دولة المواطنة علاج العقول المتحجرة

حرية التعبير ليست قرارا سياسيا بل مولود يستحق العناية والرعاية اللازمتين.
الثلاثاء 2025/05/13
المجتمع الجزائري لا يزال بعيدا عن القبول ببعضه البعض

بدت هشاشة غير عادية على أوصال المجتمع الجزائري، مع اختبار فجائي بسيط، فقد كان مجرد التعبير عن رأي أو فكرة بشأن واحد من مكونات الهوية الوطنية، كافيا لخلق حالة استقطاب وشحن كبير للعواطف، حتى يخيل أن مواجهة بين الأنصار والخصوم قاب قوسين أو أدنى.

وموقف المؤرخ والباحث محمد الأمين بلغيث، رغم المآخذ والانتقادات التي يمكن أن توجه له، ليس جديدا أو غريبا على نقاش المكون الأمازيغي في الجزائر، إلا أن الجدل الصاخب المتفجر في الآونة الأخيرة، يؤكد أن المجتمع الجزائري لا يزال بعيدا عن القبول ببعضه البعض، وأن نسمة بسيطة من رياح الجيل الخامس، يمكن أن تعصف به.

ويبدو أن المقاربة التي قدمتها السلطة على مر العقود الأخيرة، من أجل معالجة قضية المكون الأمازيغي في الهوية الوطنية، لا تحمل الوصفة العلاجية الناجعة، فقد غلبت عليها الشعارات السياسية والمظاهر الفلكلورية، ففي ككل مناسبة خاصة من اعتماد رأس السنة الأمازيغية، عيدا وطنيا يوما مدفوع الأجر للفئة العاملة، تبرز المظاهر الاستعراضية الرسمية والشعبية، وكأنه لا شيء ينغص على القضية.

لكن ردود الفعل التي أثارها تصريح محمد الأمين بلغيث، بما في ذلك إحالته على السجن وتوجيه تهم ثقيلة له، عرت البنية الاجتماعية والفكرية للجزائريين، خاصة في ما يتعلق بغياب النقاش الحقيقي حول “الطابوهات” الكبرى، والافتقاد لثقافة الحوار والقبول بالآخر، فمجرد رأي أو فكرة تصاعدت لهجة التجريم والعقاب، وكاد البعض أن يتحول إلى مُخبر للإبلاغ عن تجاوزات خطاب الكراهية والعنصرية، وإذا حقق خصوم بلغيث هدفهم بعد سجن الرجل، فإن خصوم لويزة حنون وعثمان معزوز، اللذين أهانا العروبة والعربية والعرب في أرضهم، يأكلهم الغضب والحنق، لأنهما حران طليقان ولا طرف يتابعهما بنفس تهم بلغيث.

هذا السياق الهش، أماط اللثام عن مدى خطورة سياسة الغلق وتكميم الأفواه المنتهجة منذ سنوات، خاصة في ما يتعلق بالمسائل الحساسة التي تهم المجتمع، وإذ ساد الاعتقاد لدى المعنيين بأن خطر الانفجار الداخلي قد زال تماما، إلا أن الأخطر أنها لم تعد تعلم كيف وفي ماذا يفكر المجتمع، وحتى العودة إلى الآليات السوفييتية، حققت هدوء مصطنعا، لكنها ألحقت ضررا كبيرا بالمجتمع، فقد صار لا يحسن حوارا ولا نقاشا ولا قدرة على الخلاف ولا القدرة على القبول ببعضه البعض.

الديمقراطية، وحرية التعبير، ليست قرارا سياسيا فقط، أو انقلاب هذا الطرف على ذاك بدعوى الاستبداد والقمع، بل مولود يستحق العناية والرعاية اللازمتين، ولذلك التجارب الناجحة هي التي يساهم فيها الجميع، وترافقها المؤسسات الصلبة، وحينها فقط يكون المجتمع قد تزود بعقاقير وأنظمة المناعة، فلا يخيفه تصريح ولا مؤلف ولا عمل فني أو أدبي، لأن القاعدة الراسخة لديه أن الأفكار تنسفها الأفكار والحجة تنطحها الحجة، ولا مكان لتجريم الإنسان على آرائه وأفكاره.

كان رئيس لجنة صياغة الدستور أحمد لعرابة، قد ألمح العام 2020، بمناسبة وضع الصيغة الأخيرة للدستور، بأن الوثيقة يستوجب أن توجه إلى المواطنين وليس إلى المؤمنين، ويقصد بذلك مقومات الهوية كالدين واللغة والثقافة والحضارة، التي أفرزت حالة لا مكان فيها للجزائري الذي لا يدين بالإسلام ولا يتكلم العربية أو الأمازيغية ولا يتمسك بموروثه البربري.

هذا النوع من الجزائريين نادرون جدا، لكن دولة المواطنة العصرية تختصر المسألة في الحقوق والواجبات، ولا مجال فيها للاعتقاد الروحي والحضاري واللغوي، فقاعدة حرية الفرد المقدسة تلزم المؤسسات على احترام الجميع وتقديس حرياتهم، لكن التصريح المحتشم حينها انبرى له عرابو الهوية والدين والشخصية، وهم الذين انبروا الآن مع أو ضد بلغيث.

18