"تحت سابع أرض".. هل تتحول بقايا الإنسانية في فوضى الشوارع إلى وحوش

عمل فني يعكس واقعا معقدا لبيئة سورية متأزمة جراء الحرب.
الثلاثاء 2025/04/29
دراما نجحت في تصوير الفساد والجريمة

“تحت سابع أرض” المسلسل الذي عرض خلال رمضان الماضي، لا يزال يثير الانتباه، حيث سلط الضوء على قضايا مهمة في المجتمعات عموما والمجتمع السوري بشكل خاص، من بينها الفساد الأمني وازدهار تجارة العملة والجريمة المنظمة، عبر حكايات جسدها ممثلون محترفون كان بطلهم النجم السوري تيم الحسن.

في عالم الدراما العربية، يُعد مسلسل “تحت سابع أرض” خطوة فنية جريئة تُسلط الضوء على أعماق الجريمة والفوضى التي تكتسح المجتمعات في ظل الحروب والأزمات الاقتصادية. هو عمل درامي يعكس واقع الشارع السوري بمرارة، حيث يروي قصة معقدة تلامس هموم المجتمع وتستعرض التداخل بين الفساد الأمني وتزوير العملات، مُظهرا كيف يمكن للجريمة أن تصبح جزءا من الحياة اليومية في زمن الحروب.

هذا المسلسل، الذي أخرجه سامر برقاوي، لا يتوقف عند مستوى السرد الدرامي بل يمتد ليشمل أداء تمثيليا مميزا ورؤية إخراجية تسلط الضوء على أشد الأبعاد الإنسانية تعقيدا. فهل دراما الجريمة العربية بين الواقع والخيال هي حكاية شعوب تئن من الفساد؟ وهل أدخلنا عمر أبوسعدة إلى عالم الصيرفة والتزوير عربيا بعد كل الانهيارات السياسية والاقتصادية التي شهدناها عربيا؟

أداء قوي

منى واصف أبدعت في دور مختلف عما قدمته طوال مسيرتها
منى واصف أبدعت في دور مختلف عما قدمته طوال مسيرتها

بدأت أحداث المسلسل بجوّ من الإثارة والتشويق، حيث تم استلهام القصة من الأحداث السورية الأخيرة التي شهدت تحولا في المفاهيم الاقتصادية والاجتماعية في البلاد. في الوقت الذي كانت فيه البلاد تعاني من حرب شاملة، انتشرت أزمات اقتصادية خانقة، كان أبرزها تزوير العملات الأجنبية، خاصة الدولار الأميركي، الذي أصبح أحد محاور الصراع الاقتصادي في سوريا. ليس ذلك فحسب، بل ارتبطت هذه الجريمة بالفساد الأمني الذي أصبح عنوانا لواقع مرير تتداخل فيه المصالح الشخصية مع المصلحة العامة، ما أوجد بيئة خصبة لتنشيط عصابات الجريمة المنظمة، المخفية أكثر من الظاهرة، فالعجان والإمبراطور هما أدوات لتحقيق مآرب كبرى غامضة.

“تحت سابع أرض” يعرض قصة موسى الناجي، الشخصية التي يجسدها تيم حسن، وهو ضابط أمن سابق يعاني من إصابة في رأسه نتيجة لمواجهات أمنية سابقة. مع تقدم أحداث القصة، يعود موسى إلى مسقط رأسه ليكتشف أن عائلته، التي كانت تعيش في ظل النظام الأمني، قد انخرطت في عالم تزوير الدولار. من هنا، تنكشف “طبقات” عديدة من الخيانة، الندم، والضياع، وحتى السلطة حيث تتصارع الشخصيات مع ضغوط الحياة، المال، والطموحات الشخصية. فهل انتقال موسى من الشرطي إلى إمبراطور الجريمة يُشكل حدثا دراميا مأساويا؟ أم هو تصوير مافياوي لما هو ممكن وغير ممكن في المجتمعات التي تسودها الفوضى؟

أحد أبرز نقاط القوة في المسلسل هو أداء تيم حسن، الذي نجح في تقديم شخصية موسى بطريقة تجمع بين الجاذبية والكاريزما، مع لمحة من الشر. في البداية، يظهر موسى كشرطي تقليدي، لكنه مع مرور الوقت، يتحول إلى شخصية متمردة، يسعى للانتقام من فساد رفاقه في الأمن، وتحديدا أولئك الذين دسوا له المكائد وحاكوا ضده المؤامرات.

خطوة فنية جريئة تُسلّط الضوء على أعماق الجريمة والفوضى التي تكتسح المجتمعات في ظل الحروب والأزمات
خطوة فنية جريئة تُسلّط الضوء على أعماق الجريمة والفوضى التي تكتسح المجتمعات في ظل الحروب والأزمات

في رحلته من شرطي إلى إمبراطور عصابات تزوير المال والقتل، يبقى موسى الشخصية الأكثر إثارة وتعقيدا في المسلسل، حيث يتذبذب بين الرغبة في الثروة والسلطة وبين المبادئ التي تربّى عليها في عائلة تمتلك مطبعة قديمة للكتب، تتحول إلى طباعة الدولار المزيف فيما بعد، ليجد نفسه في النهاية محاصرا بين رغبته في الانتقام وبين ضياع قيمه الإنسانية والهشاشة في تغيير مساره الأخلاقي حيث يتصادم مع إخوته حول التزوير والنزاهة لينضم إليهم بل ويترأسهم، وهو الشرطي الذي أمضى حياته في خدمة الأمن، مما جعله الشخصية الرئيسية التي غيّرت طريقها وبدأت الصعود في عالم الجريمة والمال. فهل دهاؤه دفعه إلى كل هذا أم شعوره بأنه مغلوب على أمره دائما وسط الفساد الأمني الأكبر؟ وهل ما تحوّل إليه كان منطقيا في ظل الفساد الذي أكل ما تبقى من الشرفاء في الشارع السوري؟

من جهة أخرى، تضفي كارين بشار بُعدا آخر على المسلسل من خلال تجسيدها لشخصية تعيش على هامش المجتمع، تعمل في سوق البالة أو الثياب المستعملة ويمتد دورها ليشمل مساهمتها في عمليات تزوير الدولار وتصبح صاحبة محل أزياء ويتحول سميري إلى مصمم فساتين. كارين تجسد الشخصية الأنثوية التي تنبع من بيئة مليئة بالصراعات والمآسي، حيث تنجذب نحو هذا العالم المظلم بسبب الظروف التي أوجدتها فوضى الحرب، وتوازنها بين ضعفها الداخلي وقوتها الظاهرة يخلق جدلية مثيرة، تطرح تساؤلات عمّا إذا كان المجتمع هو الذي يصنع المجرمين، أم أن الظروف هي التي تدفعهم إلى هذا الطريق.

هذا الأمر مثير جدا لاهتمام المشاهد بهذه الشخصيات التي تثير زوبعة من التساؤلات نحو شخصيات مليئة بالفساد وأخرى متمسكة إلى آخر لحظة بالعدالة وتطبيقها كزميل موسى في الأمن فجر الذي يلعب دوره جوان الخضر، الذي تشوّه وحاول قتل موسى بعد أن انفلت من مبادئه أيضا. وهذا يعني أن الفساد عمّ بالكامل، فهل هذا يعني أن المنطقة الرمادية أصبحت سوداء بالكامل؟

ولا يمكن للحديث عن المسلسل أن يكتمل دون الإشارة إلى أداء تيسير إدريس، الذي قدم شخصية منير العجان بإتقان فني عالٍ. نجح إدريس في تجسيد ازدواجية الشخصية التي تجمع بين القسوة والضعف في آن واحد، وكانت نقطة ضعفه هي أمّه، التي تمثل المحور العاطفي الذي هو في أمس الحاجة للاهتمام بها، وابنه الذي يريد أن يخلفه في عالم التزوير. منير هو الأب الذي فقد توازنه بسبب الفساد المنتشر حوله، وهو شخصية معقدة تصارع بين التعلق بأسرة متهالكة وبين الانخراط في عالم الجريمة.

في تناوله لمثل هذه الشخصية، يعكس تيسير إدريس ببراعة ملامح مجتمع بات يتحلل أخلاقيا، ما يجعلنا نتساءل: هل يولد المجرم في بيئة مدمرة، أم أنه يتحول بفعل الظروف المحيطة؟ وهل اليد اليمنى له الذي يلعب دوره تيم عبدالعزيز هو صورة له ولكن أكثر رعبا في المستقبل؟

أما القديرة منى واصف، ملكة التراجيديا الإنسانية وحكيمة الشارع الرمادي، فقد أبدعت في دورها الذي جاء مختلفا عما اعتاد عليه الجمهور. تجسد منى شخصية حكيمة في قلب الفوضى، متماسكة رغم الزوابع التي تأكل البشر قبل الحجر، حيث تسهم في مساعدة الأطفال المشردين والفقراء الذين أصبحوا ضحايا الصراع. تظهر الشخصية في البداية بشكل سلبي، لكن سرعان ما ندرك أن هذا الوجه من الشخصية يحمل في طياته بعدا إنسانيا، إذ تعمل في بيئة غارقة في الفوضى، حيث يختلط الجشع مع المعاناة. لقد تمكنت منى واصف من إيصال رسالة عميقة حول الفقر، والجريمة، وأثر الحروب على الإنسانية، مُظهرة كيف أن الظروف الاجتماعية والسياسية قد تُسهم في صنع شخصيات أكثر قسوة وبرودة في التعامل مع الآخرين. هذا الأداء يساهم في تعزيز الجمالية الفنية للعمل، ويعطيه طابعا إنسانيا عميقا.

قسوة الواقع السوري

عالم مافيوي يُظهر الجوانب المظلمة في الشارع السوري الاقتصادي حيث  تحولت البيوت أو المحلات إلى مستودعات للعصابات
عالم مافيوي يُظهر الجوانب المظلمة في الشارع السوري الاقتصادي حيث  تحولت البيوت أو المحلات إلى مستودعات للعصابات

ما يميز مسلسل “تحت سابع أرض” ليس فقط تشويق أحداثه، بل أيضا استكشافه لأبعاد الجريمة وكيفية تداخلها مع مصير الأفراد في بيئة مضطربة. كما يقدم المسلسل تحليلا نفسانيا واجتماعيا لشخصياته، حيث يعكس قسوة الواقع السوري في سياق معقد، في إطار من الإثارة والدراما. وقد نجح المخرج سامر برقاوي في خلق دراما متوازنة بين الأبعاد الإنسانية والظروف الاجتماعية، ما جعلها تلامس الواقع بطريقة غير تقليدية، وبمستوى فني عالٍ. حتى الشخصيات الأخرى في دعمها والعناية بها دراميا وكيفية ارتباطها بموسى الناجي استطاعت تغذية الموضوعات الأكبر، كالتي أصابها الثراء والصدمات، كزوج أخت موسى مهيب، الذي يلعب دوره مجد فضة، والذي ترك بصمة أيضا بسلوكيات تفرّد بها، ووالدته التي تلعب دورها الفنانة فيلدا سمور. وأيضا سميري، الذي يلعب دوره حسام سلامة، الذي كان بمثابة الترفيه المحبب والغريب في مجتمعاتنا. حتى ياسر البحر في دور عماد أبدع ليبقى تيم حسن محاطا بتمثيل أضاف إلى بطولته بطولة أخرى.

لقد استطاع المسلسل أن يبني عالما مافيويا يُظهر الجوانب المظلمة في حياة الشارع السوري المالي أو الصيرفي والاقتصادي حيث تحولت البيوت أو المحلات إلى مستودعات للعصابات، ما جعل المشاهد يتساءل عن مدى تعقيد وتداخل الجريمة في حياة الأفراد الذين يسعون للبقاء في وطن دمرته التجاذبات الخارجية والداخلية المختلفة.

كما أن الإيقاع السريع في تطور الأحداث جعل من المسلسل مادة مشوقة لا يمكن التنبؤ بتفاصيلها. فهل التنافس على سلطة سوق المال ظل مشوقا وتماسكا طيلة الحلقات؟ أم أن كاريزما الشخصيات المختلفة حافظ على توازن القوة الدرامي؟

“تحت سابع أرض” ليس مجرد مسلسل درامي، بل هو عمل فني يعكس واقعا مريرا ومعقدا لبيئة متأزمة. يقدم لنا تساؤلات فلسفية حول الفساد، الجريمة، وما قد تفعله الحروب بمصير الشعوب.

وعلى الرغم من العوائق والمشاكل التي قد يواجهها، يظل هذا العمل أحد أبرز إنجازات الدراما العربية في رمضان 2025، ويستحق تسليط الضوء عليه باعتباره نقلة نوعية في معالجة دراما الجريمة الواقعية عربيا وتقديمها بشكل واقعي وجذاب ومتماسك.

14