"مستر نون".. رواية عن الجنون الذي تسببه عزلة الإنسان عن البشر

عوالم الجنون والاضطراب النفسي ملهمة دائما للكتاب والمبدعين، ويمكن استنطاقها بتفسير واقع الإنسان المعاصر من خلال الشخصيات المتذبذبة تلك التي تمحو الحدود بين الخيالي والواقعي، وهذا ما نجده مثلا في رواية “مستر نون” للكاتبة اللبنانية نجوى بركات.
حين ينعزل الإنسان لوقت طويل عن الاختلاط بالناس يصيبه جفاف روحي، فالإنسان كائن اجتماعي بطبعه، ولو رغب لفترة معينة في العزلة والاختلاء بنفسه كي ينجز أمرا ما، فإنه سرعان ما يعود إلى اجتماعيته الفطرية والالتقاء بصديق أو قريب كي يحاوره في الشأن العام أو الخاص، أما أن يجلس في منزله لمدة طويلة دون أن يخرج إلى الشارع أو أن يحدث أحدا فبالتأكيد ستبدأ الأمراض النفسية بالظهور عنده بدءا من الرهاب وانتهاء بالأعصاب وقد ينتهي به الأمر بالجنون وتصبح مخالطة البشر أمرا صعبا عليه.
وعزلة الإنسان هي الثيمة الأولى التي بنيت عليها رواية “مستر نون” للكاتبة اللبنانية نجوى بركات، الصادرة عن دار الآداب اللبنانية، أما الثيمة الثانية فهي دور المرأة في حياة الرجل وتأثيرها على تكوين شخصيته بدءا من أمه أول امرأة في حياته وانتهاء بزوجته، لكن الأساس هي الأم لأن وعي الإنسان يتفتح على يديها وأيّ ندوب نفسية تنشأ في شخصية الرجل تتسبب بها الأم في الدرجة الأولى، فكيف إذا كانت شخصية الرجل لا يوجد في حياتها سوى النساء كبطل الرواية مستر نون الذي عنونت الكاتبة نجوى بركات روايتها باسمه.
العزلة وتجاوزها
كل مرحلة من حياة بطل الرواية مرتبطة بامرأة معينة، ثريا وماري وندى وشايغا، وهؤلاء النساء الأربع اللواتي يذكرهن مستر نون بطل الرواية فمن سيذكر غيرهن، هن ذاكرته وماضيه قبل أن يعتزل كل شيء ويجلس وحيدا في غرفة الفندق الذي يقيم به منذ سنوات بعد أن هجر بيته في حي الأشرفية، وها هو قد قرر العودة إلى الكتابة بعد انقطاع لسنوات الأمر الذي أسعد المس زهرة خادمة الفندق التي ترعاه، وقد قرر أن يكتب عن لعازر الذي أحياه المسيح بعد أن مات.
ومن أنسب من لعازر كي يشبّه نفسه به فبقراره العودة إلى الكتابة قرر أن يحيا من جديد وهو الذي كان ذات يوم كاتبا مشهورا وله روايات لكنه فجأة قرر أن يتوقف عن الحياة وعن الكتابة وانزوى في هذا الفندق لا يخرج من غرفته إلا ليتمشى في الممر.
الذاكرة وماذا تبقى لشخص مثله سوى الذاكرة فها هو يعود إلى طفولته ويتذكر باشمئزاز ثريا أمه التي لم تحبه يوما، بل كانت تحب أخاه سائد، الذي يكبره بسبع سنوات، وتفضله عليه في كل شيء، وكأنه ليس ابنها، لكن والده كان يحبه ويعطف عليه فيعوضه عن قسوة ثريا لكنه أيضا تخلى عنه أيضا حين انتحر أمامه برمي نفسه من نافذة مكتبه فظل وحيدا فلم يجد العطف في طفولته سوى من ماري الخادمة فكانت أما حقيقية له عوضته عن جفاء ثريا والدته البيولوجية.
كانت لحظة انتحار والده أمامه أقسى لحظات حياته فطبيب الفقراء الذي كان يداوي الناس مجانا كل سبت لم يجد من يداوي روحه، وكان هذا الفقد بداية لوحدته فكيف يتخلى عنه ويتركه لثريا وابنها المتكبر سائد، أما الفقد الثاني فكان في شبابه حين تركته ندى حبيبته وزميلته في تدريس الكتابة الإبداعية في الجامعة، فقد أخبرته أنها لم تعد تستطيع حمله نعم لم تستطع حمله أيّ أنه أصبح ثقيلا وعبئا عليها، فتركته وغادرت فانزوى في شقته لسنوات لم يقابل أحدا وحين قرر الخروج إلى الشارع كان لشراء قطعة للحمام أخبروه أنها لا توجد سوى في منطقة برج حمود فقرر الذهاب إلى هناك حيث قاع المدينة فأراد اكتشاف هذا القاع وهناك بدأت مرحلة جديدة من حياته.
قرر أن يذهب لرؤية لقمان إحدى شخصيات روايته، لقمان الذي كان محاربا سابقا أيام الحرب الأهلية وأصبح الآن يملك محلا للكمبيوتر ويغوي النساء كي يصرفن عليه فظن الأخير أنه آت لمراقبته وانهال عليه هو وصبيان الحي بالضرب فكانت هذه المعركة بداية رحلته مع الضرب الذي أصبح يستلذ به وهو يجوب هذه الأحياء البيروتية، فاكتشف في نفسه مازوشية لم يكن يعلم بها إلى أن قابل في أحد الأيام شايغا الفتاة النيبالية التي تعمل في أحد البارات، فأحضرته إلى منزلها وداوت جراحه واعتنت به وبدأ يمارس الجنس معها بعد طول انقطاع وقرر أن يصطحبها إلى منزله ليخرجها من المستنقع القذر الذي تحيا به ويبدآن حياة جديدة.
نهاية مخاتلة
فرحته لن تكتمل حين يعلم رب عملها مكانها فيقتلونها أمامه ويبرحونه ضربا ويدخل إلى المستشفى، وهناك يكتشفون اضطرابه العقلي ويقررون تحويله إلى المصح ليبقى فيه بقية حياته، إذا فالمكان الذي كان يعتقده السيد نون فندقا ليس سوى مصح عقلي وضعه فيه أخوه سائد والمس زهرة ممرضة والسيد أندريه مدير الفندق ليس مديرا بل طبيب نفسي يشرف على علاجه.
نعم إنه في مصح، وكل هذا المعلومات تكشفها لنا الكاتبة نجوى بركات بالتدريج عبر سرد متصاعد مشوق وسريالية وصفية لخيالات الشخصية الرئيسية التي تروي لنا بصوتها تاريخ حياتها وكيف وصلت إلى ما وصلت إليه حتى يتأزم وضع نون بعد مقتل مريم جارته في الطابق على يد داوود الذي ساعدها على شنق نفسها، داوود الذي يعتقد أنه قتل زوجته التي انتحرت ذات يوم فها هو يساعد مريم النزيلة السورية التي فقدت عائلتها في الحرب على الانتحار بشنق نفسها ونون قد شاهد الحادثة من نافذة غرفته، وأخبر مس زهرة لاحقا فاعتبرته شريكا لداوود في الجريمة فأصبحت تخاف منه وتعتقد أن وضعه قد تأزم فيبدأ علاجا جديدا.
لكن شبح لقمان لا يفارقه حتى يتسلل إلى غرفته في أحد الأيام هاربا من الشرطة التي تلاحقه لأنه يبيع المخدرات في محله للمراهقين الأمر الذي يخيف نون ويضطر في النهاية إلى قتله لكنه لم يعلم أنه قتل نفسه بدل لقمان، فكلاهما أصبح واحدا فقام بغرز أقلام الرصاص التي أحضرتها له المس زهرة ذات يوم كي يكتب بها في بطنه معتقدا أنه قتل لقمان لكنها قتلت نفسها، نعم قتلت نفسها، فنون ليس رجلا وإنما امرأة تدعى السيدة نون تقيم في هذا المصح العقلي ولم يزرها أحد منذ خمسة عشر عاما حسب شهادة الطبيب أندريه التي كتبها في تقريره للشرطة.
وكانت نون ذات يوم كاتبة مشهورة ولها روايات عديدة ووجدوا على الطاولة في غرفتها مخطوطا لرواية كتب عليها مستر نون، إذا كل ما قرأناه كان رواية تكتبها السيدة نون وكل الشخصيات ليس لها وجود إلا في روايتها. نون مصابة بفصامات عدة جعلتها تقتل نفسها في النهاية معتقدة أنها قتلت أحد شخصيات روايتها التي تلاحقها كي ترتاح، نعم هكذا صدمتنا الكاتبة نجوى بركات في نهاية روايتها وقدمت لنا بأسلوب محكم ينم عن ذكاء عدة روايات ضمن رواية واحدة.