوبات الغربية شكّل نقطة تحوّل، لكنه لم يكن كافيًا لفتح الباب؛ بل استدعى استجابة عربية مبنية على تبنّي سوريا كجزء من الحل الإقليمي، لا كمجال للمناكفة أو العزل. من هذا المنطلق أعيد طرح ملفات النقل البري وخطوط الطاقة والتكامل في الموارد المائية، إلى جانب مناقشة عودة اللاجئين ضمن إطار طوعي وآمن، يعكس التزامًا سياسيًا بربط التنمية بالحلول الإنسانية المستدامة.

الحدث بحد ذاته لا يمكن قراءته بمعزل عن لحظة التمزّق التي يعيشها الإقليم؛ انسداد سياسي في القضية الفلسطينية، تصعيد في غزة والجنوب اللبناني، هشاشة أمنية في العراق، وتراجع واضح في أدوار القوى الإقليمية التقليدية. ضمن هذا المشهد، تسعى عمّان ودمشق إلى تثبيت محور عقلاني قادر على مقاومة الانزلاق نحو الفوضى الشاملة. المفارقة أن هذا المحور الناشئ لا يقوم على خطاب شعبوي أو تحالفات أيديولوجية، بل على ضرورات جيوسياسية تفرض نفسها على الحدود، وعلى الجغرافيا، وعلى الشعوب.

الرسالة الضمنية في هذه الشراكة الجديدة أن عودة سوريا إلى عمقها العربي لم تعد ترفا سياسيا، بل ضرورة أمنية ووطنية للمنطقة بأسرها. الأردن، بصفته الجار الجنوبي والأكثر تضررا من انهيار الدولة السورية، يدرك أن الاستقرار شمال حدوده ليس خيارا، بل هو شرط لاستقرار الحدود. وبالتالي، فإن تبنّي سياسات تشجّع على التعافي السوري، وتدمج دمشق في منظومة التعاون العربي، لم يعد خاضعا لحسابات الاصطفاف، بل بات امتدادا لمفهوم الأمن الوطني الأردني نفسه.

ما جرى في دمشق ليس محطة عابرة ضمن أجندة سياسية موسمية، بل لحظة تأسيس لمسار إستراتيجي جديد. نجاحه لا يُقاس بالتصريحات، بل بمدى قدرة المؤسستين السياسيتين في البلدين على ترجمة النوايا إلى نتائج ملموسة على الأرض. التحديات لا تزال كثيرة، والإقليم مفتوح على احتمالات الانفجار، لكن وسط هذا الضجيج، تنبع من محور عمّان – دمشق نغمة هادئة تقول إن في وسع العرب أن يبنوا، لا فقط أن يرمموا.

8