"كايروس".. قصة حب على خلفية انهيار الحلم الشيوعي الألماني

من علامات البراعة الفنية في الأعمال الروائية التاريخية هو المزج بين الشخصي والعام والحقيقي التاريخي والخيالي المبتكر، وقد نجحت في هذه الخلطة الساحرة الكاتبة الألمانية جيني إيربينبيك في روايتها "كايروس" وهي تقدم قصة حب متقلبة تحكي من خلالها تاريخ ألمانيا وسقوط المعسكر الشيوعي وغيره من التفاصيل التي حاكتها ببراعة.
تعد رواية “كايروس” للكاتبة الألمانية جيني إيربينبيك، الفائزة بجائزة بوكر الدولية لعام 2024، عملا أدبيا فريدا يجمع ببراعة بين قصة حب شخصية وتاريخ أمة في لحظة مفصلية. فمن خلال علاقة عاطفية معقدة بين شابة وكاتب يكبرها، تكشف الروائية عن التوترات والانقلابات اليومية التي تميز علاقتهما الحميمة، وتلامس في الوقت ذاته التحولات السياسية والاجتماعية العميقة التي شهدتها ألمانيا الشرقية في أواخر الثمانينات وأوائل التسعينات.
قالت إليانور واتشيل، رئيسة لجنة تحكيم جائزة البوكر الدولية لعام 2024، عن الرواية بعد فوزها بالجائزة “تبدأ الرواية بالحب والشغف، لكنها على الأقل تُعبّر عن السلطة والفن والثقافة. يبقى انغماس العاشقين في ذاتهما، وهبوطهما في دوامة مدمرة، مرتبطا بالتاريخ الأوسع لألمانيا الشرقية خلال هذه الفترة، وغالبا ما يلتقيان بالتاريخ من زوايا مُختلفة."
الشخصي والسياسي
مع أن الرواية، التي صدر عن دار صفصافة بترجمة د. صلاح هلال، تركز على علاقة عاطفية، إلا أنها ليست رومانسية في جوهرها؛ إذ يبدو أن خيبة الأمل مُتجذرة فيها منذ البداية. فالعلاقة ليست فقط غير متكافئة في العمر، ولكن أيضا خارج إطار الزواج. عندما التقى الثنائي، كانت كاترينا شابة في التاسعة عشرة من عمرها، ولا تزال تعيش مع والدتها، تنتظرها الحياة، حيث بدأت للتو برنامجا مهنيا وإبداعيا مشتركا، مع فكرة غامضة عن الانضمام إلى الذراع الثقافية لجمهورية ألمانيا الديمقراطية، وكان هانس متزوجا ولديه ابن في المرحلة الثانوية، كاتب له عدة روايات ومذيع ناجح على ما يبدو، ويكبرها بأربعة وثلاثين عاما، هو بالفعل على خطة التقاعد الاشتراكية.
تبدأ الرواية بوفاة هانس، الحبيب السابق لكاترينا، التي ما أن تسمع بوفاته حتى تُرسل صناديق أوراقه إلى شقتها، وعندما تجلس أخيرا لفتحها، ينبثق الماضي أمامها كأوراق لعب تُرمى في الهواء. ثم يعود بنا إلى لقائهما الأول، متتبعا خطوة بخطوة معالم علاقة ليست معقدة فكريا وعاطفيا فحسب، بل تتفاقم صعوباتها بسبب ارتباطها بانهيار ألمانيا الشرقية.
تلتقي كاترينا وهانس في برلين الشرقية عام 1986، وتنشأ بينهما علاقة شغف قوية، ويعيشان تفكك آمالهما وأحلامهما على الصعيدين الشخصي والسياسي على مدار أحداث الرواية. هذه الأحداث التي تدور في الأيام الأخيرة من الحلم الشيوعي الألماني، حيث تتحول العلاقة التي تبدأ بحماس وشغف شديدين إلى علاقة مسيئة، تنحدر إلى العنف والقسوة والمراقبة مع تزايد غيرة هانس وسيطرته. وهنا ليس من المستغرب أن يُنظر إلى الرواية على نطاق واسع على أنها رمز لزوال ألمانيا الشرقية. انطلاقا من تداخل الشخصي والسياسي.
إن عنوان الرواية يلقي بدلالاته على موضوعها في شقيه العاطفي والتاريخي السياسي، تشير الروائية قبيل بدء كاترينا تصفح محتويات الصندوق الأول لحبيبها “يُقال: إن ‘كايروس‘، إله اللحظات السعيدة، له ضفيرة فوق جبهته، ولا يمكن الإمساك به إلا منها. ولكن بمجرد أن ينطلق الإله على قدميه المجنَحتين، يظهر لك الجزء الخلفي الأصلع من جمجمته العارية، التي لا يوجد فيها ما يمكن أن تُمسك به يدٌ. هل كانت لحظة سعيدة عندما قابلت ‘هانس‘، وهي فتاة في التاسعة عشرة من عمرها؟”.. يبدو أن “كايروس” الخاص بالعاشقين مأخوذ مباشرة من أوفيد: إله يفرض ثمنا باهظا لتحولاته، حيث تفكك آمال وأحلام ألمانيا الشرقية في نهاية الحقبة الشيوعية.
◙ من خلال علاقة عاطفية معقدة بين شابة وكاتب يكبرها تكشف الروائية عن التوترات والانقلابات اليومية والتاريخ
يمثل هانس التاريخ، بينما تمثل كاترينا المستقبل، هو ينظر إلى الوراء وهي تتطلع إلى الأمام، إنها لا تزال تنمو. إنها تتحرك. وهو يحاول إصلاح الأمور وإبقائها كما كانت في البداية. لكن بالطبع لا يستطيع إبقاءها في نفس الحالة التي كانت عليها عندما التقيا. وذلك على الرغم من ممارسته ألعاب السيطرة من الاختفاء والحضور، والوعد والانسحاب. يختفي فجأة ثم يعود، تاركا كاترينا في حالة من القلق والاشتياق. معتقدا أن هذه الديناميكية تعزز من اعتمادها عليه وتضعف استقلاليتها.
إذا كانت نهاية الحب تبدو حتمية، فإن انحداره وسقوطه يثبتان أن العاشقين مثيران للريبة بشكل ملحوظ. حيث أن معظم الأسرار والمفاجآت تلقي الضوء بطريقة ما على قوى أكبر تعمل، اقتصادية أو سياسية، لكن في المقدمة والمركز يكمن الاتصال الحميم للعاشقين. تتحرك الروائية بجرأة إلى الجنس الصريح. ويلقي الهولوكوست والجولاج ـ معتقل سيبيريا ـ بظلالهما، حتى أنهما يظهران بين القبلات المسروقة، لكن هانس وكاترينا لا يستطيعان الابتعاد طويلا عن تلك القبلات. يولّد الحب المحرم حرارة لا تستطيع “كايروس” أن تنكمش منها، وبمرور الوقت تصبح هناك سادية مازوشية وعلاقة مثلية.
هذه الانحرافات تعكس الموضوعات الرئيسية للرواية. فالتساؤل عن الذات، مثلا، يسير جنبا إلى جنب مع التجريب الجنسي. وبالمثل، ترسم هذه الروائية علاقات ذكية بين آلام الماضي وهدف الفن وسط تلك الآلام. قبل أن يأخذ هانس كاترينا إلى الفراش لأول مرة، يشغل قداس موتسارت، بنصه الذي يتحدث عن “الرعدة والخوف” قبل الدينونة الأبدية. يرقص الاثنان مع الحب والموت. هذان القطبان اللذان يحددان إنسانيتنا، وفي الوقت نفسه، ترتفع الموسيقى التصويرية العائدة إلى عصر التنوير، وأمجاده وإخفاقاته. وسط هذه التجاوزات الذكية، لا تفتقر العناقات إلى الحسية؛ يغلق العاشقان عينيهما، ليريا بشكل أفضل عمل أيديهما وأفواههما.
التحولات القاسية
يتم وصف العلاقة الجسدية بينهما بشكل صريح، لكنها ليست مجرد علاقة جنسية. إنها جزء من لعبة السلطة التي يمارسها هانس، حيث يبدو أنه يستمتع بقدرته على التأثير على كاترينا جسديا وعاطفيا. تُجسد الرواية هذا التداخل بين الثقافي والفني والسياسي في العديد من المشاهد. فعندما يعثر هانس على دليل خيانة كاترينا أثناء عمله على كتاب عن بلاده، يتداعى عالمه الشخصي بالتوازي مع تداعي النظام السياسي الذي يؤمن به.
وبعد سقوط جدار برلين، تبدأ العلاقة بالتغير، لكن هذا التحول لا يحمل معه نهاية سعيدة. فمع سيادة القيم الغربية، تشعر كاترينا بنوع من الاغتراب، وتتساءل عما إذا كانت ستتحول إلى مجرد مستهلك آخر في هذا العالم الجديد.
مع تغير العلاقة يجد هانس نفسه وحيدا في غرفته، يصرخ باسم الفتاة بصوت عال. تبتعد عشيقته، يصبح مهملا من زوجته أيضا التي تكتشف ما يحدث. قد تبدو مثل هذه الخيانات والانعكاسات أكثر من كافية لقصة، لكن في “كايروس” لا تشغل هذه المشاكل نصف السرد تقريبا، أو ما تسميه الروائية “الصندوق الأول”.
في هذه النقطة الوسطى، بدأت كاترينا بالفعل في إثارة ضجة، وإذا كان فقدان الرجل السيطرة يوفر حبكة النصف الأول، فإن تصميم المرأة المتزايد على تحقيق الذات – جنبا إلى جنب مع جهود هانس المذهلة والصادمة لوقفها – يحدد ما يحدث في “الصندوق الثاني”.
إن الروائية تستخدم أسلوبا سرديا متقطعا وغير خطي، مما يعكس طبيعة الذاكرة وتأثيرها على فهمنا للماضي. تتنقل الرواية بين الحاضر والماضي، كاشفة عن تفاصيل العلاقة تدريجيا، وتاركة للقارئ مهمة تجميع الصورة الكاملة. هذا الأسلوب يساهم في خلق جو من الغموض والتوتر، ويجعل القارئ يتأمل في طبيعة الحقيقة وكيف يمكن أن تتشوه بمرور الوقت.
تنجح الرواية في الجمع بين موضوعات حساسة مثل الاستغلال العاطفي وتأثير الأيديولوجيات السياسية على العلاقات الإنسانية، حيث تظهر الروائية كيف يمكن للسلطة، سواء كانت شخصية أو سياسية، أن تشوه الحب وتدمر الأفراد. إنها دعوة للتفكير في ديناميكيات القوة في العلاقات وفي المجتمع بشكل عام.