"فتنة الأطياف".. عشق متبادل لسحر السينما وأرباب الخيال

الروائي المصري سعد القرش يرصد رحلته مع السينما مشاهدا وكاتبا.
الخميس 2025/04/24
نظرة روائي عرف المهرجانات السينمائية عن قرب

لم يكتف الروائي المصري سعد القرش بحضور المهرجانات السينمائية حول العالم، بل وثق أهم فعالياتها وأخبارها، التي قد تكون غريبة وصادمة لمن لا يعرف كواليس الفن، وأراد أن ينقلها في كتاب جديد له، يروي فيه عمق شغفه بالسينما والأفلام وأهم ملاحظاته عن السينمات العربية باختلافها، وأهم ما تعلمه واكتسبه من هذا الوسط الفني.

الحياة بالنسبة إليه تجربة، والسينما عشق منذ الطفولة، أما الكتابة فهي تجربة حياة وعشق لا ينتهي، وهي عصاه التي يتوكأ عليها، ويضرب بها ولا يبالي في الأدب والفن والشأن العام، فلا فواتير ولا ديون يدين بها لآخرين، سوى ضميره وحسه ووعيه الخالص.

وفي كتابه “فتنة الأطياف.. أفلام ومهرجانات” الصادر حديثًا عن دار صفصافة للنشر والتوزيع، يمزج الروائي المصري سعد القرش بين الخاص والعام في رصد رحلة عشقه للسينما، مشاهدًا وكاتبًا يرفض أن يصفه آخرون بالناقد، مكتفيًا بالفتى الذي استجاب لنداهة السينما فأحبها من طرف واحد على حد قوله.

يصحبنا الكاتب في رحلة بدأها قبل نحو أربعين عامًا عندما شاهد بسينما المحلة أول فيلم له، مرورًا بتجارب مشاهدة خاصة لأبنائه سلمى وملك وآدم، الذين سحرتهم أفلام السينما العالمية في سن مبكرة، وهو برهان آخر يدلل به القرش على سحر هذا الفن وسطوة أرباب الخيال على عقول خضراء مع فوارق اللغة والخلفيات الثقافية والحضارية، ثم يمضي برحلته قفزات إلى الأمام حيث مهرجانات عربية وغير عربية حضرها والتقى فيها بالسحرة صناع الأفلام والنجوم، الذين تنقل معهم إلى عوالم بلا ضفاف، فتعمق عشقه للسينما، وانتقل من مقاعد المشاهدين إلى مقعد المحكم الخبير في لجان التحكيم، ناهيك عن كتاباته النقدية المتعددة عن الأفلام والمهرجانات، ومع ذلك يرفض وصفه بالناقد مكتفيًا بكنه الفتى الذي أحب السينما من طرف واحد.

سعد القرش إنسان بسيط متسق مع نفسه لا يمكن أن تضبطه متلبسًا بارتداء البدل الرسمية إلا مضطرًا، عشقه الأبدي الكتابة

من بعض عناوين مقالات الكتاب نقرأ: فتى يعشق السينما، أفلام تتسامح مع القاتل وأخرى تعاقب أهله، مهرجان القاهرة 2017.. هل هي الشيخوخة؟ في وداع مهرجان القاهرة 2017.. سرادق لأفلامنا، الأفلام العربية لم تتخلص من ميراث المسرح، من الشارع إلى قلعة الأوبرا، جوائز عربية ترضية لليتامى، الهند تحتفل بالسينما العربية، إعادة اكتشاف أبوسيف ونجيب محفوظ، الخيال يسبق العاصفة. ويقف المؤلف طويلًا عند الأفلام الوثائقية بعدة مقالات، منها ترميم الذاكرة، السينما الوثائقية.. ذاكرة تقاوم الفناء، جناية سينمائيين مصريين على الأفلام الوثائقية.

ويحتفي أيضا بالمخرج خيري بشارة في فصل عنوانه “خيري بشارة الساحر الذي أدخلني المتاهة”، ليأتي الختام غير السعيد على عكس ما اعتادت الأفلام، بسطور تنزف باقتراب محب للكتابة في فصل يدلل مرة ثانية على علاقة الحب المتبادلة بين المؤلف والسينما، عنوانه “شجون السينما والصحافة”.

أطياف الكتابة التي طغت على سطور الكتاب منذ المقدمة حتى النهاية، برهان ثالث على عشق الفتى للسينما وعشقها لقلمه، الذي حمل أطياف نجوم ونجمات، أفلام ومهرجانات خالدة في الذاكرة، خلدت صناع الأفلام من كتاب وروائيين وكتاب سيناريو ومخرجين ومصورين وممثلين، صمدت أعمالهم في اختبار الزمن، ويبقى طيف السندريلا سعاد حسني والنجمة الأميركية ميريل ستريب حافزًا إضافيًا على حب الحياة وحب السينما والفن والجمال، الذي برهن مجددًا على العشق المتبادل مع الفن السابع!

بداية الرحلة

الكتاب ثمرة مهرجانات سينمائية اتخذت فيها مقعدا صغيرا، خفيفا تنقلت به بين عروض الأفلام، ثم كتبت كتابة حرة
الكتاب ثمرة مهرجانات سينمائية اتخذت فيها مقعدا صغيرا، خفيفا تنقلت به بين عروض الأفلام، ثم كتبت كتابة حرة

يقول المؤلف “فتحت السينما للفتى أبوابا على عوالم بلا ضفاف، وأضافت إلى عمره أعمارا، وأطلعته على بعض السّر، ورأى اسمه ونسبه في شجرة عائلة إنسانية كبيرة، يزيد أفرادها كلما صُنع فيلم يستحق المشاهدة وظلت تثري روحه، متاهة تنافس ألف ليلة وليلة خيالا ومتعة.”

الفتى الذي استجاب لنداهة السينما رأى العالم بعيون المخرجين، واكتشف أن كل إبداع يؤدي إلى السينما، وأن لكل مبدع في السينما نصيبا أيا كان الفن الذي يجيده. وانجذب إلى أرباب الخيال. سوف يقابل يحيى حقي ونجيب محفوظ ويوسف إدريس وأدونيس وسعدي يوسف ومحمود درويش والطيب صالح والهادي آدم، وكمال الشيخ وصلاح أبوسيف ويوسف شاهين، ويحضر لقاء حاشدا لمارتن سكورسيزي في مكتبة الإسكندرية. سيكتشف شيئا غريبا، كيف فاته أن تجمعه صورة مع أي منهم؟ باستثناء نجيب محفوظ؛ فالأضواء تربكه، وهو مصاب بفوبيا الميكروفون، ويحسد جسورين يُفنون أعمارهم في إدمان الكاميرا.

الفتى الذي سحرته الأفلام أقرّ بهذا الأسر المختار، ولا يود الشفاء. وإذا اضطر إلى المشاهدة عبر شاشة أليفة، لا شاشة السينما، استعد بما يليق بجهد صناع هذه الأفلام؛ فلا يمتهنها وإنما يجهز ما يشبه الخلوة، ويبدأ المشاهدة عادة بعد منتصف الليل، ولا يهمه متى ينتهي.

ويؤكد الكتاب على سحر السينما الذي سيطر على المؤلف وفيه يقول “في السينما أجد نفسي، ويتأكد لي أنها هي أجمل حقيقة اهتدى إليها الإنسان في نهاية القرن التاسع عشر، ولا أتخيل القرن العشرين وما بعده من دون السينما، أروع خيال خلقه الإنسان وصدقناه. بين المشاهد وصناع الفيلم عقد غير مكتوب ما نشاهده محض خيال، سحر أسهم في صنعه كاتب ومخرج وممثلون ومونتير ومهندس ديكور وموسيقي، وإتقان الخيال حتى درجة التلقائية يجعله أكثر واقعية وصدقا وجمالا من أي حقيقة يعبر عنها، الفيلم يوحي أنه حقيقة، هو الحقيقة.”

ويقول “أحب السينما حتى إنني أتورط في عملية المشاهدة، ولا أعتبر ما أشاهده أفلاما، أنساني على باب دار العرض، أو حين تغيب الإضاءة وتحضر الأطياف. منحت السينما مؤلفين خلودا ما كانوا من دونها، ليحلموا بشيء منه. من كان سيذكر الآن ‘رد قلبي’ و’في بيتنا رجل’ و’غروب وشروق’؟ كما منحتني السينما أصدقاء عربا وأجانب، وجعلت بعض الممثلين أفرادًا من عائلتي الإنسانية الكبيرة.”

الهروب الكبير!

الفتى الذي استجاب لنداهة السينما رأى العالم بعيون المخرجين، واكتشف أن كل إبداع يؤدي إلى السينما، وأن لكل مبدع في السينما نصيبا أيا كان الفن الذي يجيده

سعد القرش إنسان بسيط متسق مع نفسه لا يمكن أن تضبطه متلبسًا بارتداء البدل الرسمية إلا مضطرًا، وإن فعل لا يمكن أن يجيد ربطة العنق، وهو طيلة حياته يفر من المناصب، عشقه الأبدي الكتابة التي كلما أنهكته واستهلكت طاقته ظننته سيستسلم بهدوء السحرة المتقاعدين، فيأوي إلى شجرة خلد تعصمه من القيل والقال، إلا أنه لا يتوب عن الكتابة الحلوة، ولهذا يرى في وصفه بالناقد شبهة وتهمة يفر منها، فيقول “علاقتي بالسينما حب من طرف واحد، هكذا أضمن له حياة ممتدة؛ وعشقا لا يصيبه ملل، فلا أنتظر أن ينتهي هذا الحب بزواج يرهن العلاقة بحسابات وتوازنات، لن أصبح كاتب سيناريو ولا مخرجا ولا ممثلا، يعنيني أن أظل عاشق أفلام، تحلو لي الهجرة إليها في المهرجانات، وأعيد مشاهدتها في التلفزيون.”

ويوضح “علاقتي بالمهرجانات وثقت علاقتي بالسينما، بأفلام أراد صانعوها أن تمس الجوهر الإنساني، وأن تتجاوز اختبار الزمن، وتثير دهشة أجيال لم تولد بعد. يصلنا بعض هذه الأفلام عبر مهرجان القاهرة السينمائي. كان المهرجان حتى نهاية التسعينات، تحديدا حتى وفاة رئيسه سعدالدين وهبة، مناسبة ينتظرها عشاق السينما، ويصطف الجمهور أمام دور العرض في انتظار الدخول، ومن ذلك الزحام خرجت مقولة قصة ولا مناظر؟ سؤال يلخص الفيلم في إجابة من كلمة واحدة.. هل الفيلم درامي؟ أم يحفل بالمشاهد الساخنة؟”

الأفلام بالنيات

Thumbnail

هذا الكتاب ردّ جميل إلى هذا الفن، تحية إلى صناع الأفلام، وإلى مسؤولي مهرجانات جادة يختلفون عن معظم مسؤولي مهرجان القاهرة الذين لا تعنيهم السينما، ولا تشغلهم مشاهدة الأفلام.

ويقول الكاتب “في مصر رؤساء ومديرو مهرجانات لا يشاهدون فيلما يعرضه مهرجانهم. وقلما يحرص سينمائيون من كبار السن على مشاهدة الأفلام، وإن كان الجيل الجديد من المخرجين أعمق وعيا وأقل حظًا، وأكثر ثقة، رغم بطء الخطوات.”

ويرى أن “الكسالى يؤمنون بأن الأفلام بالنيات، بهذا الاطمئنان لا تتطور صناعة السينما، لأن لدينا وهما يقترب من جنون العظمة بأننا الأقدم والأجدر، وندمن أفعل التفضيل، ثم يأتي اختبار يكشف الزيف، فلا نجد فيلما مصريا جديرا بالمشاركة في مهرجان مصري.”

ويعتبر أن “الرحلة من سينما المحلة إلى مقعد لجنة التحكيم طويلة وشائقة. من أجواء الحر والشجار والخوف من السرقة ومن حرق جلباب العيد بالسجائر، ثم من المقعد المريح في سينما كريم بالقاهرة إلى مهرجانات في الشرق والغرب. رحلة حققت شعوري القديم بالطيران، بعد مشاهدة فيلم ‘الطوق والإسورة’. تجربة التحكيم حكاية تستحق أن تروى، وبخاصة حين يكون معك في اللجنة عضو مصري، وحين تخلو منه اللجنة.”

ويؤكد “هذا الكتاب ثمرة مهرجانات سينمائية اتخذت فيها مقعدا صغيرا، خفيفا يسهل حمله تنقلت به بين عروض الأفلام، ثم كتبت كتابة حرة، على تخوم فنون وعلوم.”

ويصف الكاتب فصول كتابه بقوله “هذه فصول يعوزها المنهج والترتيب، ولا تتبنى رسالة أكثر من تأكيد محبتي لهذا السحر، عبر كلام من القلب، عن أفلام أحببتها، ومهرجانات عرضت أفلاما أحببتها، وأردت أن أشرك القراء في بهجة المشاهدة، وأحيانا أدعوهم إلى رؤية أجواء مدن تحتضن مهرجانات. تركت الفصول كما كتبت؛ لأنها تعبر عني وقت المشاهدة والكتابة، ولأني أتوجه بها إلى شركاء في محبة السينما، أصدقاء مراهقين رائعين تتراوح أعمارهم بين 9 و99 عاما، يتمتعون بلياقة ذهنية ومرونة الانتقال من فيلم إلى عمل أدبي، إلى كتاب في التاريخ، إلى مباراة في أفكار يتأسس عليها الفيلم والكتاب، ثم العودة إلى الفيلم.”

ويختتم “بهذه الفصول جسور محبة أمدها إلى قراء شاهدوا الأفلام المذكورة في هذا الكتاب، وإلى قراء لم يشاهدوا هذه الأفلام وسيختبرون تجربة المشاهدة في ضوء الكتابة فيتفقون معي ويختلفون، وإلى قراء يكتفون بالقراءة التي لا تغني عن الأفلام.”

13