هل تستطيع التكنولوجيا منافسة الإبداع السينمائي البشري

يتخوف الكثير من العاملين في القطاع السينمائي حول العالم وخاصة في هوليوود، رائدة الإنتاج السينمائي، من الذكاء الاصطناعي، ويراه البعض مدمّرا للقطاع سيضع حدا للإبداع البشري، إلا أن نظرة شاملة لتاريخ السينما وأهم آراء المفكرين والفلاسفة تؤكد أن الإبداع البشري لا نهاية له وأن الذكاء الاصطناعي لن يكون سوى عنصر مكمّل للسينما يعزز قدرتها على التأريخ للشعوب.
تعتبر السينما أم التكنولوجيا كونها تجسيدا للإبداع البشري الذي يمزج الرؤية الفنية بالتقنية لصياغة أعمال تحمل نبض العاطفة وتعبر عن تجارب الإنسان وأحلامه من خلال رؤية إخراج بشرية، وكتابة درامية حية، وموسيقى تصويرية إنسانية، بينما صعود الذكاء الاصطناعي القادر اليوم على إنتاج أفلام كاملة تشمل النصوص، والمشاهد، والألحان، يطرح إشكالية جوهرية: هل تستطيع هذه الأعمال الآلية أن تنافس أصالة السينما البشرية وعمقها؟ ففي حين يعتمد الذكاء الاصطناعي على البيانات والخوارزميات لمحاكاة الإبداع، تظل السينما التقليدية متأصلة في الخيال الإنساني والحساسية الفنية والتجربة الشخصية التي لا تُختزل إلى أنماط رياضية. فهل يُعد الذكاء الاصطناعي أداة تحاكي الإبداع السينمائي أم خطرا يهدد بتجريد الفن من روحه الإنسانية؟
تشكل السينما فضاء فنيا يعكس تعقيدات التجربة البشرية، إذ تمتزج الرؤية الإخراجية بالعاطفة والسياق الثقافي لتعبر عن جوهر الوجود، ويتجلى هذا الفن في قدرته على التقاط اللحظات الإنسانية، سواء عبر السرد البصري أو التفاعل العاطفي مع الجمهور، في حين يتقدم الذكاء الاصطناعي كقوة تكنولوجية تسعى لمحاكاة هذا الإبداع من خلال خوارزميات تعتمد على تحليل البيانات وتوليد المحتوى، ويثير هذا التقابل نقاشا حول ما إذا كان بإمكان التكنولوجيا أن تنافس السينما أو تحل محلها، خاصة في ظل النظريات السينمائية التي تؤكد على الطابع الإنساني للفن.
السينما تعمل كأرشيف للتجربة الإنسانية حيث توثق اللحظات التاريخية والثقافية بطريقة تجمع بين الواقعية والتعبير الفني
وتستمد السينما الفنية قوتها من الرؤية الشخصية للمخرج، التي تتشكل من تجاربه الحياتية والثقافية وتفاعله مع العالم، ويؤكد أندري بازان في نظريته عن الواقعية السينمائية أن السينما تملك القدرة على التقاط الحقيقة الإنسانية بطريقة فريدة، وتعتمد على التفاعل بين المخرج والواقع، وهذا يمنحها بعدا فلسفيا يتجاوز كونها تقنية، ويبرز هذا الطابع في قدرتها على استكشاف قضايا وجودية عالمية، ويظهر فيلم “المواطن كين” لأورسون ويلز كمثال على هذا الإبداع، فهو يستخدم تقنيات بيديه، مبتكرة مثل الزوايا البصرية والإضاءة وتكوين اللقطات ليبين قصة حياة صحافي متمرد، بينما يعتمد الذكاء الاصطناعي على معالجة الأنماط الموجودة، لكنه يفتقر إلى السياق الإنساني المعيش والذي يشكل أساس هذه الرؤى، ويجعل هذا الافتقار محاكاته للأعمال الفنية محدودة، فينتج محتوى يعتمد على البيانات دون أن يحمل العمق الفلسفي أو التجربة البشرية، وهنا تظل السينما بهذا المعنى فضاء للإبداع البشري الذي يتحدى القيود التكنولوجية.
وتكمن قدرة السينما في تحويل السير الذاتية البشرية والروايات إلى تجارب بصرية تحمل بصمة إنسانية، إذ يصبح المخرج مؤلفا يعيد تشكيل النص بناءً على رؤيته الفنية، ويشير سيرجي آيزنشتاين إلى أن السينما عملية إبداعية تعتمد على المونتاج والصورة لإعادة بناء الواقع بطريقة تشحن العاطفة الإنسانية، وتتجلى هذه العملية في قدرة السينما على استحضار القضايا الإنسانية، سواء كانت تاريخية أو شخصية، بطريقة تجمع بين الواقعية والتعبير الفني، ويظهر فيلم “قائمة شندلر” لستيفن سبيلبرغ كمثال بسيط، فهو ينقل قصة حقيقية عن الإنسانية وسط المحرقة باستخدام التصوير بالأبيض والأسود لتعزيز الشعور بالواقعية، في حين يعتمد الذكاء الاصطناعي على قواعد بيانات محدودة، يجعله غير قادر على محاكاة الاختيارات الإبداعية التي يتخذها المخرج بناء على تجربته الشخصية أو فهمه للسياق التاريخي، وتثبت هذه القدرة أن السينما تملك تفردا سرديا يتجاوز الإمكانيات التكنولوجية، وتظل أداة للتعبير عن الهوية البشرية مهما تقدمت التكنولوجيا.
وتشكل الموسيقى التصويرية عنصرا حيويا في دائرة التجربة السينمائية، كونها تعمل كجسر عاطفي يربط الفيلم بالجمهور، ويرى تيودور أدورنو أن الموسيقى السينمائية عنصر بنائي يشكل السرد وتوجيه التأثير العاطفي، وهذا يجعلها جزءا لا يتجزأ من الهوية الفنية للفيلم وتتجلى هذه الوظيفة في قدرتها على خلق التوتر، أو الخوف، أو الحنين، التي ترسخ الفيلم في الذاكرة الجماعية، ويبرز عمل جون ويليامز كمثال بسيط، عندما يخلق الإيقاع المتسارع إحساسا بالتهديد يصبح رمزا للفيلم، ويستطيع الذكاء الاصطناعي إنتاج ألحان عبر نماذج، لكنه يفتقر إلى القدرة على التقاط السياق الثقافي والعاطفي الذي يمنح الموسيقى قوتها التعبيرية الإنسانية، إذ تظل الموسيقى التصويرية دليلا على تفوق السينما كفن يعتمد على التجربة البشرية لخلق تأثير عاطفي دائم.
وتتميز السينما بقدرتها على إقامة تواصل عاطفي مع الجمهور، حينما تستحضر القضايا الإنسانية، وتشير لورا مولفي في نظريتها عن النظرة السينمائية إلى أن السينما تخلق تجربة مشتركة تعتمد على التفاعل بين الصورة والمشاهد، يجعلها وسيطا فريدا لنقل العواطف.
وتتجلى هذه القدرة في الأفلام التي تتناول قضايا مثل العدالة، أو الحرية، أو المعاناة، عندما يصبح الأداء التمثيلي والرؤية الإخراجية أدوات لخلق تعاطف جماعي موحد، ويبرز فيلم “12 عاما من العبودية” لستيف ماكوين كمثال بسيط، لأنه ينقل معاناة العبودية عبر أداء تشيويتيل إيجيوفور، وتثبت هذه الخاصية أن السينما تملك قوة إنسانية لا يمكن للتكنولوجيا محاكاتها بالكامل.
وتتجاوز السينما القوالب التقليدية من خلال قدرتها على التجريب وإعادة تعريف السرد البصري، إذ يرى جيل دولوز أن السينما فضاء زمني يعيد تشكيل إدراكنا للواقع، وتتيح للمخرج استكشاف أبعاد فلسفية ونفسية حقيقية، وتتجلى هذه الحرية في الأفلام التي تتحدى التوقعات وتفتح آفاقا جديدة للتفسير، ويبرز فيلم “بيرسونا” (1966) لإنغمار برغمان كمثال بسيط، عندما ستكشف الصراعات النفسية عبر تقنيات بصرية تتحدى الأطر التقليدية، بينما يعتمد الذكاء الاصطناعي على الأنماط الموجودة عنده سابقا مخزنة، وهذا يحد من قدرته على إنتاج أعمال تحمل هذه الجرأة الإبداعية، وتظل السينما بهذا المعنى، ملاذا للإبداع غير المقيد، ويظل المخرج قادرا على تحدي القواعد بطرق لا يمكن للتكنولوجيا التنبؤ بها.
وتعمل السينما كأرشيف للتجربة الإنسانية حيث توثق اللحظات التاريخية والثقافية بطريقة تجمع بين الواقعية والتعبير الفني. ويؤكد أندري بازان أن السينما تملك القدرة على الاحتفاظ بالزمن، وهذا يجعلها أداة فريدة للحفاظ على الذاكرة الجمعية، إذ تتجلى هذه الوظيفة في الأفلام التي تستحضر السياقات الاجتماعية والثقافية، والتي تصبح وسيلة لفهم الهوية الإنسانية عبر العصور.
في هذا السياق يبرز فيلم “قصة طوكيو” لياسوجيرو أوزو كمثال على تصوير العلاقات الأسرية بحساسية تعكس التحولات في المجتمع الياباني، وهنا أيضا يفتقر الذكاء الاصطناعي إلى التجربة الحياتية التي تمكن السينما من توثيق هذه اللحظات بصدق، بينما تثبت السينما تفوقها كفن يعبر عن الروح البشرية بطرق لا يمكن للذكاء الاصطناعي محاكاتها، إذ تعتمد الأفلام الفنية، مثل “الساموراي السبعة” لأكيرا كوروساوا، على الرؤية الإخراجية والتفاعل الإنساني معها، وهذا يجعلها خالدة في الذاكرة الجماعية.
لننظر إلى السينما كفن عظيم يجمع بين الخيال البشري والتكنولوجيا المتقدمة، فمنذ اختراع الكاميرا الأولى إلى عصر الإنتاج الرقمي، شكلت السينما جسرا يربط بين العقل الإبداعي والأدوات التقنية لرواية القصص التي تترك أثرا في النفوس، فالمخرجون ينسجون رؤاهم من خلال اختياراتهم الفنية، والكتاب يصوغون حوارات تحمل نبض الحياة، والموسيقيون يؤلفون ألحانا تحرك العاطفة الإنسانية، تجعل كل عمل سينمائي تعبيرا فريدا عن التجربة الإنسانية، ومع صعود الذكاء الاصطناعي الذي بات قادرا على توليد نصوص وصور وحتى موسيقى، يبرز السؤال حول إمكانية أن يحل هذا الذكاء محل الإبداع البشري؟
يمكن القول إن الذكاء الاصطناعي رغم قدراته المذهلة على تحليل البيانات وتكرار الأنماط، فهو لا يمكن أن يضاهي الإبداع السينمائي البشري الذي ينبع من الخيال والحساسية الإنسانية، لذلك سيظل الفن السينمائي تجربة متفردة تتجاوز حدود التكنولوجيا، فهو يعبر عن الروح البشرية بأبعادها العاطفية والفكرية.