الفرصة العربية في ظل تراجع النفوذين الإسرائيلي والإيراني

حين تتغير موازين القوى الكبرى بهدوء، تتغير خرائط العالم دون ضجيج. واليوم، في قلب الشرق الأوسط، تُرسم ملامح نظام إقليمي جديد ليس بانفجارات الحروب، بل بانهيار بطيء للنفوذ القديم وصعود معادلات أكثر تعقيداً وواقعية.
تمرّ منطقة الشرق الأوسط بتحولات إستراتيجية عميقة قد لا تكون واضحة بالكامل على السطح، لكنها تشتغل في العمق لإعادة تشكيل الجغرافيا السياسية برمّتها. وفي قلب هذه التحولات، تبرز إسرائيل كنقطة ارتكاز لانكسار تاريخي في معادلات الردع الإقليمي، فيما تتآكل قدرات إيران غير المتناظرة وتفقد الأذرع التي طالما استخدمتها لفرض نفوذها في عواصم العرب. تتزامن هذه اللحظة مع صعود محور عربي جديد، أكثر واقعية وأقل أيديولوجية، يعمل على هندسة توازنات جديدة بعيدًا عن التبعية للقوى الكبرى أو الانجرار خلف صراعات الوكلاء.
تفكك النفوذ الإيراني وتراجع الدور الإسرائيلي لا يعنيان بالضرورة نهاية التوتر، بل ربما بداية لصيغة أكثر تعقيدًا في إدارة الصراع. فسوريا قد تتحول إلى ساحة تنافس عربي – روسي
إن ما تعيشه إسرائيل حالياً ليس مجرد أزمة سياسية داخلية أو مأزق عسكري ظرفي، بل هو اهتزاز عميق في بنيتها الأمنية التي تأسّست منذ 1948 على التفوق النوعي والتفوق النفسي والقدرة على المبادرة. لقد قادتها غطرستها ودمويتها المتكررة إلى فقدان شرعيتها الأخلاقية حتى بين حلفائها، وأجّجت مقاومات متعددة في محيطها، مما جعلها اليوم في موقع دفاعي غير مسبوق. وإزاء هذه المتغيرات، فإن إسرائيل لن تأتي إلى طاولة السلام برغبة حرة أو قناعة ذاتية، بل بدافع الضرورة وفقدان الخيارات.
على الجانب الآخر، لم تعد إيران قادرة على إدارة شبكتها الإقليمية بنفس الكفاءة والهيمنة التي تميزت بها بعد 2003. فالوكلاء الذين كانوا أدوات توسّع أصبحوا عبئاً على مشروعها. فالأزمات الاقتصادية، والاحتجاجات الشعبية داخل إيران، وضغوط العقوبات، وتحولات الوعي في المجتمعات التي تحتضن أذرعها، كلها عوامل تقوّض فاعلية نفوذها. فالهلال الشيعي الذي صُمم كامتداد إستراتيجي، بات أقرب إلى طوق خانق تتهدده موجات التغيير من الداخل والخارج. استمرار إيران في التمسك بمنهج السيطرة عبر الوكلاء سيقود إلى استنزاف غير قابل للاسترداد، وربما إلى مواجهة إقليمية مفتوحة تفقد فيها أهم أوراقها.
إن تراجع المشروع الإيراني وانكشاف المشروع الإسرائيلي شكّلا اللحظة الحاسمة التي مكّنت الدول العربية الكبرى – السعودية، الإمارات، مصر، الأردن – من التقدم إلى مركز الفعل الإقليمي، واستعادة زمام المبادرة في رسم ملامح المستقبل. هذه الدول لا تتحرك كرد فعل، بل بوصفها قوى واعية لطبيعة التحول التاريخي الذي تمر به المنطقة، وتدير مصالحها بإستراتيجيات جديدة تعتمد على بناء الاستقرار لا مجرد ملء الفراغات.
إن ما نراه ليس مجرد تغير في موازين القوى، بل تحول في فلسفة إدارة النفوذ. فالشرق الأوسط في 2030 قد لا يكون منطقة شعارات أيديولوجية ولا ساحة صراع طائفي
الولايات المتحدة، رغم انشغالاتها الإستراتيجية في شرق آسيا وأوروبا، لن تغيب عن المنطقة. لكنها لن تعود كما كانت. فالدور الأميركي المقبل سيكون أكثر اعتماداً على الشراكات المحلية، وأقل رغبة في التورط المباشر. وواشنطن لم تعد معنية بإدارة الملفات باليد، بل بالظل، من خلال قوى إقليمية تحقّق لها الأهداف دون تكلفة مباشرة. وهذا التحول في المنهج الأميركي يمنح العرب هامشًا نادراً لإعادة تعريف موقعهم في المعادلة الدولية.
تفكك النفوذ الإيراني وتراجع الدور الإسرائيلي لا يعنيان بالضرورة نهاية التوتر، بل ربما بداية لصيغة أكثر تعقيدًا في إدارة الصراع. فسوريا قد تتحول إلى ساحة تنافس عربي – روسي، ولبنان أمام إعادة صياغة لميثاقه السياسي، واليمن مرشح لتسوية بوساطة خليجية، والعراق يتأرجح بين العودة إلى عمقه العربي وبين تأثير الجغرافيا الإيرانية. كل ذلك يقود إلى مشهد إقليمي تتعدد فيه القوى الفاعلة وتتغير فيه قواعد الاشتباك.
إن ما نراه ليس مجرد تغير في موازين القوى، بل تحول في فلسفة إدارة النفوذ. فالشرق الأوسط في 2030 قد لا يكون منطقة شعارات أيديولوجية ولا ساحة صراع طائفي، بل منطقة مصالح ومشاريع واستقرار نسبي تديره التفاهمات الإقليمية لا الأوامر الدولية. وهذا السيناريو ليس حتمياً، لكنه أصبح ممكناً أكثر من أيّ وقت مضى.
التحدي الأكبر أمام هذا التحول يكمن في وعي النخب السياسية العربية بضرورة الانتقال من إدارة الأزمات إلى إدارة المصالح. فلقد دخلت المنطقة مرحلة “الفرصة المركّبة”، إما أن تستثمر في التحول وتنتقل إلى شرق أوسط جديد، أو أن تفقد زمام المبادرة وتترك فراغاً تملؤه الفوضى أو اللاعبون الأضعف. والشرط الأساسي لذلك هو إدراك أن الاستقرار الحقيقي لا يُفرض بالقوة، بل يُصنع بالإجماع الذكي والشراكات المستدامة. ولذلك، فإن بناء منظومة عربية أمنية واقتصادية متكاملة لم يعد خياراً ترفياً، بل ضرورة لحماية الفرصة التاريخية قبل أن تضيع في زحام التردد أو مفاجآت اللاعبين الآخرين.