مأساة "المزونة" سلطت الضوء على أزمة التعليم في تونس

لا يمكن وصف حادث انهيار جدار مدرسة في بلدة المزونة بمحافظة سيدي بوزيد التونسية، ووفاة ثلاثة شبان تتراوح أعمارهم بين 18 و19 عامًا، إلّا بحادث مأساوي. الحادث أثار موجة احتجاجات ومطالب بمحاسبة المسؤولين عن الإهمال الذي أدى إلى الفاجعة. ولكن، من المسؤول عن مأساة كانت تنتظر الحدوث، وجاءت نتيجة تردي البنية التحتية للمؤسسات التعليمية على مدار عشر سنوات تلت الربيع العربي؟
التراجع في البنية التحتية للمدارس حدث رغم أن التونسيين يدركون أن ثروة بلادهم ليست الفوسفات، ولا زيت الزيتون، ولا التمور، وبالتأكيد ليست السياحة. ثروة تونس الحقيقية هي شبابها، الذين غيّب حادث المزونة ثلاثة منهم.
التونسيون، صغارا وكبارا، ميسورين ومعوزين، شركاء في تحمل المسؤولية. كل من مرّ أمام مدرسة تبدو على واجهتها علامات التهالك وصمت، شريك في تحمل المسؤولية.
ولكن، دعونا نتوقف عن اللطم وتعنيف الذات. رغم حجم المأساة، ورغم الخسارة التي لا تعوض، حياة الشبان الثلاثة يجب ألا تذهب هباءً. يجب أن تشكل هذه الخسارة منطلقًا ليوم وطني لإحياء التعليم والنهوض به من جديد، ونقطة انطلاق تعيد تونس إلى سابق عهدها ومكانتها العلمية، التي جعلت من شبابها هدفًا تطمح الدول والشركات لانتدابهم.
الأمل ما زال قائمًا مع توفر الإرادة التي تبديها حكومة الرئيس قيس سعيد، خاصة استثمار الموارد البشرية والمادية بحكمة
منذ الاستقلال، شكّل التعليم في تونس حجر الزاوية لبناء دولة حديثة ومتطورة، حيث أدرك قادة الدولة أهمية التعليم كعامل أساسي لتحقيق التنمية البشرية والنهوض بالمجتمع. ومع ذلك، وعلى الرغم من الجهود المبذولة بعد الاستقلال وما تحقق من تقدم خلال العقود الأولى، فإن نظام التعليم في تونس يعاني اليوم من تحديات تُغامر بمستقبل الأجيال القادمة وبقدرة البلاد على المنافسة في اقتصاد عالمي متغير.
لقد كانت تونس مرجعًا لجودة التعليم وإتاحته للجميع. غير أن هذا النموذج تعرض خلال العقود الأخيرة لضغوط شديدة بسبب عدة عوامل، منها تدهور البنية التحتية للمدارس، الاكتظاظ داخل الفصول الدراسية، النقص الواضح في التجهيزات التكنولوجية الحديثة، وضعف التدريب الموجه للمعلمين الذي شهدته سنوات الاقتتال السياسي.
ليست البنية التحتية فقط ما تعرض للانهيار؛ تؤكد التقارير الدولية، ومنها تقييم برنامج PISA التعليمي، أن تونس احتلت مراتب متأخرة في التصنيفات الدولية، وهو ما يعكس ضعفًا في المهارات الأساسية للتلاميذ في مجالات القراءة، الرياضيات، والعلوم. هذا الوضع لا يقتصر فقط على الأداء الأكاديمي، بل يمتد ليطال قدرة التعليم على إعداد الشباب لمواجهة تحديات سوق العمل وتوفير فرص مستقبلية حقيقية.
الأزمة المالية الحالية التي تعاني منها تونس نتيجة لعوامل متعددة بينها الأزمة الاقتصادية العالمية تُضيف مزيدًا من الصعوبات. نقص التمويل أدى إلى ضعف الصيانة في المدارس، ونقص في التجهيزات التعليمية الأساسية، خاصة في المناطق الريفية. العجز المالي انعكس بشكل مباشر على الطلاب، حيث أصبح الوصول إلى بيئة تعليمية محفزة تحديًا حقيقيًا.
لكن التحديات ليست فقط مادية. هناك تساؤلات متزايدة حول ملاءمة المناهج الدراسية للعصر الحديث، وقدرتها على تقديم مهارات تتماشى مع متطلبات الاقتصاد الرقمي وسوق العمل الذي يعتمد بشكل متزايد على التكنولوجيا.
في ظل الأوضاع الاقتصادية الصعبة، من الضروري إيجاد مصادر تمويل جديدة لدعم التعليم. ويمكن هنا استغلال فكرة الشراكة مع القطاع الخاص ورجال الأعمال لدعم المؤسسات التعليمية وتحسين بنيتها التحتية.
على سبيل المثال، يمكن إنشاء صندوق وطني لدعم التعليم تُشرف عليه الحكومة بالشراكة مع منظمات المجتمع المدني، يوفر فرصة لأصحاب المال والأعمال للمساهمة في تحسين أوضاع المدارس. ويمكن تقديم حوافز ضريبية للشركات والأفراد الذين يساهمون في هذا الصندوق، مما يعزز ثقافة المسؤولية الاجتماعية.
التعليم الرقمي لا يعتمد فقط على توفير أجهزة الكمبيوتر والإنترنت، بل يتطلب تطوير محتوى تعليمي رقمي يركز على المهارات العملية مثل البرمجة، تحليل البيانات، والذكاء الاصطناعي
إضافةً إلى ذلك، يمكن إطلاق مبادرات لتبني المدارس من قبل الأفراد أو الشركات الكبرى، حيث تُخصص هذه الأطراف موارد لتجديد المدارس وتزويدها بالمعدات الحديثة.
يجب أن يتحول التعليم في تونس إلى نظام يُركز على التكنولوجيا والرقمنة لمواكبة التطورات التكنولوجية المتسارعة. التعليم عن بُعد يمكن أن يكون حلاً لتقليل الفجوة بين المدارس في المناطق الريفية والمدن. برامج التدريب على التكنولوجيا يجب أن تستهدف الطلاب والمعلمين على حد سواء، وبما يضمن إعداد جيل قادر على مواجهة تحديات المستقبل.
التعليم الرقمي لا يعتمد فقط على توفير أجهزة الكمبيوتر والإنترنت، بل يتطلب تطوير محتوى تعليمي رقمي يركز على المهارات العملية مثل البرمجة، تحليل البيانات، والذكاء الاصطناعي.
تحديث المناهج الدراسية هو ركيزة أساسية لأيّ إصلاح تعليمي، وذلك من خلال التركيز على المهارات الناعمة مثل التفكير النقدي، الإبداع، وحل المشكلات، إلى جانب المواد الأساسية. بالإضافة إلى ذلك، تدريب المعلمين يجب أن يُصبح أكثر تركيزًا على هذه المهارات الحديثة، مع توفير دورات مستمرة تمكنهم من تحديث معارفهم باستمرار.
التعليم الفني والتقني يُعتبر خيارًا عمليًا لتحسين فرص الشباب في سوق العمل. فتوسيع هذا النوع من التعليم يمكن أن يكون حلاً لمواجهة البطالة بين الشباب، خاصة إذا تم التعاون مع القطاع الخاص لتقديم برامج تدريب تُلبّي احتياجات السوق. وذلك بالعمل على إنشاء المزيد من معاهد التعليم الفني في المناطق التي تعاني من البطالة، مما يُسهم في تحقيق التنمية المتوازنة.
التعليم ليس مجرد قطاع خدمات، بل هو استثمار طويل الأمد في مستقبل البلاد. في ظل الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، يجب أن يُعتبر التعليم أولوية وطنية قصوى.
يمكن لتونس أن تتجاوز أزمة قطاع التعليم، التي هي في جزء كبير منها ميراث سنوات عشر عجاف تلت الربيع العربي، وذلك باتباع نهج شامل يجمع بين الجهود الحكومية المبذولة، دعم القطاع الخاص، واستثمار رجال الأعمال في التعليم.
الأمل ما زال قائمًا مع توفر الإرادة التي تبديها حكومة الرئيس قيس سعيد، خاصة استثمار الموارد البشرية والمادية بحكمة. بهذا فقط تتحول مأساة بلدة المزونة إلى فرصة للعودة بالتعليم في تونس إلى سابق عهده، ليكون نموذجًا يُحتذى، يسترجع دوره ويصبح محركًا للتنمية.
اقرأ أيضا: