الشارقة تستعمل الرسوم المتحركة لصناعة المستقبل

بات قطاع الثقافة والصناعات الثقافية في قلب اهتمامات الدول الحديثة، التي تراهن على هذا المجال لا من ناحية التنمية فحسب، بل من ناحية أوسع ممثلة في استغلالها قوة ناعمة لتحقيق البناء الحضاري وترسيخ التعايش وصون الهوية في عالم تتصارع فيه الهويات في السرّ والعلن.
الثقافة تتجاوز الترفيه، كما تتجاوز الصور النمطية التي يراها بها البعض، فيحصرها في الأدب والكتب والعروض الفنية…، إنها أوسع من ذلك، هي مساحة نقاش وجدل وكل فعل حضاري تتماسك معه عناصر الماضي والحاضر والمستقبل، وبالتالي هو صانع الهوية والوعي الأول فرديا وجماعيا.
تحتاج الثقافة إلى دعم الدولة، وإلى إشرافها عليها كأيّ مجال إستراتيجي. باتت البلدان العربية اليوم على قناعة بأهمية هذا المجال، وعلى رأس هذه الأقطار دولة الإمارات العربية المتحدة، التي تشهد كل إماراتها رهانا كبيرا على الثقافة، ولكن إمارة الشارقة الأكثر بروزا في هذا التمشي، نظرا إلى زخم النشاط الثقافي فيها وتنوعه، فلا يكاد يمر أسبوع دون حدث ثقافي، نشاطات مختلفة، ولكن رهانها واحد، تحويل الثقافة إلى قوة ناعمة، وطاقة تُطور المجتمع وتحميه.
الرسوم المتحركة رسائل ثقافية تُزرَع منذ فترة حساسة في عقول الصغار وتصبح بالتالي عنصرا راسخا في تكوينهم الشخصي فكريا ونفسيا ومعرفيا إنها أكثر من مواد للترفيه عن الصغار
لا تتوقف الأنشطة الثقافية في الشارقة عند معرض كتابها الضخم ولا مهرجانات الشعر والمسرح والفنون، ما يثير فعلا هو الاهتمام بجوانب النقاش والورشات في شتى التظاهرات، واستقطاب أهم الفاعلين الثقافيين العرب والعالميين، وهو ما من شأنه أن يحوّل الفعل الثقافي من مناسباتي إلى حركة دائمة في قلب المجتمع.
اهتمام العرب بثقافة الطفل قليل نوعا ما، وإن وجد فإنه لا يتجاوز الأساليب التقليدية والمواضيع المكررة، وهو ما يجعل منتجات ثقافة الطفل بجودة أقل من غيرها على مستوى العالم، وخاصة من حيث الانفتاح على مجالات أخرى مؤثرة مثل فن الكوميكس مثلا.
اختارت الشارقة الرهان على الطفل في الكثير من الفعاليات، التي كما قلنا تتجاوز الاستعراض إلى النقاش والتدريب والبحث، نذكر مثلا “ملتقى الشارقة الدولي للراوي”، و”مهرجان الشارقة القرائي للطفل” الذي تندرج ضمنه تظاهرة أخرى غاية في الأهمية هي “مؤتمر الشارقة للرسوم المتحركة” وتنظمها هيئة الكتاب من 1 إلى 4 مايو الجاري.
ربما لا نولي الصور المتحركة الاهتمام اللائق بها في الصناعة الثقافية، رغم أنها الأداة الأولى لتشكيل الوعي والأجيال. فالرسوم المتحركة رسائل ثقافية تُزرَع منذ فترة حساسة في عقول الصغار، وتصبح بالتالي عنصرا راسخا في تكوينهم الشخصي فكريا ونفسيا ومعرفيا، إنها أكثر من مواد للترفيه عن الصغار.
أغلب الدول العربية تستهلك الرسوم المتحركة الغربية أو الآسيوية، مع دبلجة صوتية أحيانا بالفصحى وأحيانا باللهجات العربية الدارجة، قيم وثقافات ومبادئ وأفكار كثيرة تسرّبها هذه المواد إلى أطفالنا بعضها قد لا يكون مناسبا، وهو ما دعا الكثيرين إلى التشديد على ضرورة الرقابة، بينما كان توجه الشارقة التأسيس لصناعة رسوم متحركة عربية، تحمل ثقافة الإنسان العربي وتطلعاته وأفكاره ومبادئه وتثمّن عناصر هويّته.
خولة المجيني المدير التنفيذي لمؤتمر الشارقة للرسوم المتحركة، رأت أن “المؤتمر يضع معايير عالمية جديدة للابتكار والإبداع، ويرسّخ الحوار العالمي حول الدور الذي تلعبه الرسوم المتحركة في تعزيز السرد القصصي والتعليم، وفي هذا العام، نفخر باستعراض أهمية الرسوم المتحركة ودورها ليس في ترفيه الجماهير فقط، بل في تقريب المسافات بين الثقافات، والحفاظ على التاريخ، وتقديم سرديات وفتح آفاق جديدة.”
قد لا يعي الكثيرون خطر الرسوم المتحركة ومدى قدرتها على التأثير الذي لا يمحوه زمن، ولذلك يمثل هذا المؤتمر فرصة هامة لتطوير هذا الفن خاصة من حيث إبراز وظائفه الحيوية وآخر تطوراته
تصريح المجيني يؤكد على رهان الشارقة الكبير على هذا الحدث، وهو ما يتجلى خاصة في الجمع بين الهواة والمحترفين والمختصين والفنانين العرب والعالميين، في مناخ من شأنه أن يفرز حركية عربية في صناعة الرسوم المتحركة، وبالتالي التحول من مستهلك لثقافة الغير إلى منتج لثقافة خاصة.
قد لا يعي الكثيرون خطر الرسوم المتحركة ومدى قدرتها على التأثير الذي لا يمحوه زمن، ولذلك يمثل هذا المؤتمر فرصة هامة لتطوير هذا الفن خاصة من حيث إبراز وظائفه الحيوية وآخر تطوراته، والاستمرار في تحسين صناعته عربيا، بما يواكب العصر في المواضيع والتقنيات وابتكار شخصيات خاصة وليدة الثقافة العربية الثرية بالحكايات والأساطير.
يؤكد “مؤتمر الرسوم المتحركة” على أهمية تجاوز النظرة التقليدية للثقافة، ويبرز دورها كصناعة متكاملة الأطراف، دائمة التأثير، فالرهان الأساسي إذن أن يصنع العرب رسومهم المتحركة، وهو مسار بدأ يترسّخ شيئا فشيئا خاصة في الخليج العربي، الذي انخرطت دوله وعلى رأسها الإمارات في إنتاج رسومها المتحركة الخاصة، بشخصيات لها طابع بيئتها من لباس ولهجة وأمكنة وحكايات وغيرها، وهي أعمال باتت تعرف انتشارا عربيا وتطويرا مستمرا.
من شأن هكذا تظاهرات أن تشجع على طرح مبادرات جديدة في فن الرسوم المتحركة، وأن تطور من المواهب العربية فيه. فالعرب لا تنقصهم الحكايات، بل هم أبرز الحكّائين على مرّ التاريخ، ولا تنقصهم المواهب في الرسم أو الكتابة، ما ينقصهم فقط هو الدعم والتحفيز والتأطير والرهان على أهمية فن الرسوم المتحركة في بناء مجتمع متوازن متماسك منفتح على الآخر ومحافظ على هويته دون ذوبان في الآخر.
الرهان السياسي الأهم اليوم هو الثقافة، والرهان الأكبر للثقافة اليوم يجب أن يكون على فئة الأطفال، لكن ليس بتلك الأساليب الاحتفالية والترفيهية فحسب، بل بالتأسيس لصناعة ثقافة طفل، وبالتالي صناعة المستقبل. ولا صناعة للمستقبل بمعزل عن رعاية مؤسسات الدولة، بل وإيمانها بمحورية الفعل الثقافي، وتجاوز دورها من الدعم المادي إلى وضع الإستراتيجيات والبيئة المحفزة للمبدعين والعاملين في القطاع، على غرار ما تفعله الشارقة، التي تعتبر الثقافة على رأس اهتمامات مؤسساتها.