عمار عبة.. سفير مخضرم لضبط أوتار الدبلوماسية الجزائرية

استعان الرئيس الجزائري عبدالمجيد تبون بالسفير المخضرم عمار عبة كمستشار لديه من أجل ضبط أوتار الدبلوماسية داخل قصر المرادية، ما يوحي بأن هرم السلطة لم يستقر بعد ست سنوات من قيادة البلاد على آلية معينة تهندس وتوجه الدبلوماسية الجزائرية، فبعد تجربة المستشارين المتخصصين والمبعوثين الخاصين، يتم الاستنجاد بعمار عبة، لتقديم رؤيته وخبرته في هذا المجال وإفادة دوائر القرار الرئاسي، لكن إلى أيّ مدى يمكن للرجل أن يقنع بمقاربته، وإلى أيّ مدى يمكن للمرادية أن تأخذ بها.
بعد سنوات من التخبط والارتباك على أداء الدبلوماسية الجزائرية انتهت إلى أزمات مفتوحة ومتراكمة مع عدة أطراف، يبدو أن الرجل الأول في هرم السلطة قد وضع ثقته في واحد من مخضرمي الجهاز، ليكون المصدر الذي يعود إليه في اتخاذ المواقف والتصورات، خاصة وأن البلاد صارت في وضع لا تحسد عليه، نتيجة خلافاتها وأزماتها في المنطقة.
وأصدر الرئيس تبون مرسوما رئاسيا عيّن بموجبه السفير المتقاعد عمار عبة (77 عاما)، كمستشار دبلوماسي لرئاسة الجمهورية، وهو ما يبرز نوايا إعادة ترتيب الأداء الدبلوماسي، خاصة وأن السفير المخضرم يجمع بين الأداء الميداني والبحث والتأليف الأكاديمي.

◄ هل يستعين تبون حقا بخبرة عمار عبة أم سيجعله مجرد قطعة ديكور في قصر المرادية، في ظل وجود فاعلين كثيرين في صناعة القرار
وبين عدم اقتناع الرئيس تبون، بحصيلة الأداء الدبلوماسي، رغم حالات التدخل المتكررة بحركات تغيير وتجريب بعض الآليات، وبين الرؤية التي يحملها المستشار الجديد، التي عبر عنها في كتابه الأخير “السياسية الخارجية الجزائرية.. 1962 – 2022“، تطفو إلى السطح إشكالية حدود كل طرف في رسم معالم الدبلوماسية الجزائرية.
فهل يفرض السفير المخضرم رؤيته التي تبلورت عبر عقود من الممارسة، أم يتركها خلف أسوار قصر المرادية، وهل يستعين الرئيس تبون حقا بخبرة الرجل، أم سيجعله مجرد قطعة ديكور في قصر المرادية، في ظل وجود أكثر من فاعل في صناعة القرار الدبلوماسي، بما في ذلك مؤثرو شبكات التواصل الاجتماعي؟
قناعات متراكمة
تزامن تعيين الدبلوماسي المتقاعد، في منصبه الجديد بقصر المرادية، مع بوادر سابقة تتشكل في صناعة القرار الدبلوماسية الجزائري، بعد الضجة التي أثارها وسم، أقل ما يقال عنه إنه أحمق، يدعو الرئيس تبون، إلى عدم الذهاب إلى بغداد للمشاركة في القمة العربية المنتظرة، والسبب برأي هؤلاء هو “الخوف على سلامته وحياته الشخصية، وأن مؤامرة تستهدفه كما حدث مع الرئيس الراحل هواري بومدين، الذي سُمّم بمرض نادر، ومقتل وزير الخارجية السابق محمد الصديق بن يحيى، بعد استهداف طائرته بصاروخ عراقي“.
العراقيون بدورهم مندهشون وحيارى من الذي يحدث في الجزائر تجاه بلدهم، وحتى تبنّي وسائل إعلام رسمية ومقرّبة من السلطة للوسم، ومحاولة جسر الهوة مع العراق، لا يغطي على الانحراف، فاستحضار الحمقى لحادثة الحسين، وللخيانة العربية والتطبيع، أدخل الكل في الحائط، وعلى رأسهم الرجل الأول في الدولة نفسه، فإن هو شارك سيكون أمام حرج السؤال، وإن هو غاب يكون قد قاطع القمة واستسلم لوسم افتراضي، وفي المحصلة أزمة أو فتور في أحسن الأحوال مع بلد، لم يتأخر رئيسه في تلبية دعوة القمة العربية التي احتضنتها في 2022، وبعدها قمة الدول المصدرة للغاز.
وتكشف هذه العينة حجم العبء الذي يثقل كاهل الآلة الدبلوماسية الجزائرية لأداء دورها الطبيعي واستعادة أمجادها، الأمر الذي يجعل المستشار الجديد أمام ركام من الملفات والقرارات، ويحتّم عليه مراجعة الكثير من الأوراق، وفق القناعات والتصورات التي وضعها بين دفتي كتاب “السياسة الخارجية الجزائرية.. 1962 – 2022”.
◄ عبة يشير إلى أن الدولة الجزائرية ظلت تقدّم لعقود طويلة قيمَ التحرّر الواردة في فلسفة الثورة الجزائرية على حساب مصالحها الاقتصادية
يعرّف عمار عبة السياسة الخارجية بكونها تشمل مجموع الأفكار والأعمال المتبناة من طرف الدولة، من أجل حماية وترقية مصالحها لدى الدول، ولدى المنظمات الدولية، والفاعلين غير الحكوميين.
ويرى المستشار الجديد في قصر المرادية أن “الدبلوماسية الناجحة، يمكن تلخيصها في كونها نتاج التاريخ والجغرافيا، وفي أولوية المصالح على المبادئ، ولعل أحسن من عبّر عن هذا المبدأ هو بسمارك (موحّد ألمانيا في القرن 19)، حين قال: لا شيء يعلو على المصلحة الوطنية، وأن المجتمع الدولي لا يخضع للقانون، بقدر ما يخضع لمصالح الدول الكبرى. ولعل ما يؤكد ذلك ضعف هيئة الأمم المتحدة بشهادة أمينها العام الحالي أنطونيو غوتيريش“.
ويضيف “السياسة الخارجية هي انعكاس للوضع الداخلي، فعندما يعاني بلد ما من أزمات داخلية (سياسية واقتصادية)، فإنه يفقد جزءا من حريته في مجال السياسة الخارجية، وأن السياسة الخارجية هي المجال الوحيد الذي يتم التوافق حوله من طرف الفاعلين السياسيين بكل أطيافهم المتنوعة في الدولة“.
ويذهب إلى أن التاريخ أكد على أن الخلافات السياسية بين الدول، هي مع الجيران والأقربين بالدرجة الأولى (المحيط الإقليميّ)، وأن التوجه العام في العلاقات الخارجية، يدفع نحو ضمور سيادة الدول بفعل العولمة ورقمنة الاقتصاد العالمي، وظهور شركات اقتصادية عابرة للحدود السياسية، وكذا ازدياد نفوذ صندوق النقد الدولي، والمنظمة العالمية للتجارة، والمنظمة العالمية للصحة، والمنظمات غير الحكومية المدافعة عن حقوق الإنسان.
ويرى أن العالم الذي عاش طيلة عقود على وقع القطبية الثنائية بين الأميركيين والسوفييت، ماض في تغير متسارع بداية من انهيار الاتحاد السوفييتي وسقوط جدار برلين، ثم القطبية الأحادية للولايات المتحدة خلال عقد من الزمن، وظهور الاتحاد الأوروبي، إلى غاية ظهور ملامح عهد جديد متميّز ببروز الصين وعودة روسيا إلى الساحة الدولية، وبروز مجموعة دول بريكس، وأنه رغم تراجع القارة الأوروبية من حيث الأهمية السياسية، فما زالت تملك أوراقا رابحة، تتمثل في تطورها الاقتصادي والعلمي وفي الصناعة العسكرية.
ترتيبات ضرورية
يلفت عبة إلى أن الدولة الجزائرية ظلت تقدّم لعقود طويلة قيمَ التحرّر الواردة في فلسفة الثورة الجزائرية، على حساب مصالحها الاقتصادية. ثم عرفت توازنا في عهد الرئيس الشاذلي بن جديد، الذي قام بزيارة فرنسا سنة 1983، والولايات المتحدة سنة 1985، لإضفاء طابع الواقعية البراغماتية على السياسة الخارجية.
لكن برأي الكتاب الدبلوماسي، فإن الدبلوماسية الجزائرية دخلت في تسعينات القرن الماضي، في نفق مظلم بسبب العزلة الدولية نتيجة الاضطراب السياسي المعروف. وفي عهد الرئيس الراحل عبدالعزيز بوتفليقة استرجعت السياسة الخارجية بعض بريقها بفضل التواصل مع الدول الغربية الكبرى، لكن مرضه أعادها من جديد إلى حالة الضعف، المتجلية في خفوت تأثيرها على أحداث دول الجوار، خاصة في الأزمة الليبية المنفجرة سنة 2011. وقد اضطرت الدولة الجزائرية أخيرا إلى إلغاء المادة الدستورية المانعة لاستعمال الجيش الوطني الشعبي خارج حدودنا في الدستور الأخير (2020)، وهذا من باب مسايرة الأوضاع الأمنية بفاعلية أكثر.
ويقترح المؤلف ضرورة ترتيب أولويات السياسة الخارجية، واضعا دول الجوار، أي دول شمال أفريقيا والساحل والحوض الغربي للبحر الأبيض المتوسط (إيطاليا/ فرنسا/ إسبانية) في مقدمة الأولويات. ثم تأتي الدول الكبرى في المرتبة الموالية (الولايات المتحدة / بريطانيا/ ألمانيا/ روسيا/ الصين). وبعدها تأتي المنظمات الإقليمية كالجامعة العربية، والاتحاد الأوروبي، والاتحاد الأفريقي. وفي الأخير تأتي الدول الصاعدة اقتصاديا وسياسيا كتركيا والهند والبرازيل.
وأمام هذا التصور الأكاديمي، يجدر التساؤل عن مصير مثل هذه الأفكار، خاصة في ما يتعلق بتحديد الأولويات، ومدى قدرته على إقناع دوائر القرار بمراجعة الموقف تجاه الجار المغربي، على اعتباره طرفا في منطقة الشمال الأفريقي، ومع دول الساحل بعد القطيعة الناجمة عن حادثة الطائرة المسيّرة المالية، التي أسقطها الجيش الجزائري مطلع الشهر الجاري، ومع فرنسا التي تسجل معها أزمة غير مسبوقة منذ استقلال البلاد.
◄ عمار عبة يعرّف السياسة الخارجية بكونها تشمل مجموع الأفكار والأعمال المتبناة من طرف الدولة
الدبلوماسي عمار عبة، المنحدر من محافظة تيزي وزو، بالقبائل الجزائرية، هو واحد من خريجي المدرسة الوطنية للإدارة، التي تظل الخزان الأول لإنتاج الكوادر الحكومية، بداية من مسؤولين بسطاء في المستوى المحلي، إلى السفراء والوزراء ورؤساء الحكومات، وحتى رؤساء الجمهورية، فتبون نفسه هو خريج المدرسة المذكورة.
وينقل عنه في أحد تصريحاته قوله “هناك اتساق، ولكن أيضا هناك تباين، وجهد مستمر من البراغماتية من أجل البقاء مخلصين لمبادئ الثورة الجزائرية ومراعاة المصلحة الوطنية والواقع الذي يحيط بنا بشكل متزايد، وأن الوساطة هي واحدة من أشهر أدوات الدبلوماسية الجزائرية“.
ويحرص السفير الجزائري السابق لدى موسكو ولندن، على تسليط الضوء على الفرق بين السياسة الخارجية والدبلوماسية. فالسياسة الخارجية هي مجموعة الأفكار والإجراءات التي تنفذها دولة ما للدفاع عن مصالحها الوطنية. ويوضح قائلاً “الدبلوماسية هي الأداة الرئيسية للسياسة الخارجية“.
ويرى أنه “في سياق يتميز بالتقلبات الجيوستراتيجية في العالم والتوترات مع دول الساحل وكذلك مع فرنسا، يمكن أن يكون الشتات جزءا من القوة الناعمة للجزائر.”
وقال “السياسة الأفريقية شكلت جزءا مهما من سياستنا الخارجية منذ عام 1962. لقد دعمنا حركات التحرير لاستكمال تحرير أفريقيا والمساعدة في تنميتها الاقتصادية، وأن القارة الأفريقية دخلت مرحلة جديدة من البناء“.
ويستحضر شعارا يعود إلى 200 عام قبل الميلاد، رفعه القائد الأمازيغي “ماسينيسا”، وهو “أفريقيا للأفارقة”، لأنه يراه “لا يزال ذا صلة اليوم، لأن الشتات الجزائري يمكن أن يكون جزءا من القوة الناعمة للجزائر، فليس لدى كل البلدان شتات كبير وديناميكي إلى هذا الحد“.
المستشار الجديد في قصر المرادية، الذي قضى 47 عاما في خدمة الدبلوماسية الجزائرية، منها حوالي عشرين سنة كسفير للجزائر في دول عديدة، أهمها موسكو ولندن، وإذ يصر على وضع تجربته في خدمة الطلاب والسفراء الجدد والصحافيين المنشغلين بالقضايا الدولية، فإن المطلوب هو تفعيل هذا الإصرار عمليا في ضبط أوتار الدبلوماسية الجزائرية داخل مؤسسة رئاسة الجمهورية.