لمن تصدر الصحف؟

الصحيفة ظلت حاضرة بقوة على مدى عقود طويلة خاصة في المقاهي التي تجمع وجوها وأعمارا وخلفيات مهنية وثقافية متفاوتة.
السبت 2024/11/09
حروف وصور

في صباحات مدينتنا ومدن أخرى في العالم، تُشم رائحة القهوة من بعيد، وتشعر بحرارة الفطائر الساخنة والخبز الطازج الخارج لتوه من الأفران، أسمع زقزقة العصافير وأصوات الطيور، وضحكات وهمسات المارة على أرصفة الذكريات، وأجواء السكينة والطمأنينة المصاحبة لتلاوة القرآن بأصوات من السماء، قبل أن يمزق الصخب أحشاء المدينة، ويتكاثر الرواد على المقهى الشعبي نفسه بقلب العاصمة.

اعتاد عجوز قابلته ذات صباح قبل ربع قرن تقريبًا، المجيء إلى المقهى المجاور لعملي كل يوم، أرقبه من نافذتي المطلة على الحياة، يجلس وحيدًا ممسكًا بصحيفته الصباحية المفضلة، وفي اليد الأخرى إفطاره القليل، وفي صمت تام يلتهم صحيفته كما يلتهم إفطاره، الطاولات والكراسي ورواد المقهى والنادل جميعهم يحفظون ملامح العجوز وعاداته، يعرف النادل توقيت حضور الرجل، ومتى يفرغ من إفطاره وصحيفته ويطويها طي السجل للكتب، ومتى يضع له كوب الشاي الوحيد وقليلًا من الماء، ومتى يرفع من أمامه الأكواب بعد أن ينصرف الرجل في هدوء كما جاء في هدوء. يبدو العجوز منسيًّا في المقهى، وفيه تصدق كلمات الشاعر الفلسطيني محمود درويش في قصيدته “مقهى، وأنت مع الجريدة” وفيها يقول:

"مقهى وأنت مع الجريدة جالس

لا لست وحدك نصف كأسك فارغ

والشمس تملأ نصفها الثاني

كم أنت حر أيها المنسي في المقهى

فلا أحد يرى أثر الكمنجة فيك

لا أحد يحملق في حضورك أو غيابك

أو يدقق في ضبابك إن نظرت”!

من قارئ!

◙ لن تموت الصحافة وإن ماتت الصحف الورقية تباعا، ماتت الصحيفة (Newspaper) أخبارا وورقا، وانتهت وظيفتها الإخبارية إلى الأبد

في عام 1948 طرح الكاتب الأميركي إرنست همنجواي روايته "لمن تقرع الأجراس"، وفيها تنديد بالحروب وانتصار للبشرية على خلفية الحرب الأهلية في إسبانيا، كانت خلاصة الرواية متأثرة بكتاب “تأملات” لجون دون (1624) وفيه يقول “لسنا جزرًا مستقلة بنفسها، كلنا جزء من القارة، جزء من كل، فأنا معني بالبشرية؛ فلا تراسلني أبدًا لتسألني لمن تقرع الأجراس؛ إنها تقرع من أجلك"!

كانت الصحيفة الورقية مكونًا ثابتًا في أيادي العابرين، وفي المواصلات العامة، الحافلات والباصات والقطارات، وعلى أرصفة الحنين ومحلات الحلاقة ولدى باعة الصحف والكتب في البسطات والأكشاك، وكانت قراءة الصحف أشبه بالإدمان أكثر من كونها عادة يومية. وقد عبر عن هذا الشغف الدكتور حامد طاهر أستاذ الفلسفة الإسلامية بكلية دار العلوم من جامعة القاهرة في قصيدته الجريدة، تلك التي أدمن قراءتها ومع ذلك لا يجد فيها الأخبار التي يبحث عنها يقول:

"أخشى من الإدمان

لكني أمارسه

كل صباحٍ عندما يمرّ بائع الجرائد

فألتقيه جائعا مبتسما

كأنما أؤانسه

أسلمه النقود

كي يُسلمني الجريدة

ولا أُضيع لحظة فأنحني

مفتشا عن خبر أفتقدُه

أقرأ كل الأعمدة

من اليمين للشمال

من الشمال لليمين

لكنني لا أجده"!

اليوم، تصدر كل صباح مئات الصحف، كما تُطرح مئات المنتجات من الملابس إلى الساعات والأثاث والسيارات والأجهزة الإلكترونية والهواتف والأجهزة الذكية والأطعمة والمشروبات، كلها تعرف طريقها إلى زبائنها، وبعضها ينفد فور طرحه بالأسواق مباشرة، باستثناء الصحف التي بارت وصارت في وضع صعب تبحث عن قراء هجروها إلى غير رجعة!

ذات صباح، كسرت عزلة الرجل العجوز الجالس على المقهى وحيدًا، وسألته عن سبب حرصه على قراءة صحيفة بعينها لا يبدلها، مهما تبدلت الأيام والوجوه والمواقع، فأذهلني بجوابه المقتضب: لا يعنيني من الصحيفة أخبار الأحياء، فمعظمها “كلام جرايد”، في تلميح إلى عدم الدقة والصدق والموثوقية؛ فبعد قراءة العناوين، أتابع باهتمام صفحة الوفيات لأعرف من مات ومن بقي، فالموت أصدق الأنباء على الإطلاق!

مضت عجلة الزمان مسرعة، وخلال ربع القرن الأخير، أغلقت بعض الصحف الورقية العريقة أبوابها تباعًا، بعضها أفلس وبعضها لم يتحمل منافسة شرسة من وسائل ومنصات رقمية بديلة شبه مجانية، واختفت مطبوعات ظلت تتكبد خسائر فادحة ومع ذلك أخذت تصارع سنوات من أجل البقاء بحثًا عن قارئ تخلى عنها بلا رحمة، معلنًا نهاية صلاحية قصيدة أمير الشعراء أحمد شوقي التي ألقاها في عام 1941 بمناسبة افتتاح نقابة الصحافيين ويقول مطلعها: لكلِّ زمانٍ مضى آيةٌ وآيةُ هذا الزمانِ الصُّحُفْ.

◙ عجلة الزمان مضت مسرعة وخلال ربع القرن الأخير أغلقت بعض الصحف الورقية العريقة أبوابها تباعا، بعضها أفلس وبعضها لم يتحمل منافسة شرسة من منصات رقمية

لم يعد العجوز الذي تعرفت إليه قبل ربع قرن يأتي إلى المقهى، ونادرًا ما أرى أحدهم يطالع صحيفة الصباح هناك، علمت لاحقًا أن العجوز قد مات، وأن صحفا كثيرة في طريقها إلى المصير نفسه، بعد أن تبدلت اقتصاديات تلك الصناعة الثقيلة التي تعاني ارتفاعات متتالية في أسعار الورق والأحبار ومستلزمات الطباعة، وتحديات توفير العملة الصعبة، مقابل تراجع حاد في أرقام توزيع الصحف وزيادة النسخ المرتجعة منها وتكبدها خسائر بالملايين سنويًّا، ما دفع إلى إدماج الكثير من الإصدارات، وتجميد بعضها في صورة نسخ بصيغة بي.دي.أف، واختفاء الكثير منها في وقت تتواصل المساعي البيئية المستمرة المطالبة بالحد من قطع الأشجار والمحافظة على استدامتها وتقليص الانبعاثات وغيرها من الاعتبارات المؤثرة على مكونات صناعة الصحافة وعلى رأسها الورق!

نعاود طرح السؤال: لمن تصدر الصحف؟ وهل من جدوى لصدورها؟ تبدلت آية هذا الزمان ولم تعد الصحف كما ذهب أمير الشعراء، وذهب البعض إلى القول إن آية هذا الزمان هي الإنترنت، وذهب آخرون إلى أنها وسائل التواصل الاجتماعي ومنصاته الرقمية، بينما يميل فريق ثالث إلى أن آية هذا الزمان هي تطبيقات الذكاء الاصطناعي الجامح، فعن أي صحيفة يبحث قراء اليوم؟ ما شكلها؟ وما محتواها؟

بهذه السرعة والجنون تبدلت أحوال الصحف الورقية التي كانت سيدة وسائل الإعلام إلى نهاية القرن العشرين، وكانت معيارًا للقراءة والاطلاع وبعض الوجاهة التي رسمها في عام 1956 الشاعر السوري نزار قباني صورة الرجل غير المكترث، في قصيدة “مع جريدة”، التي غنتها المطربة اللبنانية ماجدة الرومي في عام 1994 وفيها يقول:

"أخرج من معطفه الجريدة

وعلبة الثقاب

ودون أن يلاحظ اضطرابي

ودونما اهتمام

تناول السكر من أمامي

ذوب في الفنجان قطعتين

ذوبني ذوب قطعتين

وبعد لحظتين

ودون أن يراني

ويعرف الشوق الذي اعتراني

تناول المعطف من أمامي

وغاب في الزحام

مخلفاً وراءه الجريدة

وحيدةً

مثلي أنا وحيدة"!

منذ ظهورها قبل أكثر من أربعة قرون، ظلت الصحيفة حاضرة بقوة على مدى عقود طويلة متلاحقة، خاصة في المقاهي، التي تجمع وجوهًا مختلفة وأعمارًا وخلفيات مهنية وثقافية متفاوتة، ألهمت الشعراء للكتابة عن الجريدة في المقهى تحديدًا. النقاشات في المقاهي تتراوح بين الهدوء المفرط إلى الشد والجذب الذي تتخلله نقرات النرد في لعبة الطاولة، وصيحات النادل لدى استقبال رواد المقهى وتوديعهم أو ترديد طلباتهم، وعندما يأتي المساء، في مقاهي القاهرة، يتحول مؤشر الراديو من إذاعة القرآن الكريم، إلى إذاعة أم كلثوم وإذاعات الأغاني، التي تبث أغنيات كوكب الشرق بلا توقف، وتحتدم صراعات عشاق كرة القدم وصيحاتهم وصراعاتهم في المباريات الحاسمة التي يتوقف عندها الراديو عن البث، ليفسح المجال للتلفزيون سيد وسائل إعلام الصورة حتى وقت قريب.

دارت الأيام سريعًا ومعها دارت عجلة الزمان، وطحنت الضغوط الاقتصادية كاهل البسطاء، حتى اختفت تدريجيًّا الطبقة الوسطى، عجوز المقهى الذي عرفته، حل مكانه عجائز من الشباب، شابوا في مقاعدهم بحثًا عن وظيفة وفرصة عمل وزواج وحياة، يتحدثون قليلًا بعشوائية ملحوظة خلافًا لنقاشات الماضي، وسرعان ما ينعزل الجالسون على طاولة واحدة، ينفرد بهم الهاتف الجوال فتسرقهم شاشته من تلك الصُّحبة، ليغرق كل واحد في عالمه الخاص يغيب بعيدًا للحظات ودقائق ويعود يلتحم بحوار لا يدري موضوعه ولا بدايته أو نهايته، فيغيب دفء اللمة القديم، وتفرض ثقافة الصورة سطوتها وهيمنتها، فلا صوت يعلو فوق أصوات فلاشات كاميرا الموبايل تجمد لحظات لم يعشها أبطالها، فالكل مشغول فقط بالفرجة على الحياة دون أن يعيشها، ولتصبح الصورة بصحبة مشروب من براند شهير، مظهرًا للتباهي والسعادة الوهمية اللحظية التي خلقتها وسائط ومنصات النشر الفوري للصور والكلمات والأفلام ومقاطع الفيديو، وتلك مهمة الصحافة القديمة التي انتزعها الأفراد من المؤسسات العملاقة، وصار الكل يصنع عالمه وإعلامه، ويحظى بتفاعل لحظي فوري من ملايين القراء حول المعمورة.

◙ ثقافة الصورة تفرض سطوتها وهيمنتها، فلا صوت يعلو فوق أصوات فلاشات كاميرا الموبايل تجمد لحظات لم يعشها أبطالها، فالكل مشغول فقط بالفرجة دون أن يعيشها

في عام 1990، بينما كنت على وشك إنهاء دراستي لنيل درجة البكالوريوس في كلية تخصص الصحافة بكلية الإعلام من جامعة القاهرة لم يمل أستاذنا من تكرار سؤاله الذي استهل به محاضراته طيلة العام الدراسي: من منكم قرأ صحف الصباح هذا اليوم؟ وما العنوان الأبرز؟

في المرات الأولى لطرح السؤال في محاضرة المدخل إلى علم الصحافة، كانت أعداد المتجاوبين محدودة جدا، ومن فرط تكرار السؤال مع التحرج من عدم الإجابة أخذ العدد يتصاعد تلقائيا حتى صار طلاب هذه الدفعة بالكامل يقرؤون الصحف، ولو بدافع التحضير للسؤال المكرر. أكسبنا الأستاذ عادة قراءة الصحيفة، وبمرور الوقت صرنا نقرأ قراءة ناقدة، نبحث فيها ومن خلالها عن جديد مختلف تقدمه لنا الصحف، خدمة صحفية متميزة، ما وراء الخبر، تحليل أو مقال يقدمه أحد كتاب الرأي يشرح ويفسر ويثقف ويعلم ويكشف زاويا في الرؤية وعوالم مجهولة لنا.

وبعد أكثر من ثلاثين عاما على تخرجي، وبعد أن فقدت الصحف الورقية تباعًا دورها الإخباري وتقلص هامش الحرية إلى درجة صفرية، طرحت عبثا سؤالي على حشد طلابي من دارسي الإعلام بإحدى جامعات العاصمة القاهرة سألتهم: من منكم قرأ صحف هذا الصباح؟ وما أبرز ثلاثة أخبار لفتت انتباهكم؟

وجاءت الإجابة صادمة تفوق قدرتي على وصف ما آل إليه حال طلاب تخصصهم الصحافة والإعلام، ثلاثة فقط من أكثر من أربعمئة طالب وطالبة قرؤوا الصحف الصباحية، ولا يتذكرون منها سوى نتيجة مباراة في كرة القدم، و”تريند” نقدي لرقصة طالبة بإحدى حفلات التخرج! وحين سألتهم عن اسم الصحيفة التي استمدوا منها الأخبار، أدركت كيف اختلط عليهم الأمر بين مصدر صحيفة ورقية ومنصة رقمية أو صفحة على فيسبوك المنصة الأوسع انتشارًا في العالم! وللمرة الثانية لا تصمد أبيات شوقي أمام اختبار الزمن، ولم تعد قصيدته “أتتني الصحف عنك مخبّرات”، صالحة لهذا الزمان الذي لم تعد فيه الصحافة مصدرًا وحيدا للأخبار، زاحمتها المنصات الرقمية وحسابات التواصل الاجتماعي، يقول أمير الشعراء في قصيدته “أتتني الصحف عنك مخبرات":

"أتتني الصُحفُ عَنكَ مُخَبِّراتِ

بِحادِثَةٍ وَلا كَالحادِثاتِ.

الشاعر الأمير بدر بن عبدالمحسن قدم رؤية فلسفية عميقة لصحيفة يحلم بها، تتجاوز حدود الشكل المادي “ورقي أو رقمي”، إلى المحتوى وهو الأهم، فأرادها صحيفة تخلو من الدم والعرق والهم والأرق، صحيفة بيضاء صافية تشيع الهدوء والسلام يقول البدر في قصيدته “الجريدة”:

دنيا مكتوبه ف ورق دنيا من دم وعرق

دنيا مجنونه أرق وهم

انسرق احترق المهم

كلها أخبار سعيدة

وحنا نقراها الصباح

لو طبعنا صفحة ما فيها خبر

لا حروف ولا صور

صفحة يملاها البياض

صفحة تملانا بياض ما يعكرها الحبر

كان ذي الصفحة الوحيدة

اللي أقراها الصباح في الجريدة”!

لن تموت الصحافة وإن ماتت الصحف الورقية تباعا، ماتت الصحيفة (Newspaper) أخبارا وورقا، وانتهت وظيفتها الإخبارية إلى الأبد، بظهور وسائل أكثر سرعة وأسرع انتشارًا، تغير الشكل وتراجع المحتوى إلى أدنى درجاته، لكن المهنة الصحفية لم تمت ولم تعدم الصحف العالمية العريقة فرص إحيائها من جديد وبدائلها، وتحسين جودتها وتسريع وتيرتها وتعظيم دورها، خاصة بعد دخول طوفان تقني جديد هو تطبيقات الذكاء الاصطناعي، الذي سيحسم خلال العقود القليلة المقبلة شكل الصحف ومصيرها هي وسائر الوسائل الإعلامية وغيرها، وكما كانت أجراس هيمنجواي تقرع من أجلك أنت، ستظل الصحف تصدر أيضًا من أجلك أنت عزيزي القارئ، مهما تغيرت هيئتها المادية، من ورق صنع تاريخها وحفظ مجدها طوال أكثر من أربعة قرون، إلى منصات رقمية وشرائح رقمية باشتراكات محددة، يمكن قراءة محتواها والاستماع إلى ومشاهدة مضمونها السمعي البصري عبر وسائط رقمية متعددة “مالتي ميديا” صارت في متناول الجميع الآن!

5