"سراب دجلة".. عندما يخسر الإنسان في الحرب وقت النصر

رواية للأديب خالد عبدالجابر تتناول تحولات عقد الثمانينات في مصر والعراق.
السبت 2025/05/03
استعادة تاريخ منسي (لوحة للفنان محمد عبلة)

الحرب مفزعة، الإنسان فيها خاسر وإن خرج منتصرا، يخسر أحباء حاربوا جواره، يفقد سنوات الشباب من عمره، يضيع حياة كان يحب أن يعيشها. وقد تحقق الحروب أهدافها، وتعود الجيوش منتصرة، ولكن ماذا عن البشر؟ ماذا عن الإنسان وقود المعركة؟ أتعود حياته بعد الحرب كما كانت؟

القاهرة – تدور أحداث رواية “سراب دجلة” للكاتب المصري خالد عبدالجابر، الصادرة عن دار العين للنشر والتوزيع في القاهرة، بين مصر والعراق في عقد الثمانينات من القرن الماضي، بعد أن كانت حرب أكتوبر 1973 قد وضعت أوزارها قبل سنوات قليلة في مصر، بينما دارت رحى حرب الخليج الأولى بين الجيشين العراقي والإيراني في المشرق العربي.

اعتمد الكاتب في مواضع كثيرة من الرواية تقنية الرسائل المتبادلة بين الأب المزارع المصري في قرية بمحافظة الدقهلية (شمال مصر) اسمها “ونس النيل” وابنه الشاب المغترب في العراق، الذي اضطرته ظروف الأسرة إلى السفر لتوفير ثمن شراء قطعة أرض زراعية، ومن خلال الرسائل المتبادلة بينهما بكلمات عذبة ملؤها الحنين ومكابدة أوجاع الغربة، تعرف شيئا فشيئا فصول الحكاية.

الرسائل والشجن

الرواية تشير إلى تفاصيل ما عرف باسم "الجمعة الحزينة" في بغداد التي تحول فيها احتفال المصريين إلى كارثة
الرواية تشير إلى تفاصيل ما عرف باسم "الجمعة الحزينة" في بغداد التي تحول فيها احتفال المصريين إلى كارثة

استلهم خالد عبدالجابر بجرأة محمودة من ديوان “جوابات (رسائل) حراجي القط” للشاعر الكبير عبدالرحمن الأبنودي، وأجواء رسائل الغربة المتبادلة بين “الأسطى حراجي القط العامل في السد العالي وزوجته فاطنة أحمد عبدالغفار في جبلاية الفار”، التي استعرضت بعذوبة تحولات عقد الستينات في مصر وتأثير مشروع بناء السد العالي في أسوان (جنوب البلاد)، الذي انتقل بسببه بطل الديوان “حراجي القط” من مزارع بسيط في قريته “جبلاية الفار” إلى أحد عمال بناء السد.

يأتي الكاتب المصري الذي أهدى روايته “سراب دجلة” إلى “الخال عبدالرحمن الأبنودي وصديقه الغالي الأسطى حراجي العامل في السد العالي” ليستخدم في أجزاء من الرواية تقنية الرسائل، ليستعرض تحولات عقد الثمانينات في مصر والعراق معا، إلا أن العمل الأدبي يتنقل بين أكثر من تقنية؛ الراوي العليم، وأصوات الأبطال، ما منحه حيوية وجاذبية.

نعرف من الحكاية أن الأب المزارع محمد محفوظ المصري قد تطوع بنفسه للذهاب إلى الجيش بعد هزيمة حرب 1967 دون انتظار استدعائه ضمن قوات الاحتياط، إذ هب فزعا لاستعادة الأرض مع أبناء الوطن، فذهب تاركا وراءه كل شيء؛ ترك والده المسن الكفيف وزوجته الشابة زينب وطفليه صادق وعزيزة.

غاب المصري سنوات حتى ظنوا أنه استشهد، لكنه في النهاية رجع؛ لم يرجع إلا بعد استعادة الكرامة في حرب أكتوبر 73 وتحرير الأرض، لكنه فوجئ بعد رجوعه بوفاة والده، واستيلاء شقيقه الأكبر إبراهيم على ميراثه وشقيقتيه من أراضي والدهم. استرد محمد المصري الأرض للوطن لكنه فقد أرضه هو.

رحلة من العذابات والاحتمالات تتقلب بينها الأسرة الصغيرة لتواجه أعباء الحياة، بلا فائدة، فيرضخ الأب أخيرا لفكرة سفر ابنه الشاب صادق إلى العراق لجمع مبلغ من المال يمكنه من شراء قطعة أرض تكون معيلا للأسرة ومعينا لها في الحياة.

تذكرنا هذه الحبكة بالفيلم السينمائي المصري “سواق الأتوبيس” إنتاج عام 1982، بطولة نور الشريف، من إخراج عاطف الطيب، الذي استعرض حيوات أبطال الحرب بعد انتهائها، والتأثيرات المتباينة لعصر ما بعد الحرب في مصر في الطبقة الوسطى، وكيف جنى من لم يحاربوا الأرباح والمكاسب بينما ظلت معيشة من دفعوا الثمن دما وسنين عمر كما هي متعثرة، بل أسوأ، إلا أن رواية “سراب دجلة” تبحث هذه التحولات في حيوات أبناء الريف وليس المدينة.

يقولها الراوي العليم بوضوح، عندما يخبرنا عن حياة الأب المزارع محمد المصري قائلا “منذ عودته من الحرب كان غريبا بين أهله، منكسرا رغم العودة منتصرا، لا صديق ولا مؤنس ولم يقدم له أحد حق المساندة أو يفرد له جناح الرحمة من ذل الأيام فينكسر إلى جواره مستشيرا”.

يجيد خالد عبدالجابر رسم مشهد وداع الابن صادق لأسرته قبل سفره، ينسجه بكلمات تفيض بدمع وشجن، ربما يعرفهما الكاتب نفسه جيدا وهو المغترب خارج الوطن.

الرواية اعتمدت في مواضع كثيرة تقنية الرسائل المتبادلة بين الأب المزارع المصري وابنه الشاب المغترب في العراق

وتخبرنا الرواية أن الحرب تغير الأقدار، فتشكل مدنا وتمحو غيرها، تتلاعب بالنسيج المكون للبلدان، وتعيد تكوينه كما تشاء. انتصار أكتوبر بدل الحال داخل القرى والنجوع، خرجت مصر من الحرب منتصرة، لكنها خسرت الكثير من أبنائها ممن تركوها عندما لم يتحملوا ضيق الحزام على بطونهم الجوعى.

والمفارقة أن هؤلاء عندما رحلوا  كانت هناك على ضفاف النهر الآخر “دجلة” حرب أخرى لا تزال دائرة، أخذت الرجال حتى صارت المدينة خالية من سواعد رجالها، ففتحها صدام حسين للمصريين ليندفعوا من كل صوب إليها بلا تأشيرة ولا أختام للدخول، أكرمهم من أجل القومية العربية التي نادى بها الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، وفقا للرواية.

يرسم الكاتب بريشة فنان لوحة المحبة بين البلدين، والجرح المشترك للبشر بفعل الحرب، فيقول “عجيب أمر بغداد، وكأن دجلة والنيل يسريان في مجرى واحد، إذا جف أحدهما يملؤه الآخر أو أن رفات جنود العراق التي احتضنتها رمال سيناء ألقت بثراها إلى النيل، فاختلطت جينات دجلة بما يمنح المصريين الحياة”.

أصدر صدام حسين قوانين تمنح المصريين حصانة ربما لم يجدها أهل العراق أنفسهم، فغزا المصريون شوارع بغداد وتحول الكثير من أحيائها إلى ما يشبه أرضا يسكنها مصريون ويعملون ويعيشون ويأكلون كأهل العراق.

ولأن الهم واحد، وأثر الحرب لا يختلف في منطقتنا باختلاف الأرض، تبرز في الرواية شخصية كاظم، العراقي المسن الذي يتعرف عليه صادق، فيحبه كأبيه الذي يفتقده في الغربة، ويكتشف أن الرجل أيضا ينتظر عودة أبنائه الذين ذهبوا إلى الحرب ولم يعودوا.

من الظالم ومن المظلوم؟

خالد عبدالجابر: الحرب تغير الأقدار، فتشكل مدنا وتمحو غيرها، تتلاعب بالنسيج المكون للبلدان، وتعيد تكوينه كما تشاء
خالد عبدالجابر: الحرب تغير الأقدار، فتشكل مدنا وتمحو غيرها، تتلاعب بالنسيج المكون للبلدان، وتعيد تكوينه كما تشاء

بدأت الحرب تضع أوزارها في العراق، وبدأ الجنود العراقيون يعودون من جبهات القتال، لكنهم عادوا متحفزين، ولم يكن تحفزهم مستغربا، في نظر صادق.

تقول الرواية عنهم بصوت الشاب المصري المغترب إنهم قضوا سنوات من عمرهم في حرب وحياة قاسية غيرت طباعهم وسلوكهم، وعادوا فلم تحتضنهم بلادهم التي ظنوا أن دفاعهم عنها سيمنحهم صكوكا من الرخاء لقضاء ما تبقى من أعمارهم، لكنهم وجدوا من ضيق حال فقرا وقمعا وحزاما مشدودا على البطون من تبِعات الحرب، ورئيسا يدافع عن جرائم المغتربين ويؤجل حسابهم، فيمنحهم الدافع للاستمرار في انتهازيتهم. ويتساءل: من الظالم ومن المظلوم؟

في مواجهة تزايد جرائم المغتربين، وبينهم مصريون، بدأت عمليات الانتقام على أيدي العراقيين العائدين من جبهات القتال، وانتشرت حوادث القتل الغامضة، كان يعثر على جثث مصريين ممزقة ملقاة في أماكن نائية، لتبدأ ظاهرة عرفت باسم “النعوش الطائرة”، تلك التي حوت مصريين سافروا طلبا للرزق لكن حماية السلطات والقوانين منحتهم ما لم يمنح لأبناء البلد، فاستفحلوا، وواجهوا نتيجة لذلك مصيرهم، بالعودة جثثا في صناديق مغلقة.

تشير الرواية إلى تفاصيل ما عرف باسم “الجمعة الحزينة” في بغداد، إنه يوم الجمعة التاسع عشر من نوفمبر 1989، الذي خرج فيه المصريون يحتفلون بفوز مصر على الجزائر في مباراة كرة القدم الشهيرة التي صعد بعدها المنتخب المصري إلى بطولة كأس العالم 1990.

يومها امتدت الاحتفالات وتعالت الهتافات لمصر في شوارع بغداد، لكن فجأة وقعت الواقعة، انفجر الغضب المكتوم في الصدور، تحولت الاحتفالات إلى كارثة، بدأت أول شرارة فيها عندما دهست سيارة مسرعة لمواطن عراقي العشرات من المصريين توفي أحدهم، لتثور ثائرة الجميع، وتنشب حرب بين عراقيين ومصريين.

لم يمت صادق المصري، ولم يبق سجينا، إنما واجه مصيره الذي سيعرفه قارئ الرواية الممتعة بنفسه، لكننا إذ نتابع قصته ومآلاتها، لنا أن نصرخ أيضا بالسؤال مع الكاتب خالد عبدالجابر: من الظالم ومن المظلوم؟

تبقى الإشارة إلى حيلة فنية لجأت إليها الرواية، مثلت انعطافة “تويست” ملهمة، عندما أوضحت أن بعد سنوات طويلة، في 2016، تم العثور على هيكل عظمي في سيناء لجندي مصري في أثناء حفر إحدى الطرق ضمن المشروعات الجديدة، وبداخل ملابسه خطاب موجه إلى شخص يدعى الشيخ محفوظ المصري.

كان الجندي محمد المصري الذي ذهب متطوعا للدفاع عن الأرض في حرب 67 قد اتفق مع زميله الشهيد، صاحب الهيكل العظمي، على تسليم الخطاب إلى والده في حالة استشهاده.

هكذا كانت الأحلام في صدور الجنود، الذين ذهبوا لمواجهة الموت، لكن الحقيقة أن إبراهيم – مثل كثيرين غيره – سرق ميراث أخيه من الأرض، تربح وتكسب وصعد، أما من دفعوا الثمن دما وفقدا وحرمانا ومعاناة حتى حققوا النصر، فقد عادوا ليجدوا أنفسهم في مواجهة حرب أخرى، هي حرب الحياة. تلك هي المسألة. يا لها من مأساة.. ومعضلة.

12