القناع الدرامي يشهد تنازعا بين الشعراء والنقاد العرب

تقنية أخذها العرب من إليوت ليكتبوا تاريخا جديدا للشعر العربي.
الأحد 2025/04/20
إليوت ألهم الشعراء العرب تقنيات القناع الدرامي

لا يخفى تأثير الشعر الغربي على الشعر العربي المعاصر، من ذلك تجربة ت.س. إليوت مثلا حيث انتشرت قصائده بين عموم الشعراء العرب منذ أواسط القرن الماضي، وكان مؤثرا وفاعلا في ولادة مرحلة شعرية جديدة طور فيها العرب من أساليبهم ونظرتهم إلى الشعر، خاصة عبر الاعتماد على الدراما وتعدد الأصوات بدل الغنائية.

كانت لت.س. إليوت (1888 – 1965) تطلعات شعرية باتجاه كتابة قصيدة يعبّر من خلالها عن أفكاره الفلسفية شعريا. فكان أن جرَّب العمل على استعمال أكثر من صوت مسرحي واحد. وما أوحى إليه بذلك هو محاولته مغايرة شعر شكسبير من ناحية واستنهاض سمات الشعر المسرحي الفيكتوري وبخاصة أشعار الإنجليزي روبرت براوننغ ( 1812 – 1889) من جهة أخرى.

 وكان براوننغ قد عُرف بتوظيف شخصيات تاريخية وخيالية في قصائده تمكنه من أن يتحدث بلسانها في شكل حوار أحادي (مونولوجي) وهذا ما جعله ينال شهرة واسعة. ومن أهم مجموعاته الشعرية “الأجراس والرمان” نشرت عام 1855 و”الخاتم والكتاب” سنة 1868.

قناع إليوت

تأثرا ببراوننغ كتب إليوت أول قصيدة شعرية له وهي “جريمة قتل في الكاتدرائية” لكنه لاحظ أن الحوار الأحادي لا يساعد في صنع شخصية مسرحية تفكر بدلا عن الشاعر، فجرَّب استعمال ثلاثة أصوات، بها يتمكن من أن يضفي على شخصياته شيئا من نفسه ويعبِّر أيضا عن تأثره بالشخصيات التي يبتدعها؛ فأما الصوت الأول فللشخصية، والثاني للشاعر، والثالث للمسرح الشعري.

ولكي تكون القصيدة موضوعية في ما تطرحه من أفكار، اشترط إليوت أن يكون احتمال مطابقة الشاعر للشخصية يعادل بالضبط احتمال مطابقة ذاته مع الشخصية. وبناء على هذا الاشتراط نسب النقاد الغربيون إلى إليوت مصطلح المعادل الموضوعي وتداوله النقاد العرب بمعزل عن هذا الاشتراط المخصوص بتعدد الأصوات المسرحية.

ومما اشترطه إليوت أيضا توزيع الأصوات توزيعا يسمح لكل شخصية بأن تعبر عن نفسها، وثالثا أن يكون حوار الصوت الثاني أحاديا، فكأن الشاعر يتحدث إلى أناس آخرين بل مجرد (أنه يتحدث من خلال قناع يوحي بوجود مستمعين) ورابعا أن الصوت الأول هو السائد وهو نفسه صوت المتكلم في الشعر الغنائي وبعرض اجتماعي واع. وخامسا للقصيدة المسرحية جمهور مجهول ينتج عن “المحاكاة اللفظية الصوتية” فتغدو الشخصية لسانا – ولم يقل إليوت قناعا – لأفكار الكاتب وعواطفه.

وعلى وفق هذه الاشتراطات والتحديدات، أنجز إليوت رائعته “اجتماع شمل العائلة” بأصوات تتعدد، وإيقاعات تتنوع مقفاة ومرسلة.

الشعراء العرب تأثروا بقصائد إليوت وترجم أغلبها إلى اللغة العربية وبشكل يسبق كثيرا ترجمة دراساته وكتبه النقدية

وما كان لإليوت أن يقع على هذا النمط من القصائد إلا تأثرا باثنين: الأول هو الفيلسوف لسننغ الذي دعا، تحت تأثير مبدأ الفن للفن، إلى أن يفلت النص الأدبي من مؤلفه من خلال كتابته تحت إملاء شخصيات النص ذاتها. والثاني هو الشاعر الأميركي عزرا باوند (1885 – 1972) الذي ابتكر بتأثير الشاعر براوننغ مصطلح persona ويعني أن يصور الشاعر وجهة نظره من خلال جعل إحدى الشخصيات تتحدث عن أفكاره.

وعلى الرغم من أن باوند تحول إلى الدرامية بكتابه “الكانتوس” وأسس في ذلك مدرسة في الشعر تُعرف بالتصويرية، فإنه بقي شاعرا غنائيا. أما تسمية هذه التقانة بالقناع (Mask)، فتأتي من باب التفسير النفسي لوظيفتها. وأول من استعمل هذا المفهوم هو غاستون باشلار في مقالته “القناع” وفيها تحدث عن رؤية سايكولوجية للطريقة التي بها يحتمي المرء من الخطر بالاستتار. وهو أمر لا يكاد يخلو منه فلكلور أي شعب من الشعوب. وما من أسطورة إلا وتضم قناعا هو عبارة عن تركيب ساذج لضدين متقاربين حد الاستتار والتظاهر. فيكون في استطاعة الكائن المقنع أن يعود إلى الحياة ويمنح نفسه مهارة المخاتلة وبها يكون في مأمن من الفضول، ويبقى ما كان في إمكانه أن يكون للمدة المعيشة. والقناع مركز فيه تجتمع الإبهامات وإيهامات التظاهر.

وما من شك في أن فكرة ت.س. إليوت حول فصل المؤلف عن نتاجه ليست جديدة، فمنذ قيام المذهب الرومانسي ظهرت دعوات إلى جعل الفن للفن تأكيدا لاستقلاله بنفسه، بيد أن الجديد الذي جاء به إليوت وبسببه قام بتجريب تجاوز الصوت الأحادي في الشعر يتمثل في إخفاء الأصول، يقول “عليَّ أن أخفي الأصول بصورة جيدة وبحيث لا يتعرف عليها أحد من معارفي ولا ناقد مسرحي.. وفي الحقيقة كان لا بد لي من المضي في شرح مفصل لإقناعهم .. بأصالة الإلهام”، ولكن كيف يكون الإلهام ذا أصالة، والشاعر يتعمد إخفاء الأصول التي بها نعرف المنتج، أي المؤلف الأول؟ وهل يمكن للشاعر إيهام المتلقين بأصالة منتجه وفي الآن نفسه تزييف الأصول التي عليها بنى هذا المنتج؟

قد يكون هذا الفعل مبررا أخلاقيا على مستوى الفن، لكنه على مستوى الموضوع ليس كذلك كون الشاعر يتعمد إلغاء الأصل السابق وبخاصة ذاك الذي لا تربطه به أي روابط، يقول إليوت “نستطيع أن نحاول إنقاذ شيء من تلك الخيرات التي نشترك في الأمانة عليها: تراث اليونان والرومان والعبرانيين وتراث أوروبا خلال ألفي سنة.” وهذا التطرف في النظر إلى تراثات الأمم هو ما سيتضح في أواسط ستينات القرن العشرين في النظريات ما بعد البنيوية ومفاهيمها مثل تعدد الأصوات والنص الجامع والتناص وغيرها.

الدرامية العربية

لقد تأثر الشعراء العرب بقصائد إليوت وترجم أغلبها إلى اللغة العربية وبشكل يسبق كثيرا ترجمة دراساته وكتبه النقدية. فعبد الغفار مكاوي مثلا ترجم “الرجال الجوف” عام 1952 وترجم بلند الحيدري “أغنية العاشق بروفروك” عام 1955، وترجم فائق صايغ بين العامين 1961 و1962 رباعيات إليوت وترجم صلاح عبدالصبور مسرحية “حفل كوكتيل” عام 1982 ناهيك عن الترجمات المتعددة لقصيدة “الأرض اليباب”.

ولم يطرح إليوت مسمى القناع كما لم ينص على اصطلاحيته لكن النقاد نسبوه إليه. وما تحدث عنه إليوت هو البعد الموضوعي في تركيب صوت الشاعر على صوت الشخصية. ومما جاء في كتاباته النقدية قوله “إن الناس مهيأون لاستقبال الشعر من شفاه شخصيات تتزيا بزي بعض العصور النائية ولذلك يجب إعدادهم لسماعه من أناس يلبسون كما نلبس ويعيشون في منازل وشقق كمنازلنا وشققنا”.

النقاد العرب التفتوا إلى الدرامية في الشعر العربي، وأولهم الناقد عزالدين إسماعيل الذي أفاد من تنظيرات إليوت

 ومن يعد إلى محاضرة إليوت التي ألقاها في جامعة كامبريدج عام 1953 وعنوانها “أصوات الشعر الثلاثة” فسيجد حقيقة ما طرحه الشاعر من أفكار تنظيرية حول هذا الموضوع. أما مفهوم المعادل الموضوعي فيعود إلى لسننغ الذي دعا إلى جعل الفن مستقلا بنفسه عن كاتبه، وتكون الأحداث متولدة عن شخصيات (أهواء كل منها يتطابق بدقة مع طبعه. بهذا الفن يفلت العمل من مؤلفه الذي صار كأنه يكتب تحت إملاء شخصياته ذاتها).

وكان النقاد الغربيون قد وجدوا تلاقيا ما بين تعدد الأصوات ونظريات فرويد النفسية وما استعمله الإيطالي لويجي بيراندللو (1867 – 1939) في مسرحه النثري من توظيف درامي للوجه والقناع.

والتفت النقاد العرب إلى الدرامية في الشعر العربي، وأولهم الناقد عزالدين إسماعيل، وأفاد من تنظيرات إليوت في مناقشة مسائل الحوار واستلهام التراث. وطبّق ذلك كله على قصيدة “أسير القراصنة” للسياب نظرا إلى ما فيها من نزعة درامية ولكونها تحفل بالتفكير الموضوعي والتجريد الواعي عبر استعمال الديالوج والمونولوج وأسلوب الوصف القصصي وبرؤية شعرية تفلسف الفن والحياة.

وأكد إسماعيل أن هذا كله لا يأتي عمدا وإنما هو الشعور بدافعية موضوعية درامية تجعل الصوتين لشخص واحد “فالشاعر المعاصر ينظر إلى شعره وإلى نفسه بوصفه صوتا من أصوات هذا الوجود، تلك الأصوات التي تتجاوب أصداؤها عبر التاريخ في الماضي والحاضر والمستقبل والتي تصنع بمجموعها سيمفونية الحياة، وهو من هذه الناحية يمثل حلقة من سلسلة التاريخ”. ولم يستعمل هذا الناقد مفردة القناع إلا بشكل عرضي.

والغريب أن عامة النقاد العرب يتداولون مسمى القناع بوصفه تقانة ابتدعها إليوت نفسه، وكثيرا ما يفصلون بينها وبين الخوض في قضية المسرح الشعري، عادين القناع لوحده قصيدة رمزية فيها يستثمر الشاعر التراث الأدبي. أما على مستوى الشعراء فإن الأسبق في توظيف تقانة القناع هو عبدالوهاب البياتي الذي انفرد بطرح مسمى “الأقنعة والقناع” عام 1968 وعدَّ نفسه أول من اهتدى إلى هذا التكنيك، مركزا جهده على التراث والتوفيق بين المتضادات من دون الإشارة إلى تأثره بشعر إليوت في مسألة التراث الإنساني.

يقول البياتي “حاولت أن أوفق بين ما يموت ولا يموت بين المتناهي واللامتناهي بين الحاضر وتجاوز الحاضر. وتطلب هذا مني معاناة طويلة في البحث عن الأقنعة الفنية ولقد وجدت هذه الأقنعة في التاريخ والرمز والأسطورة، وكان اختيار بعض شخصيات التاريخ والأسطورة والمدن والأنهار وبعض كتب التراث للتعبير من خلال قناع عن المحنة الاجتماعية والكونية من أصعب الأمور، ولم يكن هذا الاختيار طارئا علي فلقد كان نتيجة رحلة طويلة مضنية.”

الريادة في الأسلوب

Thumbnail

حصر الناقد إحسان عباس استعمال القناع في الشخصيات التاريخية فحسب. وعلى الرغم من إشارته إلى اشتراك الشعر مع المسرحية في استخدام هذه الوسيلة، فإنه لم يدلل على ذلك بشكل واع وقصدي. بمعنى أنه لم يهتم – ومعه الكثير من النقاد – بالتحول من الشعر أحادي الصوت إلى شعر متعدد الأصوات. ولقد انصب اهتمام النقاد في الغالب على البحث عن السبق في استعمال تقانة “القناع” أ هو عبدالوهاب البياتي أم صلاح عبدالصبور؟

وأغلب النقاد المصريين ينسبون إلى صلاح عبدالصبور السبق في توظيف القناع وحججهم كثيرة في هذا المجال، منها زعمهم أن هذا الشاعر كتب سلسلة مقالات في الأهرام عام 1965 بعنوان “مقدمة لدراسة شعرنا القديم”، وأنه طبَّق فيها مقالة إليوت “الموروث والموهبة الفردية”، ومنها أن صلاح عبدالصبور أعطى القصيدة عمقا في حين وَفَّق البياتي بين ما يموت وما لا يموت. ومنها أيضا أن صلاح عبدالصبور سابق لكن البياتي كان أكثر منه استعمالا لهذه الوسيلة وعن عمد باستعمال التراث الشعبي والأقنعة والمرايا والتراث الأسطوري.

وذهب الناقد جابر عصفور إلى أن الشاعرين تحدثا عن محاولتهما إعطاء القصيدة عمقا “ولقد قادت المحاولة كلا الشاعرين إلى قصيدة القناع وقادتهما من خلالها إلى الأسطورة”. وهذا ما يرفضه الناقد فاضل ثامر الذي يعد البياتي هو الرائد في حركة الشعر الجديد لاستخدامه القناع الدرامي بوعي نظري متكامل، ولأنه السابق زمنيا في توظيف القناع في خمسينات القرن العشرين بديوانه “أباريق مهشمة” 1955 ومن بعده كتب السياب قصيدته “المسيح بعد الصلب” 1957 وبعدهما بسنوات كتب أدونيس “أغاني مهيار الدمشقي” 1961 وكتب صلاح عبدالصبور “مأساة الحلاج” 1965 وكتب سعدي يوسف في السبعينات قصيدته “الأخضر بن يوسف”.

لا يزال الكثير من النقاد العرب اليوم يستعملون مفردة القناع من دون “الدرامي” أو يقصرون في النظر إلى هذه التقانة

 وكان الناقد ثامر قد كشف أواخر الستينات أن صلاح عبدالصبور اعتمد شخصية تاريخية هي الحسين بن منصور الحلاج في قصيدته مأساة الحلاج بالاستناد إلى توظيف إليوت شخصية تاريخية هي توماس بيكت في قصيدته مقتل في الكاتدرائية. ووجد في تتبعه محاولات البياتي الأولى في استعمال القناع أنه بارتدائه قناعا معينا قلما يتواصل معه حتى النهاية، بل هو ينتقل بين عدة أقنعة تاريخية ومعاصرة مع الضعف في التخلص من الغنائية في تقديم الوجود الموضوعي المستقل. إن البياتي في تجاربه اللاحقة حقق نضجا تعبيريا، فكان رائدا.

وما من شك في منافسة صلاح عبدالصبور للبياتي بدليل أنه كتب سيرته على غرار السيرة التي كتبها البياتي، واستلهم فيها ما استلهمه البياتي من أفكار إليوت حول الموضوعية وتضمين التراث، يقول عبدالصبور “يُمتحن الإنسان من خلال النظر في ذاته وعلاقته بهذه الأشياء وقد يدير نوعا من الحوار الثلاثي بين ذاته الناظرة وذاته المنظور فيها وبين الأشياء ومن خلال هذا الحوار تتولد الحقيقة.. والقصيدة هي نوع من الحوار الثلاثي”، ومثلما عاد البياتي إلى التراث الصوفي ليبين علاقة الشعر بالفكر، عاد عبدالصبور إلى الرسالة القيشيرية ليبين المراحل الثلاث في تجربته الشعرية.

من المهم في مسألة توظيف مصطلح القناع الإشارة إلى أن الناقد فاضل ثامر هو الذي رسَّخ نقديا العلاقة الوثيقة بين ما قدمه إليوت، حول موضوعة الأصوات وبين تقانة القناع من خلال إضافته مفردة الدرامي إلى مسمى القناع، مؤكدا بذلك عمق دراسته لنقود إليوت حول مسرحياته الشعرية ومصححا الوضعية المغلوطة عربيا في النظر إلى هذه التقانة، مبينا أن لا حواجز بين القناع والشخصية الدرامية، بل هما ظاهرة فنية واحدة. أما المونولوج الدرامي، فليس هو القناع وإنما أداة من أدوات بناء القصيدة.

ولا يزال الكثير من النقاد العرب اليوم يستعملون مفردة القناع من دون “الدرامي” أو يقصرون في النظر إلى هذه التقانة على أنها رمز واستعارة موسعة مما ذهب إليه الناقد جابر عصفور غير مبال بمسألة تعدد الأصوات، بل هو يرى أن الشاعر العربي المعاصر يستعمل القناع “ليضفي على صوته نبرة موضوعية شبه محايدة تنأى به عن التدفق المباشر للذات دون أن يخفي الرمز المنظور الذي يحدد موقف الشاعر من عصره.. وتتحدث بضمير المتكلم إلى درجة يخيل إلينا معها أننا نستمع إلى صوت الشخصية القناع وسيطا يتيح للشاعر أن يتأمل من خلاله ذاته في علاقتها بالعالم”.

 ومن النقاد العرب من يستعمل مسمى “قصيدة القناع” وأول من وضعه الناقد العراقي محسن أطيمش. واشترط لتوظيفه الطول والدرامية وأن تكون القصيدة ذات وجود مستقل عن الشاعر، به يتخلص من مشكلة الذاتية في التعبير كما ركَّز القول على ملامح البناء الدرامي في قصيدة القناع من قبيل تعدد الأصوات واختلاف المواقف وتصارعها وتتابع المشاهد واللوحات وتصاعد الأحداث تصاعدا تدريجيا والنمو باتجاه رسم الحلول.

9