هيثم الزبيدي؛ الصديق والتلميذ والمعلم.. سنفتقدك

استطاع هيثم الزبيدي ومحمد الصالحين الهوني أن يتابعا مسيرة "العرب" رغم كل ما زرع في طريقهما من متاعب ورغم ما تعرضت له الصحافة الورقية من ضغوط مالية أثرت عليها.
الاثنين 2025/05/19
الزبيدي والهوني.. صداقة عمر

صحيفة “العرب” ليست صحيفة عادية، إنها معجزة صحافية؛ هكذا كانت تحت قيادة مؤسسها وربانها الأول، أحمد الصالحين الهوني، وهكذا استمرت بعد رحيله.

منذ اليوم الأول للتأسيس قرر الحاج الهوني أن “العرب” ليست مجرد صحيفة، بل أكاديمية يتخرج منها الصحافيون ورجال الإعلام. وهذا ليس مجرد ادعاء، بل ترجم حرفيًا على أرض الواقع.

لا أريد أن أعدد خريجي مدرسة “العرب” الذين تبوّأوا أعلى المناصب، ولكن سأتحدث عن تلميذ تفوق على أساتذته جميعًا، تلميذ هجر منصبًا أكاديميًا مهمًا في جامعة تُعد واحدة من أرقى جامعات بريطانيا والعالم، وأكثرها احتفاءً بخريجيها الحاصلين على جوائز نوبل في العلوم والفيزياء والرياضيات. سأتحدث عن هيثم الزبيدي.

رغم ما أعانيه من ضعف في الذاكرة بسبب التقدم في العمر، إلا أنني ما زلت أذكر اليوم الذي دخل فيه إلى مكتبي في صحيفة “العرب” بلندن شابٌ في مقتبل العمر. قدم نفسه باسم هيثم الزبيدي، وكان آنذاك في الرابعة والعشرين أو الخامسة والعشرين من عمره، يسأل عن فرصة عمل في الصحيفة.

◄ كان بمقدور الدكتور هيثم الزبيدي، لو أراد، أن يركب موجة الثورة الرقمية ويتحول إلى واحد من أباطرة المال والأعمال لكنه آثر أن يكمل الطريق في مهنة المتاعب

لا أعلم بالضبط لماذا لم أتردد في الترحيب به للعمل معنا، رغم أنه لا يمتلك أي خبرة سابقة في العمل الصحفي، إضافةً إلى أنه خريج قسم علمي (هندسة الكهرباء). لم يكن صعبًا أن أكتشف أن لغته العربية متميزة، وأنه يمكن الاستفادة منه في مهمة التدقيق اللغوي.

قد يكون السبب أنه عراقي تقطعت به السبل في لندن، بعد اجتياح صدام حسين للكويت، حين كانت بريطانيا تحتجز العراقيين تضامنًا مع الكويت.

من بين حوادث كثيرة جمعتنا، هناك حادث يجب أن يُذكر، حتى لا يطويه الزمن، فقد أكون الوحيد المطلع على تفاصيله. بعد فترة قصيرة من التحاق هيثم بالعمل -وكان قد انقطع عن دراسته بسبب الظروف التي يمر بها العراق- قرأت عن منحة دراسية معلن عنها في إحدى الصحف البريطانية، لا أذكر اسمها، لطلاب من نفس اختصاص هيثم، الرياضيات، لإكمال مرحلة الماجستير في إمبريال كوليدج (الكلية الإمبريالية للعلوم والتكنولوجيا والطب)، وهي واحدة من أرقى الجامعات البريطانية.

لفتُّ انتباه هيثم إلى الإعلان، وقلت له: لماذا لا تتقدم للمنحة؟ ابتسم، وكانت المرة الأولى التي أعرف فيها أنه ابن رئيس الوزراء العراقي محمد حمزة الزبيدي، وقال لي: هل سيقبل البريطانيون طالبًا عراقيًا، وابن رئيس وزراء في حكومة رئيسها صدام حسين، للدراسة مجانًا في إمبريال كوليدج؟ كان ردي آنذاك: نعم، إن كنت جيدًا كما تقول وكما أعتقد أنا، سيقبلون.

وهذا ما كان. قبل البريطانيون هيثم محمد حمزة الزبيدي، ليتخرج بعد بضع سنوات، حافظ خلالها على العمل معنا في صحيفة “العرب”، حاملاً شهادة الدكتوراه في علوم الهندسة والتحكم، ليتابع العمل في الكلية ذاتها، يشرف على منح شهادات الدكتوراه للطلبة الجدد، ويمثل بريطانيا في مؤتمرات علمية عالمية، ويقدم النصح والاستشارة لكبرى الشركات.

كان حب الصحافة قد تملّكه، وكان على استعداد للتضحية بكل شيء من أجل هذا الحب، ليس رغبةً في مطاردة الشهرة، وليس سعيًا وراء الثراء، بل إيمانًا منه بأهمية تغيير الواقع العربي الذي يعاني من الإحباط والتدهور، والوقوف في وجه مدّ الإسلام السياسي الذي كان في أوجه آنذاك.

وكان مشروعه الأول، الذي بدأه عازفًا منفردًا، هو موقع “ميدل إيست أونلاين” (MEO)، وكانت مهمته واضحة منذ البداية: التصدي لمد الإسلام السياسي -يمكن الرجوع إلى الموقع لاكتشاف الدور الكبير الذي لعبه في مواجهة هذا الخطر المتنامي.

◄ كان حب الصحافة قد تملّكه، وكان على استعداد للتضحية بكل شيء من أجل هذا الحب، ليس رغبةً في مطاردة الشهرة، وليس سعيًا وراء الثراء، بل إيمانًا منه بأهمية تغيير الواقع العربي

كان بمقدور الدكتور هيثم الزبيدي، لو أراد، أن يركب موجة التكنولوجيا والثورة الرقمية، ويتحول إلى واحد من أباطرة المال والأعمال، لكنه آثر أن يكمل الطريق في مهنة المتاعب.

عندما واجهت صحيفة “العرب” مصاعب مالية بعد تعرضها لنكستها الأولى بفقدان مؤسسها ورئيس تحريرها أحمد الصالحين الهوني، وبعد الفوضى التي خلّفها الربيع العربي، لم يتردد الدكتور هيثم الزبيدي في مدّ يده لـ”العرب”، عارضًا الشراكة بهدف إنقاذ الصحيفة، التي تعلم فيها مهنة الصحافة، ونمت فيها بينه وبين الأستاذ محمد الهوني صداقة عميقة.

استطاع الزبيدي ومحمد الصالحين الهوني أن يتابعا مسيرة “العرب” رغم كل المتاعب، ورغم ما تعرضت له الصحافة الورقية من ضغوط مالية بتأثير من التطور التكنولوجي ووباء كورونا لاحقا.

بجهود فريق محدود العدد من البحارة المتمرسين، الذين تخرجوا جميعًا من أكاديمية “العرب”، استطاعت الصحيفة ليس فقط الاستمرار، بل احتلال مكانة الصدارة دون منازع، كمصدر للتحليل والمعلومات التي يمكن الوثوق بها.

على مدى 35 عامًا، تابعت كيف نما عود هيثم الزبيدي، ليصبح تلميذ الأمس في الصحافة، أستاذًا لا يجاريه أحد. رغم ذلك، كان يصرّ على أن يذكّرني دائمًا بأنني كنت أستاذه الذي تعلم الصحافة على يديه. وكنت أرد عليه دائمًا بأنه التلميذ الذي تفوق على أستاذه. وأعيد على مسامعه حكاية لا أمل من تكرارها حول بيكاسو ووالده، خوسيه رويث بلازكو، الذي كان أستاذًا للرسم والتصوير في إحدى مدارس الفنون في إسبانيا، وأمينًا للمتحف المحلي ومتخصصًا في رسم الطيور والطبيعة. ولعب دورًا كبيرًا في تعليم بيكاسو أساسيات الرسم والتصوير الزيتي منذ سن مبكرة، ويُقال إنه توقف عن الرسم تمامًا عندما رأى موهبة ابنه، وهو في الثالثة عشرة من عمره، تتفوق على موهبته.

لم يبخل الدكتور هيثم على العاملين معه بالمعرفة والتدريب، وأنشأ جيشًا صحفيًا، صحيح أنه لا يتجاوز العشرات، لكنه جيش أثبت أنه لا يُهزم، وقادر على الاستمرار في المهمة التي بدأها أحمد الصالحين الهوني، وتابعها الزبيدي والهوني الابن.

غادرنا هيثم مبكرًا بعد أن أخفى خبر مرضه بالسرطان لمدة قاربت ست سنوات، كان خلالها يعمل بلا توقف، حتى تحت تأثير المسكنات. لم يهزم أمام المرض ولم يستسلم إلا في الأيام الأخيرة.

بعد عامين ستحتفل “العرب” بعيد ميلادها الخمسين (اليوبيل الذهبي)، لتتحول إلى إرث للبشرية لا يمكن محوه. هذا وحده يكفي للوقوف إلى جانبها لتتابع إبحارها.

وداعًا، الصديق والابن والتلميذ والمعلم هيثم الزبيدي… وداعًا يا أرقى وأنبل من عرفتهم… سنفتقدك.

9