فنانون يستعملون الروائح ويثيرون الجدل

تمثل الأعمال الفنية والتصميمية الشمية التي كثر ظهورها اليوم مشكلات عميقة من منظور علم الجماليات، بل حتى من منظور الأخلاقيات، ورغم أن الأدبيات الفلسفية منذ عصر إيمانويل كانط وهيجل حتى روجر سكروتن ودينس دتون، تتصدى لفكرة ابتكار أعمال فنية خالصة بالاستناد كليا إلى الروائح وحاسة الشم.
يقيم الكتاب الفريد في رؤيته وموضوعه للفيلسوف الأميركي لاري شاينر “روائح الفن” الحجة بأن الرائحة يمكن أن تكون أساسا للجماليات الشمية، بل إنها تؤدي هذا الدور منذ أمد. وحجّته ليست فلسفية محضة وإنما بيولوجية ـ ثقافية، استدل عليها من الثورة الحسية الجامعة لعدة تخصصات والتي اصطبغت بها الأعمال الفنية خلال العقدين الماضيين.
يستكشف شاينر في كتابه، الصادر عن دار معنى بترجمة نواف الميموني، مختلف أشكال الفن التي تستخدم الروائح، بما في ذلك استخدام الروائح في المسرح والموسيقى والنحت والتركيبات المعمارية وتصميم المدن وفن الطهي الطليعي، ليقدم عملا رائدا يسعى إلى إعادة تقييم دور حاسة الشم في الفن والتجربة الجمالية، ويفتح آفاقًا جديدة لفهم وتقدير الفنون التي تعتمد على الروائح.
الشم جماليا
يقول لاري شاينر إن الذي يتطرق إليه هنا ويدرسه هو علم الجماليات “لأن موضوع الكتاب الرئيس هو طريقة فهمنا وتذوقنا للأعمال الفنية الشمية المتنوعة. ومن حسن الطالع أن ثمة مخزونا وافرا من الدراسات الفلسفية العظيمة حول جماليات الذائقة ـ وهي الحاسة المتاخمة أو الكيميائية الأخرى ـ ما يكشف لنا عن نماذج واكتشافات تعبيرية قيمة، نغوص من خلالها في عالم الشم.”
ويضيف “إن عدد الفنانين الذين يستعملون الروائح في أعمالهم الفنية في تزايد على مر العقدين الماضيين، وقد آن الأوان لعلم الجماليات أن يلاحظ هذه الحركة ويدرسها، لنلاحظ مثلا عمل الفنانة أوتوبونغ نكانغا ‘التذكّر‘ الذي عرضته عام 2018 ضمن معرضها في متحف الفن المعاصر في شيكاغو، يتألف هذا العمل الفني من جدار أبيض طويل، ينتصب وحيدا في وسط الصالة، ويمر في منتصفه على مستوى أنف الواقف شق أسود هائل، يقطع البياض كأنه نهر. ملأت نكانغا هذا الشق بحبوب القهوة ذكية الرائحة، وأوراق التبغ المقطعة، والقرنفل وتوابل أخرى شاع استغلالها واحتكارها في التجارة الاستعمارية في أفريقيا.” قدم هذا العمل لزوار المتحف تجربة محسوسة لرسالة نكانغا المناهضة للاستعمار، وهم يسيرون ونهر الروائح يشيع عبيره بينهم.
وقبل هذا العام، قدم صانع العطور كريستوف لودوميل لزوار معرض فني في بنيويورك تجربة شمية مختلفة تماما في عرض بعنوان “فوق الواحد والعشرين”، وضع على طاولة طعام عشر حاويات معدنية، معبأة بروائح مركبة لها ارتباطات جنسية صارخة، وطلب من الزوار أن يغمسوا قطعا من الورق النشاف في فتحة صغيرة في قمة كل حاوية، وأن يستنشقوا روائح تحمل أسماء مثل: الفيل المستثار، والجنية الخضراء في تشيلسي.
ويضيف شاينر “في عام 2015 استعرض متحف تنغولي في بازل مسحا لستين عملا فنيا شميا ما بين الماضي والحاضر. ولا تقتصر الفنون الشمية المعاصرة على الأعمال المعروضة في المتاحف والمعارض كالتي ذكرتها، فالمسرحية الدرامية الفرنسية ‘روائح الروح‘ 2012 أطلقت من تحت مقاعد المتفرجين عددا من الروائح ذات الصلة بقصتها، أما العرض الأوبرالي ‘الآريا الخضراء: أوبرا عطرية‘ 2009 فقد جمع في متحف غوغنهايم بين الموسيقى الإلكترونية والروائح التجريدية لسرد رسالة بيئية. ومن الملاحظ أن المصممين أخذوا يدمجون الروائح في كل تصاميمهم؛ مثل تصاميم الشوارع الحضرية، ومعطرات الجو المميزة لبعض الفنادق والأقمشة ذات الأنسجة العطرية.”
ويرى أن الأعمال الفنية والتصميمية الشمية التي كثر ظهورها اليوم تمثل مشكلات عويصة من منظور علم الجماليات، بل حتى من منظور الأخلاقيات، كونها قبلت ما كنا نظنه راسخا من المفاهيم التي تقول إن حواس الشم والتذوق واللمس إنما هي حواس متدنية. وما زالت تلك المفاهيم المتحيزة ضد الشم متغلغلة في أذهان الناس بسبب التاريخ الطويل من تجاهل حاسة الشم واحتقارها الذي أرسى مبادئه معظم المثقفين الغربيين، ومنهم دارون وفرويد.
لطالما عد المفكرون الغربيون المعاصرون الشم أحقر الحواس وأكثرها شبها بالطبيعة الحيوانية، وقابلوا العطور والبخور بالاستخفاف والنفور، فعدوا الأولى ترفا مبتذلا والثانية بدعة شعائرية. وما زاد الطين بلة أن تكون الروائح وعضوها الأنف مثارا للضحك ومستهدف الطرف؛ من حكاية نيكولاى غوغول الشهيرة عن الرجل الذي أضاع أنفه وبحث في كل نواحي موسكو عنه. إلى الفتيان الذين يقهقهون كلما أخرج أحدهم ريحا، إلى جون ووترز الذي وزع على حضور فيلمه “بوليستر” بطاقات يخدشونها فتطلق روائح مذكورة في الفيلم. حان الوقت كي نكبت ضحكاتنا ونسأل أنفسنا: لماذا نشعر بكل هذا الإحراج من أنوفنا وحاسة الشم؟
شاينر يستكشف في كتابه مختلف أشكال الفن التي تستخدم الروائح كالمسرح والموسيقى والنحت والتركيبات المعمارية وفن الطهي
ويشير شاينر إلى أن الفنانة واستشارية الروائح سيسيل تولاس جمعت ذات مرة عينات عرق من رجال يتعرضون من حين إلى آخر لحدوث نوبات هلع، وخلطتها في طلاء خاص استعملته لدهان جدران معرض فني أقيم في معهد ماستشوستس للتقنية عام 2006 بعنوان “الخوف من الرائحة ورائحة الخوف” حيث يتنقل الزوار في أرجاء غرفة العرض ويلمسون الجدران فتنبعث كل رائحة على حدة.
درست تولاس الكيمياء والفن، وتعمل لدى شركة النكهات والعطور الدولية، ومن تصاميمها ابتكار رائحة سويدية لمتاجر إيكيا، و”رائحة الموت” لمتحف عسكري ألماني، يحوي مختبرها ـ مرسمها في برلين أرشيفا ضخما من آلاف الروائح، منها براز الكلاب وقشر الموز والجوارب القديمة والنباتات الغريبة وأعقاب السجائر، والكثير من الزيوت العطرية والعطور الاصطناعية. ومما نجده في مختبرها قطع من اللباد طلبت من المتطوعين في تجربة نوبات الهلع تثبيتها تحت آباطهم ثم إرسالها إليها بالبريد.
إن مهمة تولاس هي حث الناس على تقدير روائح أجسادهم وروائح محيطهم اليومي. ولهذا كانت أعمالها الفنية تعبيرا عن هذه الرسالة، فلا وجود لروائح سيئة بطبيعتها، بل نحن نعيش في عالم يعبق بالآلاف من الروائح المتراكبة المميزة التي تنتظر من يكتشفها، ولهذا فإن لتولاس في ريادة الفن الشمي ما لجون كايج في فن الموسيقى.
ويوضح أنه “في عامي 2012 ـ 2013 قدم معرض ‘فن الرائحة: 1889 ـ 2012‘ الذي أقيم في متحف الفنون والتصميم في نيويورك للزائرين تجربة ماتعة قدمت الوجه الآخر من الروائح. كان المعرض اثنا عشر عطرا كلاسيكيا تذرّ في نفحات من تجاويف سطحية في الجدران، ومرفق بكل عطر اسمه وتاريخ تركيبه واسم صانعه، كأنها سلسلة من اللوحات المرسومة. وعندما تقرأ كتالوج المعرض الذي كتبه القيم على المتحف تشاندلر بور تجده مطعّما بالاستعارات المجازية من تاريخ الفن، فعطر ‘L Interdit‘ الذي ابتكره جيفنشي عام 1957 حمل في المعرض اسم ‘التعبيرية التجريدية‘، أما عطر ‘Issey L eau d ‘ الصادر عن إيسي مياكي عام 1992 فكان عنوانه ‘التقليلية‘. أراد بور من هذه المجازات الوهمية أن يقنع الزائرين أن العطور ـ كما صرح ـ أعمال فنية حقيقية، جميلة ومؤثرة جماليا، وتباري في قيمتها اللوحات والمنحوتات والموسيقى والعمارة والأفلام.”
بيئة للتأمل
يلاحظ شاينر أنه من جملة ما عرض في معرض الفن الشمي “رائحة الفن” عام 2015 بمتحف تنغولي في بازل، صورة واحدة معاصرة: صورة صنعتها الفنانة لويز بورجوا بالحفر الإبري عام 1999، عنوانها “رائحة الأقدام” وفيها صورة جانبية لوجه الفنانة وتحت أنفها قدمان، ويبدو أنها كانت مسؤولة في طفولتها عن نزع حذاء والدها كل مساء، فانحفرت في ذاكرتها رائحة قدميه.
يعد التمثيل التصويري لحاسة الشم قليلا نسبيا في تاريخ الفنون البصرية، باستثناء الرسوم الكرتونية واللوحات المتسلسلة التي تصور حواس الإنسان الخمس، وعادة ما تظهر هذه السلسلة في أوروبا الغربية امرأة في وضع رمزي يوحي بكل حاسة، فهي مثلا أنيقة وشابة وتحمل زهرة لتوحي بحاسة الشم، ولكن في سلسلة شهيرة من الصور المنسوجة على أقمشة النجود بعنوان “سيدة وأحادي القرن” عام 1500 تظهر السيدة وهي تنسج إكليلا من الزهور وعلى مقربة منها قرد يشم زهرة انتزعتها من باقتها.
ومن أشهر الأعمال الفنية المتسلسلة التي تتمحور حول تمثيل امرأة للحواس هي لوحات يان بروخل وبيتر بول روبنس “رمزية الحواس الخمس” عام 1617 ـ 1618. وتظهر في لوحة حاسة الشم امرأة متأنقة جالسة في حديقة الزهور، تقرب زهرة إلى أنفها، ولا يرى في الخلفية قردا بل أداة لتقطير العطور.
ويلفت إلى أن مخيلة أولئك الذين نشأوا على المنهج الشكلي في تأمل اللوحات لا تستحضر تجارب الآخرين في الشم والتذوق، حتى وإن اطلعنا على أعمال متقادمة في الزمن لا يخفى علينا مقصد صاحبها في استثارة استجابة لمحتواها الشمي، فإن أردنا نموذجا يبين لنا كيف يتخيل المرء روائح متمثلة في لوحة تخيلا يكاد يحيلها واقع، فهو في رواية “ضد الطبيعة” لجوريس ـ كارل ويسمانس، عندما يتخيل البطل دي إسانت ما يراه هيرودس في الأميرة سالومي في إحدى لوحات غوستاف مورو الشهيرة لها، وما يشمه هيرودس منها “مجنون بعري هذه المرأة المغمورة بعبق المسك، المنقوعة بالأطياب، المتبخرة بالبخور والمر.”
لا ندري طبعا إن كان مورو متعمدا أن تثير رسمته لسالومي استجابات شمية قوية، لكننا نعرف أن رساما حاول في نهاية القرن 19 تجسيد شعرية الرائحة عبر لوحاته: بول غوغان في تاهيتي في مرحلتين مختلفتين من حياته، ووصف الجزيرة وصفا أسطوريا من نتاج خياله، واهتم بأن تكون أسطورة متعددة الحسية، للرائحة فيها دور مهم، وأشهر ما سجل عن إقامته الأولى عنوانه “نوا نوا” وتعني بالماوية العطر، وكتب أنها تجسد “رائحة تاهيتي الزكية،” يقول دروبنيك إن “نوا نوا” ومذكرات غوغان وكتاباته الأخرى في تلك الحقبة تزخر بالإشارات إلى الروائح والعطور، ويشبه غوغان أسطرة نساء تاهيتي فيشبههن بالطبيعة البكر ويشبه روائحهن “بصغار الحيوانات المتعافية.. عطر مختلط، نصفه حيوان ونصف نبات.. عطر دمائهن والغاردينيا التي في شعورهن.”
ويتابع شاينر أنه خلال الأعوام 1996 ـ 2002 عرض بيتر دي كوبير سلسلة طويلة من “لوحات الصابون” التي تلاعبت قليلا بمفاهيم عرض اللوحات، ولكن بطريقة مجازية من أعمال مارفيك، لأن معظم ما سماه دي كوبير “لوحات” تتألف في الواقع من ألواح من الصابون المعطر، مرتبة في أشكال مستطيلة ومعلقة على الحائط بل إن أحد الألواح داخل إطار. وبالرغم من أنها إشارة واضحة إلى تقليد التجريد الهندسي في الرسم، فإنها تخلو من أيّ طلاء، ويمكن إذن أن تعد تكوينا نحتيا، وأنه ينتمي إلى تصنيفات الفن الشمي.
عدد الفنانين الذين يستعملون الروائح في أعمالهم الفنية في تزايد وآن الأوان لعلم الجماليات أن يلاحظ هذه الحركة ويدرسها
أما الصنف الثاني من التهجين بين الروائح واللوحات فهو بالطبع الأعمال المماثلة لعمل الفنانة سيسيل تولاس “الخوف من الرائحة ورائحة الخوف” 2006، الذي تضمن دمج الروائح في عملية كبسلة دقيقة مع الطلاء ودهان جدران المعرض بها. وعمل دي كوبير بأسلوب مماثل في ابتكار عمله الفني “لوحات الرائحة الخفية” الذي عرض عام 2014 في متحف مارتا ببلدة هرفورد الألمانية، وقد صور دي كوبير زواره بالفيديو وهم يسيرون بمحاذاة جدران المعرض ممسكين بالدليل يتحسسونه ويشمونه.
وفي العام نفسه ابتكر شون رازبيت “طلاء السطح الكبسولي”جزءا من أعمال معرضه “ترسبات” في معرض جيسيكا سلفر في سان فرانسيسكو، وكانت الروائح المعروضة تقطيرا وتركيزا لكل الروائح التي انبعثت في المعرض خلال أسبوع كامل؛ من روائح أسطح المعرض وروائح الأعمال الفنية وروائح مواد التنظيف وروائح أجساد الأشخاص. إن أعمال تولاس ودي كوبير ورازبيت تفتقر إلى الإطار التقليدي أو أي فاصل مرئي لكل جهة تمثل رائحة مختلفة، بل إن عمل رازبيت ما هو إلا رائحة واحدة مستمرة ولهذا فإن هذه الأعمال تختلف عن المنهج أحادي اللون الحديث.
ويخلص شاينر إلى أنه في كتابه هذا لم يهدف إلى القول إن الفنون الشمية أو العطرية بوضعها الراهن على مشارف ابتكار تحف فنية تضارع مسرحية “الملك لير” لشكسبير أو أوبرا “دون جيوفاني” لموزارت، أو لوحة “دورية الليل” لرامبرانت، أو فيلم “المواطن كين” لويلز، ولربما نرتضي من الفنون الشمية بأعمال أقل عظمة وخلودا من هذه التي ذكرت، نظرا إلى تلاشي خامتها الرائحية وميل حاسة الشم إلى الاعتياد السريع على وجود الرائحة، ومع ذلك أرى أن التقدم الذي حققته الفنون الشمية اليوم يتخطى بأشواط توقعات الفلاسفة بيردسلي وسبلي وسكروتن ودوتن.
ويضيف “مازلت أصر على قولي بأن لعبة ترتيب الصنوف الفنية أو حتى الممارسات الفنية تصرف جاهل ولا ننسى أن ثمة عمقا في تجربة كل مكونات الأشياء العادية، ومنها روائحها، تجربة حقيقية صحيحة. هذا ما يذكرنا به فلاسفة الجماليات اليومية ويعلمنا معلمو الزن، هذا ما يصفه المتصوفون، وما اكتشفه بروست عندما وجد أن رائحة مّا أو طعما مّا، رغم هوانها وزوالها قادرة على أن تحرر مكنون الأشياء. وتصبح هذه التجارب الشمية تجارب جمالية متميزة صدقا عندما تتضافر أبعادها العاطفية والتخيلية والفكرية والأخلاقية على نحو يوجد بيئة خصبة للتأمل والحديث، وما التأمل والحديث عن ارتباطاتنا الحسية بالعالم إلا المكون الأعظم من الجماليات.”