اختلال معايير الفقر في مصر يعمق أزمات الملايين من البسطاء

الحكومة تتمسك برفض التعامل مع مظلة الحماية الاجتماعية كحق مكتسب.
السبت 2025/05/17
تكافل وكرامة

وسط جدل مجتمعي متصاعد، تواجه الحكومة المصرية انتقادات حادة بعد حذفها الملايين من الأسر من برامج الدعم الاجتماعي بدعوى تحسن أحوالهم، لكن روايات البسطاء، تكشف عن خلل عميق في معايير تقييم الفقر، وتسلط الضوء على فجوة متنامية بين الواقع الشعبي المأزوم والرؤية الحكومية.

القاهرة - استقبل المصري محمود جمعة، وهو رب أسرة من خمسة أفراد، قرار الحكومة بحذف ثلاثة ملايين أسرة من برامج الحماية الاجتماعية بحجة تحسن أحوالها، بابتسامة لا تخلو من امتعاض، حيث يسعى منذ قرابة عامين للحصول على مساعدات حكومية كباقي الفقراء، لكن دائما ما يأتي الرد بأنه لا يستحق، وعندما يسأل عن السبب، يُقال له من مسؤولي الضمان الاجتماعي، إن شروط الفقر لا تنطبق عليه بالقدر الذي يتيح له تلقي مساعدات.

ولا يعمل جمعة في وظيفة حكومية أو خاصة، بل يعمل في محل صغير لبيع الخضراوات في حي المطرية الشعبي بالقاهرة، معقبا “لا أمتلك وحدة سكنية، ولا مشروعا كبيرا أو صغيرا أو سجلا تجاريا، حتى يتم حرماني من الدعم المالي الذي توفره الحكومة للفقراء، لكن يبدو أن لديها حسابات أخرى للفقر لا أعرفها، وكل ما أنا متأكد منه، أن ظروفي المعيشية بالغة الصعوبة، لذلك تركت أسرتي في صعيد مصر كي أعمل في القاهرة بائعا للخضراوات.”

وبررت الحكومة على لسان وزيرة التضامن الاجتماعي مايا مرسي خروج الملايين من الأسر من برامج الدعم الاجتماعي بتحسن وضعها الاقتصادي، وأن 7.7 مليون أسرة استفادت من برنامج تكافل وكرامة على مدار عشر سنوات مضت خرج منها ثلاثة ملايين بعد تحسن أحوالها، مثل امتلاك جرار زراعي أو فدان أرض أو مشروع صغير، ما يعكس هذا، إلى أي درجة تعاني الحكومة من خلل واضح في تقييم الفقر.

وقالت الوزيرة “هناك آلية تقييم لأوضاع البسطاء تحدث كل ثلاث سنوات، ومن يخرج من منظومة الدعم الحكومي يدخل مكانه آخرون، وكل من يسقط من مظلة الحماية الاجتماعية يعني أن ظروفه المعيشية تحسنت إلى الأفضل ويستطيع أن يُسيّر أموره بعيدا عن المساعدات الشهرية التي تقدمها الحكومة”، معترفة بأن مؤشر الفقر في مصر يترواح بين 29 و32 في المئة، وثمة الملايين من الطلبات التي تبحث عن دعم الدولة.

◙ بلا وظيفة أو سكن
◙ بلا وظيفة أو سكن

تحذف الحكومة كل من تراه لا يستحق مساعدات من منظومة الحماية الاجتماعية، كمن امتلك منزلا به أجهزة كهربائية، وسط تحفظ مجتمعي، لأن ذلك من الحقوق الطبيعية لأي أسرة في أن تجد سكنا يأويها وأجهزة تعتمد عليها، وهذا لا يعني أنها تعيش في ترف وأصبحت تستغني عن المساعدات، بقدر ما أنها قد تكون ظروفها المعيشية بالغة الصعوبة وتلقت مساعدات من جمعيات ومؤسسات خيرية سهلت لها السكن، لكنها بقيت فقيرة كما هي.

من هؤلاء، الأب جمعة، الذي تقدم إلى إحدى الجمعيات الخيرية في صعيد مصر طالبا المساعدة في تجهيز منزله لأن ظروفه المادية لا تسمح له بذلك، لكنه لا يعرف تحديدا ما إذا كان هذا السبب وراء رفض إدراجه ضمن منظومة الحماية الاجتماعية أم لا، وكل ما يعرفه أنه “فقير وعاجز عن تلبية المتطلبات الأساسية لأولاده الذين يدرسون في مراحل تعليمية مختلفة، وليست لديه وظيفة قارة أو دخل معقول”.

وصادق مجلس النواب المصري على قانون الضمان الاجتماعي مؤخرا، وتضمن شروطا صارمة للدعم الذي تقدمه الدولة تحت مسمى “تكافل” لكل مواطن لا يتمتع بنظام التأمين الاجتماعي، وغير قادر على إعالة نفسه وأسرته، وفي حالات العجز عن العمل والشيخوخة، وأعطى الحق لكل رب أسرة يعيش في خط الفقر أن يتقدم بطلب للحصول على مساعدات شهرية، لكن هناك تعقيدات إدارية تحول دون توسيع دائرة الحماية الاجتماعية لتشمل شريحة واسعة من المجتمع.

ولا يعني التحرك الحكومي بحذف الملايين من الأسر من الدعم لتحسن ظروفها، أن الأوضاع المعيشية إيجابية، والأزمة الاقتصادية انتهت، بل يعني وجود مشكلة حقيقية لدى بعض الدوائر المعنية بمظلة الحماية الاجتماعية في تصنيف الفقر وإثباته والوصول إلى البسطاء على الأرض بعيدا عن التقارير الرسمية التي تحاول تجميل الصورة وتبييض وجه الحكومة بأنها نجحت في محاصرة الفقر ورفعت من مستوى المعيشة.

كما أن الإيحاء بتحسن ظروف الملايين من البسطاء لا يعني أنهم يعيشون في نعيم، وكل ما في الأمر أن الحكومة تريد القول إنها عندما تدخلت بمساعدات للفقراء، تراجعت معدلات الفقر وأصبحت الظروف أفضل حالا لشريحة كبيرة من الأسر، بما يتناقض مع الواقع على الأرض من انتشار الجمعيات الخيرية وانخراط الأحزاب في تقديم مساعدات وزيادة معدلات إعلانات ما يسمى بـ”التسول” التي تحض المقتدرين على التبرع للفقراء، وهي شواهد تبدو الحكومة كأنها تتعمد إغفالها.

مظلة محكمة للحماية

قال رئيس اللجنة الاقتصادية بحزب الوعي كريم العمدة إن هناك شريحة لا تستحق الدعم فعلا وموجودة بمظلة الحماية الاجتماعية، وتنقيح قوائم المستفيدين من المساعدات ضروري كل فترة، لكن العبرة في كيفية إثبات الفقر وشواهده، ووجود غير مستحقين ضمن منظومة الدعم يضر بالفقراء الحقيقيين، ما يستدعي وضع معايير صارمة للدعم لتضمن الدولة تحقيق الهدف بحماية البسطاء من تداعيات الظروف الاقتصادية.

◙ أمام الظروف المعيشية الصعبة من المهم تعريف الفقر وشواهده بشكل واقعي لأن حسابات البسطاء تختلف عن رؤية الحكومة

وجزء من تداعيات الجدل المرتبط بحذف الملايين من الأسر من الدعم النقدي أن شريحة ليست قليلة من المشمولين بمظلة الحماية الاجتماعية اعتادت الاعتماد على الحكومة لتسيير شؤون حياتها، وأصبحت المساعدات بالنسبة لها حقا مكتسبا لا يجوز الاقتراب منه تحت أي ظرف، وإن تغيرت ظروفها، انطلاقا من أن الأموال المقدمة لها واجبة على الدولة وهي نظرة تتحفظ عليها الحكومة بدوائرها المختلفة.

وأضاف كريم العمدة لـ”العرب” أن قانون الضمان الاجتماعي يتيح مراجعة حالات استحقاق الدعم كل فترة لدراسة استمرار المساعدة المالية أو تعديلها، ومن الصعب انسحاب الحكومة من مظلة الحماية الاجتماعية مهما كانت الظروف الاقتصادية، وأمام الظروف المعيشية الصعبة من المهم تعريف الفقر وشواهده بشكل واقعي، لأن حسابات البسطاء تختلف عن رؤية الحكومة ومطلوب التوازن بينهما بعقلانية استنادا إلى الواقع على الأرض.

وجزء من المشكلة أن الحكومة لا ترغب في استمرار ظهور المجتمع المصري بأنه يعاني الفقر وغلاء المعيشة والإنهاك الصحي والتعليمي لذلك تتعمد إظهار تحسن الظروف كل فترة، باعتبار أنها تتعامل مع مظلة الحماية الاجتماعية وما يخصها من خدمات على أنها أساس حقوق الإنسان وأي تقصير فيها يوحي بأن الحكومة تدين نفسها أخلاقيا وحقوقيا، لأنها تتجاهل مطالب البسطاء كأكبر شريحة سكانية بالمجتمع.

ويخشى الملايين من الفقراء في مصر أن تكون المعايير التي تستند عليها الحكومة في تعريف الفقر وتصنيف الظروف المعيشية، بداية لتقييد الدعم النقدي إلى الحد الأدنى أمام الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي تواجه الدولة، وبدأ يتم التسويق لفكرة أن هناك شريحة خرجت من الدعم ولا تستحق الاستمرار، ما يوحي بوجود توجه نحو الانسحاب التدريجي من ورطة الدعم بوضع شروط عدة يصعب تطبيقها على الكثير من الأسر.

القائد الإنساني

◙ نهج يتقاطع مع توجهات السلطة
◙ الطبقات الفقيرة بحاجة ملحة إلى شبكات أمان

ما يلفت الانتباه أن النهج الذي تتعامل به الحكومة مع الفقراء يتقاطع مع توجهات الرئيس عبدالفتاح السيسي الذي يتعامل مع تلك الشريحة بخصوصية، ونجح إلى حد كبير في تكوين قاعدة شعبية عند الفئة المجتمعية التي تتشكل من البسطاء، حيث يوجه إليهم خطابات استثنائية ويصر على حمايتهم من دوامة الفقر والغلاء مع كل أزمة تضخم وأصبح في نظرهم القائد الإنساني الذي يتدخل لإنقاذهم من سقطات الحكومة.

وغاب عن بعض الجهات الرسمية التي لديها معايير تبدو مختلة بشأن الفقر أن الزيادات المستمرة في أسعار السلع والخدمات الأساسية، تسببت في انحدار شريحة من المصريين كانت في الطبقة المتوسطة، وهبطت إلى الطبقة الفقيرة وأصبحت في حاجة ملحة إلى شبكات أمان اجتماعي، لكن المعضلة تظل في الآلية التي يتحدد من خلالها مدى استحقاق الأسر للدعم أم لا، فقد يكون العائل موظفا لكنه يُعاني من ظروف تتجاوز وضعية الفقر.

وإذا كانت خطة ترشيد الدعم النقدي مطلوبة لإقصاء غير المستحقين من مظلة الحماية الاجتماعية، فالتعاطي مع الملايين من البسطاء الحقيقيين يتطلب حسابات سياسية دقيقة، لأنهم اعتادوا تسيير أمورهم الحياتية وتوفير الحد الأدنى من متطلباتهم اعتمادا على مساعدات الحكومة، وإذا تراخت أو قيّدت هذا الدور، قد تتسلل جمعيات وتيارات إسلامية لتعويض غيابها واستقطاب البسطاء، لتتكرر مآسي الحق السياسية السابقة.

وتوجد دوائر رسمية مقتنعة بأن الدعم الموجه إلى الفقراء سواء استمر أو انقطع، فإن حياة شريحة كبيرة منهم لن تتأثر بالقدر الذي تروج له أصوات معارضة، لأنهم اعتادوا تسيير حياتهم وفق الحدود المتاحة وبإمكان هذه الشريحة أن تستغني عن المساعدات الحكومية بشكل كلي اعتمادا على الاقتصاد الخفي لهم، وثمة شواهد أثبتت لصانع القرار السياسي أن الفقراء في مصر ليسوا جميعهم يعانون الجوع والعوز.

ويقول متابعون إن الحكومة ما لم تكن حكيمة في إدارة علاقتها بالبسطاء، قد تصطدم بأزمة معقدة ترتبط بارتفاع منسوب التمرد عند الفقراء وضياع نجاحات تحققت في استمالتهم بما يهدد الاستقرار الأمني والسياسي في توقيت حرج، وحتى لو كانت البلاد تعاني صعوبات اقتصادية يجب أن يظل الفقراء تحت أعين الحكومة طوال الوقت كي لا ينفرط العقد وتجد نفسها في مواجهة شريحة ليس لديها ما تخسره.

16