واحة الذكاء الاصطناعي تغيب عنها القصص والروايات العربية

"تخيل الذكاء الاصطناعي" يرصد نظرة شعوب العالم إلى التكنولوجيا الجديدة وتأثيرها الثقافي.
الأحد 2024/11/17
الكتابة تتغير جذريا

ليس هناك حضور هام للأدب الذي يستشرف المستقبل وينفتح على الذكاء الاصطناعي وعوالم التقنية والروبوتات والخيال العلمي وغيرها من تيارات تشهد تطورات كبيرة اليوم في الآداب الغربية. الأسباب كثيرة ومعقدة في تداخلها، ولكن لا يمكن بأيّ حال من الأحوال تصديق الأحكام النهائية المسبقة بقطيعة علاقة العربي بالمستقبل.

تعد موضوعة الذكاء الاصطناعي سردية من سرديات ما بعد الحداثة، استحدثها التقدم التكنولوجي والتطور المتسارع في العلوم السبرانية، غير أن هذه السردية وبعد أن تداخلت بالتخييل وتواشجت مع مواضعاته فقدت بمرور الزمن وسرعة التقدم مركزيتها التي كانت قد صاحبت ظهورها، وأصبحت في وقتنا الراهن مندرجة في خانة السرديات كموضوعة من موضوعات المتخيل الأدبي.

لقد لاقى تشكلها الخارق وربما الخرافي اهتماما أدبيا وفلسفيا ملحوظا. وهو ما يفصل القول فيه كتاب “تخيل الذكاء الاصطناعي” (2023) واشترك في تأليفه واحد وثلاثون باحثا ينتمون إلى مراكز وجامعات معروفة.

سردية الذكاء الاصطناعي

يأتي الكتاب– المؤلف من أربعمئة وخمسين صفحة – ضمن مشروع السرديات العالمية للذكاء الاصطناعي GAIN الذي يشرف عليه مركز ليفرهولم لمستقبل الذكاء الاصطناعي في جامعة كامبردج بإنجلترا. وبدأ العمل على هذا المشروع عام 2018 واستمر حتى العام 2021. والهدف هو معرفة نظرة شعوب العالم إلى الذكاء الاصطناعي، وما يتعلق به من تطورات تقنية وكيف يمكن للتكنولوجيا الرقمية أن تؤثر في ثقافة المجتمعات وتَعْبر الحدود الجغرافية وتتجاوز الفوارق اللغوية والاختلافات في النظم السياسية والاجتماعية والتفاوت في المستويات الاقتصادية والتعليمية والصحية.

◄ احتكار الذكاء الاصطناعي كتقانة تكنولوجية ومعارف علمية هو سبب من أسباب تضاؤل سرديته في أغلب البلدان العربية
احتكار الذكاء الاصطناعي كتقانة تكنولوجية ومعارف علمية هو سبب من أسباب تضاؤل سرديته في أغلب البلدان العربية

حرّر الكتاب ستيفن كايف وهو مدير مركز ليفرهولم لمستقبل الذكاء الاصطناعي في جامعة كامبردج وكنتا ديهال وهي باحثة مساعدة في المركز نفسه. وكتبا المقدمة التي توزّعت بين قسمين؛ حمل الأول عنوان “حقائق وأساطير” وفيه ذهبا إلى أن الذكاء الاصطناعي ظاهرة ثقافية قبل أن يكون ظاهرة تكنولوجية.

ويحيل المحرّران مسمى الذكاء الاصطناعي إلى الأميركان الذين وضعوه اصطلاحا عام 1946 من دون أن يشيروا إلى أنه اختراع جديد، وإنما هو تصميم مطور للخيال العلمي. وانطلاقا من خمسينات القرن الماضي ووصولا إلى العقد الثاني من القرن الحالي، تشكلت على امتداد الكرة الأرضية أعراف خاصة في تخيل سردية الذكاء الاصطناعي. فغدا هذا الذكاء ظاهرة ثقافية وعالمية أيضا. ولا يخفى ما في هذه الظاهرة من اختلافات وتقاطعات بحسب اللغات والجغرافيات والثقافات؛ فهناك من يرى الذكاء الاصطناعي أنظمة معقدة وصناعة متطورة، وهناك من يراه أسطورة تنطوي على مجموعة من القصص والأيديولوجيات التي لها ما لها، وعليها ما عليها.

وما يسعى إليه المساهمون في إعداد الكتاب موضع الرصد هو مقارنة الرؤى بين الدول الناطقة بالإنجليزية أو الدول الرأسمالية والدول الناطقة بلغات أخرى، ثم المقاربة فيما بينها من ناحية ما يسود سردية الذكاء الاصطناعي من مشتركات ثقافية وما تتفرد به من اختلافات. وهذا ما يشرحه المحرران بالقول “قمنا بتضمين فصول حول سرديات الذكاء الاصطناعي المناهضة للاستعمار أو ما بعد الاستعمار من أميركا اللاتينية وجنوب آسيا وجنوب الصحراء الكبرى الأفريقية والسكان الأصليين في أميركا الشمالية.”

تظهر هذه الفصول أن هذه المقاومة يمكن أن تتخذ أشكالا متعددة لكن الموضوع مشترك ويتردد عبر القارات في الوقت نفسه؛ نرى سرديات حول اللحاق بركب الدول الأخرى، وخاصة الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، من كوريا الجنوبية والهند وروسيا على حد سواء. ويكشف المساهمون في هذا الكتاب كيف أن السرديات قاومت ودعّمت تاريخيا مجموعة من الأيديولوجيات بدءا من الشيوعية في الصين والاتحاد السوفييتي وإيطاليا في منتصف القرن العشرين، وصولا إلى النيوليبرالية في تشيلي والتقنية في سنغافورة.

البعد السياسي

من بين الدراسات المشاركة الدراسة الموسومة بـ”واحة الذكاء الاصطناعي: متخيل الآلات الذكية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا” واشترك في كتابتها خمسة باحثين من بينهم باحثتان مصريتان، هما نجلاء رزق ونادين وهبة، وتعملان أستاذتين في الجامعة الأميركية بالقاهرة.

ومن المسائل التي تناولتها هذه الدراسة تأثر سردية الذكاء الاصطناعي بمسائل “الاستعمار، رؤى الماضي الطوباوي، الديناميكيات السياسية، العلاقة بين الجنسين”. وابتدأت بالتأكيد على حقيقتين: الأولى أن تاريخ تخيل الآلات الذكية في مجتمعات المنطقة العربية يعود إلى مرحلة الازدهار الحضاري من القرنين التاسع إلى الرابع عشر الميلادي لكن تصورات هذه المجتمعات لمستقبل التكنولوجيا هو في الوقت الحاضر متأثر بالتصورات الغربية لتطور الذكاء الاصطناعي وتصنيع تقنياته فضلا عن الصراعات السياسية والاقتصادية المعاصرة.

الحقيقة الأخرى هي أن قصص الذكاء الاصطناعي ورواياته قليلة قياسا بما في العالم الناطق بالإنجليزية. وبسبب هذه الشحة الأدبية توسع مفهوم المتخيل السردي ليشمل وسائل التواصل الاجتماعي ومجتمع الإنترنت وأصحاب المشاريع الفنية والشركات الناشئة المحلية وهي بحسب الدراسة تستجيب للتصورات الغربية حول التقدم التكنولوجي.

◄ العرب يعتمدون على ما يصدِّره الغرب من سردية الذكاء الاصطناعي إلى المنطقة كروايات وأفلام ومسلسلات خيال علمي

وخلافا لسائر الدراسات التي اشتمل عليها كتاب “تخيل الذكاء الاصطناعي”، اهتمت هذه الدراسة بتحديد أسباب استعمال مسمى “الشرق الأوسط وشمال أفريقيا” ورمزت إليه اختصارا بـ”MENA”، ومن الأسباب: أن الدول التي تضمها الجامعة العربية وعددها 22 فيها تتداخل إيران وتركيا وقد يستبعد منها الصومال وموريتانيا وجزر القمر.

ومن الأسباب أيضا أن المسمى توصيف إقليمي يخرج دول الخليج عن الدراسة بوصفها تمتلك سياسة خاصة في تبني الذكاء الاصطناعي ونشره وتطويره بالاعتماد على العمالة الوافدة التكنوقراطية التي إليها تعهد مهمة تطوير قدرات تلك الدول واستثمار أموالها على نطاق واسع مما يجعلها متقدمة على الدول العربية الأخرى في المنطقة التي تواجه تحديات اقتصادية وسياسية تحول دون تقدمها في مجال الذكاء الاصطناعي.

والغريب أن الدراسة في تقصّدها استعمال هذا المسمى تشكو أيضا من أنه يجعل التصور التكنولوجي لسردية الذكاء الاصطناعي متنوعا بشكل كبير وغير متجانس. ونتساءل إذا كان الوضع بهذا الاتساع، فلماذا إذن لم يحدد الباحثون المنطقة باسم دولة مصر كونها هي الميدان التطبيقي وحولها تدور الإحصاءات الواردة في هذه الدراسة، أو يحددوا المنطقة باسم “البلدان العربية” لوجود تحليلات فيها ترد أسماء دول عربية معينة؟

ما من شك في أن العربية هي السمة الجامعة بين بلدان المنطقة، وهذا ما تؤكده الدراسة نفسها لكن بشكل غير علني، ويبدو أن السبب الرئيس في تعمد استعمال مسمّى “الشرق الأوسط وشمال أفريقيا” هو استتباع ما تروّجه الماكنة الإعلامية الغربية، وبه تتفادى ذكر مفردة “عربية” التي فيها تتجلى اللغة والثقافة والتاريخ ومنها تتشكل متخيلات أبناء العربية لتقنيات الذكاء الاصطناعي وبرمجياته.

وعلى الرغم من تأكيد الباحثين الخمسة أن مسمّى الشرق الأوسط وشمال أفريقيا لا يعكس البعد التاريخي والثقافي للبلاد العربية، وأن اللغة العربية هي القاسم المشترك بين دول المنطقة، فإنهم بالمقابل أكدوا ما لذاك المسمى من ضرورة إستراتيجية ودبلوماسية أوروبية، نشأت منذ القرن التاسع عشر تمييزا للمنطقة الواقعة بين ما سمّوه شرقا قريبا وشرقا أقصى، وعن ذلك قالوا “يعكس مصطلح الشرق الأوسط وجهة نظر أوروبية حول هذا الجزء من العالم، إلا أننا قررنا الحفاظ على استخدام مصطلح الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كوحدة من وحدات التحليل المعتمدة على نطاق واسع وتستعمله منظمات دولية مثل الأمم المتحدة والبنك الدولي وكذلك المؤسسات البحثية.”

 ولا يخفى ما في هذا التركيز والتحديد لمسمّى الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من إقرار بهيمنة البعد السياسي على الدراسة بدلا من أن يكون التاريخ هو المفصل في توزيع مباحث الدراسة أسوة بالدراسات الأخرى التي ضمها الكتاب موضع الرصد.

التبعية والعولمة

◄ مستقبل معقد ينتظر البشر
مستقبل معقد ينتظر البشر

يأتي مبحث “صحراء التكنولوجيا” ليؤشر ما للذاكرة السردية من ارتباط وثيق بتاريخ الاستعمار القديم بدءا من القرن الثالث عشر حتى أوائل القرن التاسع عشر، وما جرى فيه من انحدار حضاري تغير مع الاستعمار الحديث وعمليات الاستشراق، ثم بدأت مرحلة جديدة سمّاها الباحثون صحراء التكنولوجيا Technology desert وامتازت بنقص الإمكانيات وزيادة الاستهلاك، فكان أن عانت هذه الدول من هجرة العقول في مجال التكنولوجيا مع الفقر الظاهر في وجود قصص عربية حول الذكاء الاصطناعي ومستقبل الروبوتات والآلات الذكية. ليكون الاعتماد على ما يصدِّره الغرب من سردية الذكاء الاصطناعي إلى المنطقة كروايات وأفلام ومسلسلات خيال علمي هذا إلى جانب أفلام الأنيميشن مثل Grendizer القادمة من اليابان.

وساهمت هذه العولمة الإعلامية في تعزيز صحراء التكنولوجيا فتراجع الإنتاج المحلي ولم يتح للكتاب العرب سوى مقدار ضئيل من التعبير عن وهم التقدم التكنولوجي في بلدانهم.

لكن ماذا عن الإرث السردي الذي تنفرد به هذه المنطقة بوصفها شهدت أقدم الحضارات على وجه الأرض وتحفل بالحكايات الخرافية والأساطير والقصص التي فيها من العجيب والغريب ما يجعلها إلى اليوم موضع إدهاش وتأثير كما في حكايات ألف ليلة وليلة وقصص الحيوان والمقامات ورحلات السفر والقصص الصوفية والفلسفية؟

لا تنكر هذه الدراسة أن في المرويات التراثية كثيرا من الآلات والكائنات التي تتحرك أوتوماتيكيا وتتكلم والمدن العجيبة، وهي كثيرة وبها تأثر الغرب اللاتيني المسيحي في العصور الوسطى، لكن الدراسة ترى أن ذلك كان قبل ألف عام وفيه كان البحث عن يوتوبيا عصر ذهبي وليس يوتوبيا عصر مستقبلي. أما في العصر الحديث فإن الغرب ربط التخييل بالمستقبل فكانت يوتوبيا توماس مور. ونرى في هذا الرأي إطلاقا عاما وغير دقيق؛ ففي الكثير من قصص العصور الوسطى وكتب الرحلات مدن متخيلة رسموا فيها يوتوبيا لجنّة موعودة كما في قصة الجزيرة الخضراء من كتاب بحار الأنوار.

وتذهب الدراسة إلى أن الاستعمار الحديث فرض على الدول التي استعمرها حداثته فكان هناك انقسام كبير بين حالة التأخر التي كانت عليها في الماضي وحالة الحداثة المرتبطة بالمستعمر، وهذا ما جرَّد أبناء هذه الدول من قدرتهم على تخيل مستقبل خاص بهم. ولو افترضنا أن هذا كان حاصلا فعلا، لما كان لأدبنا العربي تقاليد موروثة، استمر السير عليها على طول عصر النهضة ومطلع القرن العشرين، ثم تطورت في العقود اللاحقة بما دخل إليها من تقاليد الأدب الغربي.

◄ تحديد مسمى الشرق الأوسط وشمال أفريقيا إقرار بهيمنة البعد السياسي على الدراسة بدلا من أن يكون التاريخ هو المفصل

وعلى الرغم من التبعية والعولمة، فإن المتخيل السردي العربي ظل حيويا ومستمرا رغم قلة نتاجه في مجال الخيال العلمي والذكاء الاصطناعي. ذلك أن القاص والروائي العربيين – على اختلاف الأجيال وتنوع الاهتمامات – مهتمان بالتعبير عمّا في الواقع من ظواهر وتحديات، فكانت أهم صور السرد العربي الحديث والمعاصر تتمثل في مقاومة الهيمنة الاستعمارية بكل أشكالها ومواجهة الغزو الثقافي الناعم والعولمي وتأكيد الهوية والوعي الفكري بالنزعات والظواهر المجتمعية، مثل النزعة الاستهلاكية وهدر الموارد البشرية والمادية والإضرار بالبيئة وعناصرها الطبيعية. وبالطبع تنطوي هذه الاهتمامات على رؤية مستقبلية لما ينبغي أن يكونه المجتمع العربي.

وتركز الدراسة على سوق العمل في مصر من ناحية الحاجة إلى توفير تعليم عالي الجودة وضرورة التأهيل والتدريب باتجاه الاقتصاد الأخضر ومحو الأمية الرقمية. وأن الأتمتة مع الذكاء الاصطناعي ستشمل قطاعات التصنيع والنقل على المستوى الحكومي ومستوى الشركات متعددة الجنسيات. وتتضح مؤشرات ذلك كله في السياسة المصرية وطرقها في البحث عن الحداثة، ففي زمن الرئيس جمال عبدالناصر كان السعي إلى الحداثة يأتي من الشرق ودعم الاتحاد السوفييتي، وتغيرت هذه السياسة مع الرئيس أنور السادات الذي اتبع سياسة الانفتاح على الغرب الإمبريالي بعد حرب 1973.

كان السعي نحو الحداثة يأتي من الغرب وتحديدا الولايات المتحدة كنموذج للنمو الاقتصادي وتزامن هذا التحول مع أتباع المؤسسات المالية لبرامج اقتصادية وسياسات إصلاح هيكلية كان من نتائجها إدخال الإنترنت إلى مصر في التسعينات وبناء شبكة اتصالات، تدعم النمو الاقتصادي الطموح. غير أن ما جرى مطلع الألفية الحالية من ثورات عربية بدأت في تونس ومصر عام 2011، قلّصت فرص النمو التكنولوجي والعدالة الاجتماعية وصار الاعتماد على الاستثمار الأجنبي المباشر للشركات متعددة الجنسيات يتم على حساب التنمية الشاملة والمستدامة.

وتخلص الدراسة إلى تأكيد مسألتين: الأولى أهمية تعزيز المبادرات المحلية التي من خلالها يتحقق التوازن الإستراتيجي لبناء سوق كبرى تلبّي الاحتياجات والتطلعات المحلية. والمسألة الثانية ضرورة رسم اتجاهات مستقبلية تضع للذكاء الاصطناعي إستراتيجية خاصة بمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ضمن رؤية 2030 وهي خطوة طموحة عملت بها بعض الدول العربية مثل المملكة العربية السعودية والإمارات والأردن. وتشتمل على بناء مدن مستقبلية تعمل بالذكاء الاصطناعي وتعتمد الاستدامة الميكروية الرقمية بالكامل. لكن من يرسم متخيلات هذه المدن هم  الخبراء الغربيون. وهذا ما أثار تساؤلات حول مدى نجاح مثل هذه المشاريع.

مؤدى القول إن احتكار الذكاء الاصطناعي كتقانة تكنولوجية ومعارف علمية هو سبب من أسباب تضاؤل سرديته في البلدان العربية بوصف هذه السردية صورا من صور التبعية للهيمنة الثقافية ورؤاها الأيديولوجية المعولمة.

9