الكتابة الدرامية من نسل الراقصات إلى صراع الذات في عالم "إش إش"

مسلسل يدخل في عالم النساء اللواتي يعملن في صالات ليلية بأسلوب مختلف.
الأحد 2025/04/20
لماذا استقطبت شخصية فرج الجريتلي الجمهور

احتل مسلسل "إش إش"، الذي لعبت بطولته النجمة مي عمر، مواقع الصدارة في دراما رمضان الأخير، مقدما عملا نال الكثير من الاهتمام سواء بالمتابعة، أو النقد، أو حتى الجدل الذي أثاره، ليس من منطلقات أخلاقية فحسب بل ومن منطلقات نفسية وتقنية بين النقاد والمختصين، وهو ما حدا بنا إلى إعادة قراءة العمل من زاوية مهمة هي زاوية الكتابة والسيناريو، ومنها سنكشف عن الكثير من عناصر نجاح العمل وإخفاقه.

الكتابة الدرامية تعتبر أحد أهم ألوان الكتابة الأدبية التي تهدف إلى نقل مشاعر الجمهور والتأثير فيه من خلال سلسلة من الأحداث والشخصيات المعقدة. وهي ليست مجرد حكاية تروى، بل هي بناء معقد من الصراع والتوتر والتطور العاطفي الذي يؤدي إلى لحظات من التأثير العميق.

ويتطلب العمل الدرامي ليس فقط المهارة في السرد، بل أيضا قدرة على التفكير في طبيعة الشخصيات وتفاعلاتها، وتطويع هذه التفاعلات بطريقة تدفع القصة إلى الأمام. بناء على ذلك، تدمج الكتابة الدرامية بين الفن والعلم في إطار تفاعل شخصي يتطلب فهما عميقا لأدوات السرد والقيم الإنسانية. فما هو المفهوم الأساسي للكتابة الدرامية في مسلسل “إش إش” الذي يُعتبر شعبيا، والذي يدخل إلى عوالم الراقصات من الماضي إلى الحاضر ومشكلاتهن النفسية والاجتماعية؟

شخصية مثيرة

المسلسل حقق استقطابا جماهيريا، بينما لم يكن مسبوكا بقوة في السيناريو الذي قبض على الكثير من الشخصيات وتحكم بها

الكتابة الدرامية، في جوهرها، هي فن خلق لحظات صراع بين الشخصيات التي تقود إلى تحول نفسي وعاطفي في النهاية. فهذا التحول هو جوهر القصة، سواء كان تحولا داخليا للشخصية أو تحولا في فهم الجمهور للمواقف والعلاقات. وتتنوع طرق الكتابة الدرامية بين القصص التي تركز على الشخصيات العميقة، وبين القصص التي تركز على الصراع أو الأحداث الكبيرة.

 من هنا، تعتبر الدراما شكلا من أشكال الفن الذي يتطلب قدرة على العمل مع العناصر الأساسية مثل التوتر والصراع، وبناء الشخصية، والخيارات الحاسمة. فما هو هذا التفاعل العاطفي الذي نشأ بين الدراما والجمهور؟ ولماذا استقطبت شخصية فرج الجريتلي الجمهور رغم أنه شخصية شريرة أو إجرامية؟ وهل استطاعت شادية أو هالة صدقي تقديم دور الشر المرادف بمصداقية تمثيلية ومتناقضة في الآن نفسه مع إخلاص كابوريا أو الممثلة انتصار؟

في دراما التلفزيون، تعتبر العواطف المحرك الأساسي. فالجمهور لا يلتقط الأحداث فقط، بل يعيشها عبر انفعالاته. وإحدى أهم مبادئ الكتابة الدرامية هو تحويل الحكاية إلى صراع داخلي بين الشخصيات، إذ تمثل هذه الصراعات انعكاسا لصراعات الإنسان في الحياة اليومية. والشخصيات تتطور من خلال المعاناة، التحديات، والإخفاقات، وهذه العناصر تُخلق بعناية في نصوص الحوار، المواقف، والقرارات التي تُعرض على الجمهور. فتصبح الكتابة الدرامية بمثابة مرآة للعواطف البشرية المتناقضة، مثل الحب، الحزن، الخيانة، الانتقام، والتضحية.

 فهل “إش إش”، الراقصة من نسل راقصات، تسعى لتغيير جلدها من خلال التعلم ودوافعها لتتقن اللغة الإنجليزية وتصبح مدرّسة لغة، كما قالت، وتكره الهز بمعناه الأخلاقي والفني بعيدا عن الابتذال وعن معنى الرقص الحقيقي؟

دراما تقدم صراعا معقدا بين الشخصيات، سواء كان صراعا داخليا في عقل الشخصية، أو صراعا خارجيا مع محيطها

تقدم شخصية “إش إش” في الدراما التلفزيونية مثالا عميقا على كيفية دمج التوتر العاطفي والاجتماعي في بناء الشخصية وتطورها. “إش إش”، الراقصة التي تنتمي إلى “نسل راقصات”، تحمل في طياتها معاناة شديدة، ناتجة عن بيئة نشأت فيها تحت ظل الانكسار الاجتماعي والصراع الدائم. ورغم النجاح الذي تحققه “إش إش” في مجال الرقص أو بين هلالين الهز، تظل محاصرة في دوامة من الألم الشخصي.

“إش إش” لا تمثل فقط الراقصة التي يراها المجتمع كشخصية فنية مثيرة، بل هي رمز للمرأة المكلومة في مجتمع يراها من زاوية واحدة، ويربطها بالماضي المظلم لعائلتها التي تربت في ظل ظروف صعبة ومليئة بالتحديات.

 شخصية “إش إش”، على الرغم من تألقها في مجالها، تعكس مشاعر الضعف، والإحساس الدائم بالنبذ الاجتماعي. ففي القصص التي تدور حول مثل هذه الشخصيات، يتضح لنا أن وراء الأقنعة اللامعة، توجد أرواح تكافح للعثور على الذات وسط هذا الصراع المرير.

عندما تكتشف “إش إش” حملها من مختار، وتهدم علاقتها برجب (زوجها) وتطلب الطلاق، تنكشف تفاصيل معاناتها الداخلية. هذا المشهد يعكس بعمق التحولات النفسية التي يمكن أن تحدث لشخصية ضحية لظروفها، ولعلاقات معقدة تحكمها مشاعر الانتقام، الحب، والفقدان. تلك اللحظات التي تتداخل فيها مشاعر “إش إش”، بين رغبتها في الحرية وحاجتها للحب والدعم، تجعل المشاهد يراها ليس فقط كراقصة، بل كامرأة تبحث عن ذاتها وسط دوامة من الألم والتخبط. فهل البحث عن الأخطاء والعثرات في هذا المسلسل إخراجيا وتمثيليا ليس من الأولويات؟ أم أن الدخول إلى عالم الراقصات بمعناه الشعبي والمساوئ التي تحيط به هو رؤية جديدة؟

الاستقطاب الجماهيري

في دراما التلفزيون، تعتبر العواطف المحرك الأساسي فالجمهور المشاهد لا يلتقط الأحداث فقط، بل يعيشها عبر انفعالاته

العلم الذي يدرس الدراما يتجاوز التفكير التقليدي حول القصة، ليغطي جوانب بناء النص، مثل الهيكل الدرامي، الشخصية وتطوراتها، والزمان والمكان.

هناك العديد من الأدوات التي يعتمد عليها الكتاب في بناء النصوص الدرامية، ومنها الهيكل الدرامي حيث يتم غالبا ترتيب النصوص وفقا لقواعد هيكلية تقليدية، مثل “البداية – العقدة – الذروة – النهاية”.

 هذه الأطر تجعل القصة أكثر تسلسلا وترتيبا، مما يسهل على الجمهور متابعة تطور الأحداث وفهم الرسالة الرئيسية للعمل. إلا أنه في “إش إش” ارتبك الهيكل، فكان أشبه ببطولات مرخية من نواح أخلاقية، فما من شخصية يمكن أن يحتذي بها الجمهور أو تكون نموذجا يحتذى به، باستثناء الأم القوية التي اتصفت بها إخلاص كابوريا، والدة “إش إش”. فهل هي التجسيد الحقيقي لصراعات الشخصيات الداخلية التي تظهر بوضوح عبر أفعالها وحواراتها؟ وهل هي شخصية لبنة التي فقدت قيمة الأخلاق نهائيا؟ وهل من شخصيات متعددة الأبعاد، ذات دوافع معقدة، حيث تتغير وتتكشف مع تقدم الحبكة كما هي الحال مع الراقصة دينا التي تلعب دور أخت إخلاص كابوريا عديمة الشخصية من خلال حبها الأعمى لرجل فاسد أخلاقيا حتى مع ابنه؟

يمكنني القول إنها دراما تقدم صراعا معقدا بين الشخصيات، سواء كان صراعا داخليا في عقل الشخصية، أو صراعا خارجيا مع محيطها. هذا الصراع هو الوقود الذي يدفع الأحداث إلى الأمام، ويعطي الشعور بالتوتر المستمر. إضافة إلى الألوان في ملابس الراقصة “إش إش” الغريبة والجاذبة بصريا لتشكل حاسة إضافية لفئة من الناس يمكن وصفهم بالعالم الضعيف أو المستضعف والفقير. فالرمزية في هذه الدراما تحمل معاني أعمق، قد تتعلق بالموضوعات الأخلاقية التي لم يعالجها العمل بل قدمها ليعزز دوافع الاستقطاب الجماهيري الذي ارتكز عليه.

الكتابة الدرامية

في "إش إش" ارتبك الهيكل فكان أشبه ببطولات مرخية
في "إش إش" ارتبك الهيكل فكان أشبه ببطولات مرخية

في العصر الحديث، تتطور الكتابة الدرامية بشكل متسارع بفضل التكنولوجيا ووسائل الإعلام المتنوعة. أصبح الكتاب قادرين على الوصول إلى جمهور أكبر من خلال منصات الإنترنت، مما يتيح لهم تجربة أساليب سرد جديدة. منصات مثل نتفليكس وغيرها والتي فرضت نوعا جديدا من الكتابة الدرامية التي تتعامل مع قضايا أكثر جرأة، وتسمح للأحداث بالتطور بشكل أبطأ وأكثر تعقيدا، بما يتناسب مع اهتمامات الجمهور المعاصر. كما أن الاهتمام العميق بالشخصيات والنصوص الواقعية، وصياغة الحوارات بطريقة تعكس التعقيدات النفسية، أصبحت أكثر أهمية من أيّ وقت مضى.

الكتابة الدرامية اليوم تتطلب إبداعا في بناء الشخصيات، وتحديد الصراعات الداخلية التي تواجهها، ثم إيجاد الحلول المؤلمة أو المربكة التي قد تؤدي إلى تحولات جذرية. لمسناها في “إش إش” التي اتخذت طريقا مختلفا عن جدتها وجدة جدتها أو كما قالت “نسل العوالم”. فقد خرجت “إش إش” من نسل العوالم. فهل المسلسل أراد الخروج من نسل العوالم؟ ولماذا لم يمنح الرقص نوعا من العلم القائم على أهداف مختلفة عن الهز بمعنى الهز الخالي من حركات راقصة تؤدي إلى منحه صفة الفن؟

الكتابة الدرامية هي مجال من الإبداع المعقد الذي يتطلب من الكتاب فهما عميقا للإنسان، لمشاعره، وللمجتمع من حوله. فمن خلال مزج الفنون الأدبية مع المعرفة العميقة بالسياقات الاجتماعية والسياسية، يمكن للكتابة الدرامية أن تفتح آفاقا واسعة لفهم الإنسان وطاقاته العاطفية.

شخصية “إش إش” في دراما “الراقصة من نسل راقصات” تعد مثالا حيا على قدرة الكتابة الدرامية على تقديم صورة معقدة لشخصية تعاني من صراعات داخلية مع نفسها ومع المجتمع من حولها. وبينما تقدم القصة لمحات عن عالم الهز وليس الراقصات كرقص فني بعيد عن صراع فئة من النساء اللواتي يرقصن في الأفراح الشعبية والمعاناة التي يعشنها.

 تصبح “إش إش” أكثر من مجرد راقصة، بل تمثل رمزية للمرأة التي تسعى للبحث عن ذاتها وسط عواصف الحياة. فهل أتقن المخرج محمد سامي إدارة إظهار تعابير الشخصيات بشكل لا يثير الجدل كما هي الحال في شخصية انتصار أو إخلاص كابوريا وبراعتها التمثيلية لهذه الشخصية الضحية في مجتمع لا يرحم؟ وهل ماجد المصري قدم شخصية يحتذى بها رغم سلبياتها الأخلاقية؟ أم أن مي وائل في قدرتها على خلق غرابة في الملابس جذبت الجمهور بصريا بشكل قوي في المشاهد؟

أنا لا أمدح المسلسل هنا، لكنه دخل في عالم النساء اللواتي يعملن في صالات ليلية بأسلوب مختلف. فقد صور الضعف والدسائس والخيانات والانحطاط الأخلاقي وكل ما إلى ذلك في مسلسل حقق استقطابا جماهيريا، بينما لم يكن مسبوكا بقوة في السيناريو الذي قبض على الكثير من الشخصيات وتحكم بها، لكنه دخل في كنه عوالم الهز ولن أقول هنا عوالم الراقصات الحقيقية لأن الرقص الحقيقي هو فن لا يستهان به في عالم الفن.

11