ترامب لعبة لا تبعث على الملل

منذ أشهر أمارس لعبة لا تبعث على الملل لأنها تفضي إلى نتيجة مفادها في أسوأ الأحوال كتابة هذا المقال! عندما أقوم بعدّ المقالات التي تكتب يوميا في أهم الصحف الأميركية والبريطانية عن الرئيس دونالد ترامب. بإمكان أي قارئ عربي لهذا المقال اقتباس نفس اللعبة وممارستها على صحف بلاده، إن بقيت لدينا صحافة عربية يمكن التعويل عليها لصناعة الرأي!
أنتهي إلى أنه لا توجد مفاجأة حتى أصل إلى معدل يقترب غالبا إلى 95 في المئة من المقالات منشغلة بترامب في صحيفتي نيويورك تايمز الأميركية “استخدمت تعبير الرفيق ترامب في دلالة تهكمية على تسميات الحزب الشيوعي الصيني لكبار قادته في الحكومة” وفايننشال تايمز البريطانية المهتمة بتحليل مزاج ترامب المتقلب، وما تبقى من المقالات لا يغادر ترامب متنها وإن كان على هامشها! “دع عنك هنا القصص الإخبارية التي لا تتوقف”.
فبعد مرور مئة يوم على ولايته الثانية، لا أحد – حتى أقرب مستشاريه – يدرك ما إذا كان ينبغي أخذ كلام الرئيس على محمل الجد، أو كإستراتيجية لانتزاع تنازلات، أم كأمر بين هذا وذاك.
لذلك لم ينته الحال عند الصحافيين والكتّاب “وأنا من بينهم عندما أخضع لشغف اللعبة نفسها”، بل إن الباحثين والاقتصاديين ورجال الأعمال والتكنولوجيا والأطباء صاروا يكتبون عن الرئيس الأميركي اليوم!
ووصل الحال بأن الصحف صارت تستعين بالسياسيين السابقين لعرض نصائحهم عن الطريقة المثلى للتعامل مع ترامب، كما حصل مع رئيسة وزراء بريطانيا السابقة تيريزا ماي التي نصحت الزعماء بأفضل طريقة للتعامل معه بطريقة “حافظ على هدوئك واستمر في الحوار. انظر إن كان بالإمكان التفاوض على شيء ما”!
فهل وصل العالم إلى نقطة واحدة عليه أن ينتهي فيها عند ترامب بوصفه رجل القدر؟
لو كان من الممكن استمالة ترامب لمعاملة خاصة للبلدان، لكان هناك مثال بارز على ذلك الآن، فأين هو؟
عندما نفترض فلاديمير بوتين كأفضل الأمثلة المتاحة، لكنه يستطيع فقط الاعتماد على إعجاب ترامب بحكم الرجل القوي لروسيا. أما الزعماء الذين يعرضون على ترامب صفقاتهم الاقتصادية لاسترضائه، فهم يمارسون في ذلك ضربا من التمني السياسي.
أثناء دورته الرئاسية الأولى كتبت في هذه المساحة بأن ترامب لعبة صحافية لا تُمل، وهو بمثابة إعلان صحفي مضر كالسجائر، لكنه مرحب به في النهاية لأنه مدفوع الثمن. بيد أن المدهش في كل ما يكتب اليوم عن ترامب أنه ما زال يفاجئ الناس. وكأن الصدمة التي تسببها عناوين تلك المقالات جديدة حقا، وليس كل ما يصدر عن الرئيس هو غير معهود حتى إلى أقرب إدارته.
شايلا جاسانوف أستاذة علم الاجتماع العلمي في جامعة هارفارد، مثلا، ترى في ترامب أنه أنهى العقد الضمني الذي كان يربط حتى الآن الحكومة بإنتاج المعرفة والخبرة بوصفهما منفعة عامة، وذلك مدفوع بشكل رئيس بغضب تجاه العلم يتعارض مع “الحكم الكاريزمي” الذي يدافع عنه ترامب. بينما تتناسى هذه السيدة بأن الدستور الأميركي أضحى بالنسبة للرئيس ليس أكثر من حاجز ورقي يسهل عليه تجاوزه. ففي النهاية، سيحتاج ترامب إلى من يُلقي عليه اللوم.
وحقيقة الأمر، أن مجموع اللعبة الترامبية صفري وفق عالم الاجتماع الإسرائيلي يوفال نوح هراري. بمعنى كل معاملة فيها رابحون وخاسرون. لذلك حل ترامب بسيط. فالسبيل إلى منع الصراعات هو أن يفعل الضعيف كل ما يطلبه منه القوى. وحسب وجهة النظر هذه يحدث الصراع فقط عندما يرفض الضعيف قبول الواقع. لذلك الحرب دائما خطأ الضعيف! يختار هراري مثال حرب أوكرانيا للدفاع عن فكرته، ويتعمد تناسي، بشكل شائن، حرب الإبادة في غزة التي ترتكبها بلاده بتغاضي ترامب الذي يستمر في وضع العالم والصحافة أمام قصص غرائبية بهيئة واقعية.