الإعلام الأردني بين فزعة اللحظة واستحقاق المعركة المقبلة

عشقنا الأردن.. لا ساعة رخاء فقط، بل في العواصف والشدائد. نحبه كما يُحب الجندي أرض معركته، لا يساوم عليها، ولا يرضى أن تُخترق أو تُشوّه. فالوطن ليس مجرد حدود، بل هو رواية، وإذا لم نحسن روايتها بأنفسنا، كتبها الآخرون بأقلامهم ومصالحهم.
من هنا، نطرح سؤالا مستحقا، هل تدرك الدولة الأردنية أن إعلامها الرسمي ما زال يعمل بمنطق “الفزعة”؟ وأنه يفتقر إلى الاستباقية التي باتت ضرورية في زمنٍ تُصنع فيه المعارك الكبرى بالكلمة قبل الرصاصة؟
تكرّرت أمامنا مشاهد الارتباك الإعلامي في مواقف مفصلية، لكن أحد أبرز الأمثلة التي يجب أن تُراجع بجدّية، كانت خلال زيارة الملك عبدالله الثاني إلى الولايات المتحدة ولقائه بالرئيس الأميركي دونالد ترامب. حينها، تسللت إلى بعض وسائل الإعلام الغربية رواية مشوّهة عن مضمون اللقاء، حملت مغالطات خطيرة في الترجمة والتحليل، ما أثار لغطا داخليا وإقليميا. والمفارقة أن الإعلام الأردني تأخر في التصحيح والتوضيح، فكان ردّ فعله أضعف من الهجمة ذاتها، ما أتاح للرواية المغلوطة أن تنتشر أولا وتترسخ في أذهان المتلقين.
◄ الأردن، بما يملكه من ثقل سياسي وقيادة تحظى باحترام دولي، لا يليق به أن يُترك إعلامه الرسمي أو الخاص دون تطوير جذري
هذا المثال لم يكن حالة استثنائية، بل هو عرض لمشكلة أعمق، إعلام لا يملك أدوات المبادرة، ولا يتمتع بسرعة الحركة، ولا يرتكز على مؤسسات تحليلية حقيقية. بل يُدار غالبا بمنطق الاستجابة الطارئة، لا الرؤية الإستراتيجية.
إننا نعيش في زمن أصبحت فيه “السردية” الوطنية جزءا من أمن الدولة. الإعلام اليوم لم يعد ناقلا محايدا، بل أصبح فاعلا مباشرا في تشكيل الوعي الجمعي، وفي تعزيز – أو إضعاف – ثقة الداخل والخارج بمواقف الدولة وسياساتها. ومن هنا، فإن تأخر الإعلام الوطني في التجاوب مع الأزمات، أو الاكتفاء بنفي متأخر، لم يعد مقبولا في بيئة دولية وإقليمية عالية التنافس والخطورة.
وما يعانيه الإعلام الأردني ليس استثناء في المشهد العربي العام، فثمة فجوة بين مراكز القرار والخطاب الإعلامي في العديد من الدول، تتجلّى في ضعف التنسيق، وغياب غرف العمليات الإعلامية الموحدة، وندرة الكفاءات القادرة على إدارة الأزمات المعلوماتية باحترافية.
لكن الأردن، بما يملكه من ثقل سياسي وقيادة تحظى باحترام دولي، لا يليق به أن يُترك إعلامه الرسمي أو الخاص دون تطوير جذري. فالمعركة المقبلة – شئنا أم أبينا – ستكون في جزء كبير منها معركة وعي، تُخاض عبر الشاشات والمنصات، لا فقط عبر الدبلوماسية أو السياسة الأمنية.
◄ تكرّرت أمامنا مشاهد الارتباك الإعلامي في مواقف مفصلية، لكن أحد أبرز الأمثلة التي يجب أن تُراجع بجدّية، كانت خلال زيارة الملك عبدالله الثاني إلى الولايات المتحدة
لهذا، لا بد من إعادة هيكلة المنظومة الإعلامية الأردنية، بما يشمل:
• إطلاق مركز تحليل إعلامي إستراتيجي يعمل على تفكيك السرديات المعادية قبل أن تنتشر.
• تمكين الإعلاميين الأردنيين من العمل بحرية ومسؤولية، ضمن بيئة مهنية لا تُعاقب الاجتهاد، بل تكافئه.
• إنشاء وحدة إعلام أزمة متخصصة ترتبط مباشرة بمراكز القرار، وتعمل على مدار الساعة.
• تعزيز الرواية الوطنية بأساليب حديثة ومقنعة، موجهة ليس فقط للداخل، بل للرأي العام الإقليمي والدولي.
في النهاية، نحن لا نتلكم من باب المزايدة، بل من باب الانتماء. لأننا نعلم أن ما نملكه في الأردن من شرعية سياسية وحكمة قيادة، يستحق إعلاما في مستوى التحدي، لا يتلعثم في لحظة الخطر، بل يكون في مقدمة الصفوف.
إن صيانة الرواية الوطنية لم تعد ترفا، بل ضرورة وجودية في عالم تُحسم معاركه بالكلمة كما تُحسم بالسلاح.