"أصدقاء الطابق الرابع عشر".. قصة تقويض القطن المصري عبر عقود

مي الخولي لـ"العرب": جمعتُ 1247 وثيقة ومستندا في تحقيق استقصائي.
الأربعاء 2025/04/23
حصاد "الذهب الأبيض" كما صورته مارغريت نخلة

كيف تراجعت سيطرة القطن المصري على الأسواق العالمية، وأي مؤامرات حيكت لإضعافه على مدى عقود؟ متى بدأت القصة؟ ومن أشهر المؤثرين فيها من مصر وخارجها؟ كل هذا وكواليس أخرى أكبر وأشد تعقيدا تكشفها الصحافية المصرية مي الخولي في تحقيق استقصائي موسع نشرته في كتاب بعنوان "أصدقاء الطابق الرابع عشر.. الحكاية التي لم يروها أحد".

القاهرة - القطن ليس مجرد نبتة، إنما لأجله تشن الحروب، وتعقد المؤامرات، فهو سلاح بيد من يمتلكه، كان بإمكان صاحبه تركيع بعض الدول وتكبيد مصانعها أفدح الخسائر، لكنه أيضا قد يجلب لعنات من يحركون موازين القوة في العالم، فيكيدون لأصحابه كيدًا عظيما.

هذا ما يؤكده كتاب جديد صدر في القاهرة حديثا بعنوان “أصدقاء الطابق الرابع عشر.. الحكاية التي لم يروها أحد” للصحافية المصرية مي الخولي، عن دار داليدا للنشر.

يكشف الكتاب بالوثائق عبر تحقيق استقصائي طويل أبعاد قضية القطن المصري وما حيك ضده على مدى سنوات فتراجعت قيمته العالمية التي كانت مشهودة.

يضع الكتاب مادته الدسمة المدعمة بالأرقام والإحصاءات والمقابلات ضمن قالب أدبي في الحكي، فيعرض قصة ما جرى في سياق درامي، مؤكدًا أن “هذه أحداث حقيقية، حدثت في زمان سابق، لكن أثرها ممتد حتى ساعة كتابة هذه السطور، وسيبقى إلى أن يشاء الله وتتبدل الأحوال، تدعمها سبل قدرية وبشرية.”

حصاد موعده الأفراح

الكتاب يكشف عبر تحقيق استقصائي أبعاد قضية القطن المصري وما حيك ضده على مدى سنوات فتراجعت قيمته العالمية

تستهل مي الخولي تحقيقها الاستقصائي الطويل بالإشارة إلى أن القطن كان لعقود طويلة معقودًا على حصاده موعد الأفراح، والأحداث العظيمة، ثم بين ليلة وضحاها، أو هكذا ظننا، صار اسم القطن لا يُذكر إلا محاطًا بعويل وحسرة، تبدو مستحقة، وأصوات تعلو وتخفت همزًا ولمزًا عن مؤامرات خارجية دون أن يقدم أصحابها سندًا حقيقيًا.

وتتابع أن نوابا برلمانيين تقدموا ببيانات كثيرة إلى وزراء الزراعة، يطلبون الفهم والعلم، وتعلو وتيرة الأحداث في فصول القطن، فيتدخل الرؤساء شخصيا، وتصدر قرارات وقوانين في محاولة لانتشال القطن من منحدر كان منزلِقا إلى نهايته بما أعد له في الماضي.

يرمز “الطابق الرابع عشر” الذي يشير إليه عنوان الكتاب إلى مقر الوكالة الأميركية للتنمية الدولية في مصر، إلا أن أبعاد تقويض القطن المصري كانت قد بدأت خيوطها تنسج على مهل قبل ذلك بزمن طويل، وبالتحديد في مايو عام 1953.

كان أول طلب قدمه الأميركيون للرئيس المصري جمال عبدالناصر قائد ثورة 23 يوليو آنذاك يتعلق بالقطن، إذ أخبره وزير الخارجية الأميركي دالاس خلال زيارته مصر بـ”إنكم تستطيعون مساعدة الرئيس دوايت أيزنهاور وأن تقدموا بادرة حسن نية من جانبكم.”

تساءل عبدالناصر مندهشا عن كيفية ذلك، فأجابه دالاس بوضوح: “بأن تقللوا إنتاج القطن طويل التيلة في مصر، لأن لدينا مشاكل مع ولايات الجنوب، والرئيس أيزنهاور سيقدر ذلك جدا لكم، لنمنح القطن الجنوب أميركي فرصة، لأن القطن المصري هو من يذبح القطن الأميركي،” قاصدًا أنه يقضي على فرصه في التصدير.

ظل القطن شريكًا أساسيًا في اتفاقات التبادل التجاري التي وقعت بين مصر وكل الدول لسنوات طويلة، وكان محصولًا استراتيجيا يمثل نسبة 40 في المئة من قوة الاقتصاد المصري، وبلغت صادرات مصر منه للصين فقط أكثر من 90 مليون دولار عام 1981، حتى هبط إلى حوالي 2 في المئة من الاقتصاد المصري، وصار الفلاحون يهربون من زراعته بسبب مشاكل الإنتاج والتسويق وانخفاض الطلب العالمي. فما الذي حدث؟

ا

تكشف مي الخولي مؤلفة الكتاب لـ”العرب” أنها في أواخر عام 2017 فكرت في إجراء تحقيق عن القطن وتدهور أحواله لصحيفتها (الأهرام)، وقررت أن تعمل على فرضية تدمير القطن المصري عبر مؤامرات أجنبية وتواطؤ مسؤولين محليين، لتبدأ رحلة بحثها عن الأدلة.

بعد أشهر من العمل، فوجئت الخولي بنشر تحقيق حول القضية ينطلق من فرضية قريبة جدا بصحيفة “دويتش فيله” الألمانية. عندئذ شعرت بالإحباط وأخبرت رئيس قسم التحقيقات بجريدة “الأهرام” بأن جهد الأشهر الماضية أُهدر وأنها لن تستطيع أن تكمل، إلا أن رده عليها جاء محفزا لمواصلة العمل، إذ عبر لها عن ثقته الكاملة فيها وأنها ستجد في تحقيقها شيئًا جديدًا تقدمه، طالبًا منها ألا تخذله.

تقول الصحافية المصرية لـ”العرب” إنها شعرت بأن كلمات رئيسها ديْن عليها، يجب أن تفي به، فظلت لأشهر أخرى متيقظة الحواس، تستنفر أذنها كلمة “القطن” أينما ذكرت.

قابلتْ مي الخولي مصادر رسمية كانت تقول جزءًا من الحقيقة، وتخفي أجزاءً أكبر لتهوِّن مما حدث، كما التقت مصادر أخرى من غير المسؤولين، قالوا أيضًا جزءًا من الحقيقة، لكن بغرض التهويل. راجعت وفحصت كل اتفاق رسمي بين الدولة وأي أطراف خارجية، يكون قد ذُكر فيها اسم القطن أو حتى الزراعة. وسافرت إلى خمس محافظات مصرية بحثًا عن مصادر رأت أنها يمكن أن يكون لديها معلومة.

في عام 1980، أصدر الرئيس أنور السادات قرارا بإنهاء المقاطعة الاقتصادية لإسرائيل، تبعه توقيع اتفاق تجاري بين حكومتي البلدين كرغبة في تطبيع العلاقات، وبعد عام واحد في صبيحة 21 مايو 1981، قبل اعتماد أوراق السفير موشيه ساسون (قائد مجموعة عمليات 146 في حرب أكتوبر) سفيرًا لإسرائيل في مصر، كان أرييل شارون وزير الزراعة الإسرائيلي آنذاك (قائد مجموعة عمليات الثغرة في الحرب) يصل إلى القاهرة، بناء على اتفاق بين رئيس الوزراء مناحم بيجن والرئيس السادات للتعاون الزراعي بين مصر وإسرائيل، ونقل التكنولوجيا الإسرائيلية إلى الزراعة المصرية.

ينقل كتاب “أصدقاء الطابق الرابع عشر” باقي القصة كما رواها السفير ساسون في كتابه “سبع سنوات في بلاد المصريين”، إذ اقترح السادات على الإسرائيليين تطوير الزراعة في منطقة الوادي الجديد، وليس منطقة الدلتا، إلا أنهم أصروا على العمل في الدلتا ومن مزرعة الرئيس نفسه في “ميت أبوالكوم” المعروفة باسم “جميزة” بمحافظة المنوفية، شمال القاهرة.

فهم الفلاح المصري

المحطة الثانية من الانهيار كانت في عام 2000 عندما تم تسليم بذرة القطن لشركة أميركية ليتم تهجينها

يشرح ساسون أن هدفهم لم يكن معرفة الزراعة المصرية بل معرفة وفهم الفلاح المصري، لإقناعه بالتحول إلى زراعة محاصيل جديدة، كالفجل والخيار وشمام مكديمون الإسرائيلي.

واقترحت اللجنة التي تشكلت لتحديث الزراعة المصرية بدعم ومشاركة الوكالة الأميركية للتنمية بأن يقترن تحسن مستوى المعيشة بزراعة الخضراوات، والاستغناء عن القطن، بتمويل أميركي يضمن حصول الفلاح على التقاوي (البذور) ومستلزمات إنتاجها من إسرائيل.

جمعت مي الخولي خلال تحقيقها الاستقصائي حوالي 1247 وثيقة ومستند وإحصاء، ضم كتابها عددًا منها، بما فيها تحاليل معامل “إتش في آي” لمقارنة الصفات الوراثية بين القطن المصري وقطن “البيما” الأميركي، منذ أن كان الأول هو من “يذبح” الثاني بتعبير دالاس، حتى ضاع القطن المصري في بلده بعد أن استبدلت به المصانع المصرية نفسها قطن “البيما.”

وحصلت الصحافية المصرية على تقارير لجان الزراعة والأمن الغذائي بالبرلمانات المصرية المتعاقبة منذ أن بدأت الأزمة في الثمانينات من القرن الماضي حتى اليوم، حتى تقف على الأسباب التي توصلت إليها اللجان الفنية في كل حقبة لانهيار القطن المصري، كما تقول.

وجاء ضمن أبرز ما أشار إليه الكتاب من شهادات لمختصين هو أن انهيار القطن مر بمحطتين فارقتين؛ أولاهما في عام 1981 عندما كانت مصر قبلها تغطي 47 في المئة من احتياجات العالم من القطن طويل التيلة، إلا أن المساحة المزروعة منه بدأت تتقلص حتى عام 1997 إذ تم إلغاء الدورة الزراعية وتحرير الزراعة وتوزيع مسئولية القطن على 18 جهة.

كانت المحطة الثانية من الانهيار في عام 2000 عندما تم تسليم بذرة القطن لشركة أميركية ليتم تهجينها مع القطن الأميركي، برغم وجود قوانين تحظر خروج بذرة القطن.

المسؤولون والمتآمرون

Thumbnail

كشفت مي الخولي لـ”العرب” أنها بمرور الوقت خلال عملها في التحقيق تمكنت من تحديد المسؤولين والمتآمرين، فحاولت التواصل معهم، واستطاعت أحيانا، وتهربوا أحيانا، فظلت في رحلتها بحثا عن حلول وأدلة لتصل إلى الحقيقة.

وبعد ستة أشهر من العمل المكثف على القضية بدأت تشعر بالرضا عما جمعته من مواد ووثائق، وقد حانت اللحظة كي تكتب، وتم نشر التحقيق بالفعل في صحيفتها “الأهرام” على جزأين خلال عام 2019، تحت عنواني “القطن المصري ينسج همومه”، و”تغيير الماكينات وحده لن ينقذ صناعة الغزل”، ونال إشادات واسعة، ما أشعرها ببعض الرضا، إلا أنها برغم ذلك بقيت في قلبها غصة. لماذا؟

تجيب مي الخولي عن سؤال “العرب” بأن تحقيق القطن برغم نشر جزء كبير منه صار كأنه يطاردها. كستها المعلومات التي جمعتها بمشاعر عجز وضيق لم تحتملها. رأت أنها تريد أن تبقى القصة حاضرة، وأن تنقل الرواية لأجيال أخرى لعلها تتمكن من التغيير بينما لم نتمكن نحن.

ولهذا استجابت لفكرة الصحافي سامح الكاشف مدير دار داليدا للنشر بتقديم التحقيق الاستقصائي كاملا بالوثائق في كتاب، واختتمت بقولها: “أحببت الفكرة لأسلم الحكاية إلى جيل آخر، ربما يكون أقدر على حملها.”

13