الأزمة الجزائرية - الفرنسية: القراءة المثالية الغائبة

دوائر اليمين الفرنسي التي تسترزق من الأزمة القائمة بين البلدين، تمسك بخطاب نمطي على شاكلة تيار اليمين الغربي، فليس في يديها إلا الهجرة والإسلاموفوبيا ومعاداة السامية، وتتنكر للواقع وتفتقد إلى الواقعية.
الجمعة 2025/04/18
مسلسل لا تنتهي حلقاته

باتت أطوار الأزمة الجزائرية – الفرنسية شبيهة بالمسلسلات المكسيكية، فكلما اعتقد المتابعون، حتى الرأي العام في الجزائر وفرنسا، أن الأزمة وصلت إلى نهايتها، يدخل عنصر جديد لإضفاء المزيد من التشويق ولفت الانتباه. لكن للعلاقات الدولية أحكام خاصة غير تلك التي تحكم الدراما أو أيّ مجال آخر.

وتحول الوضع إلى مادة دسمة تلوكها الدوائر السياسية في هذه الضفة أو تلك. وقد سمح النقاش المفتوح في فرنسا بالخوض في المسألة بشكل واسع، مع هامش مسموح للتيار الرافض للسلوك الرسمي المتطرف في التعاطي مع الأزمة. ولعل اعتراف الإعلامي الفرنسي جون ميشال أباتي، من محطة “آر تي آل” الإذاعية، بارتكاب الجيش الفرنسي لمجازر لا تقل بشاعة عن تلك التي ارتكبها الجيش النازي، عينة ممّا يتيحه الفضاء الديمقراطي الفرنسي، عكس الفضاء المغلق في الجزائر الذي لا يمرر إلا السردية الرسمية.

المسألة في الجزائر لها ذوق خاص. فعلاوة على تقليد التفاف الشارع حول السياسة الخارجية وإجماع القوى المختلفة على الاصطفاف خلف قرارات السلطة، فإن الأمر يكون له بعد آخر عندما يتعلق الأمر بفرنسا. لأن تراكمات الذاكرة المتوارثة لدى الأجيال تجعل الصورة الاستعمارية طاغية على أيّ لوحة يمكن رسمها، وهو ما يشجع السلطة على تأويل تكافؤ الموازين بالعناد وركوب الرأس.

◄ جدير بالدبلوماسية التعاطي معهم كأمر واقع يمثل جزءًا من الناخب الفرنسي، وليس أصواتًا معزولة ينتظر سقوطها في المدى القريب أو المتوسط

لكن دوائر اليمين الفرنسي التي تسترزق من الأزمة القائمة بين البلدين، تمسك بخطاب نمطي على شاكلة تيار اليمين الغربي، فليس في يديها إلا الهجرة والإسلاموفوبيا ومعاداة السامية، وتتنكر للواقع وتفتقد إلى الواقعية. فبلادهم لا يمكن أن تتخلص من تركة أجدادها في أفريقيا وفي شمال أفريقيا والجزائر. وما يعيشه المجتمع الفرنسي هو نتيجة طبيعية لقرون الاستعباد والاستغلال اللذين مارستهما هناك. ولا حل لفرنسا وللتيار المذكور إلا إذا تحملت مسؤوليتها تجاه تلك الشعوب، فتدفع لهم الفاتورة أو ترسي معهم علاقة ندية ومصالح محترمة.

يروى عن الرئيس الراحل هواري بومدين، المعروف بتشدده تجاه النظام الغربي وعلى رأسه فرنسا، أن مسؤول الحزب الواحد في سبعينات القرن الماضي (جبهة التحرير الوطني) محمد الصالح يحياوي، لم يتحمس لإرسال مجموعة من ضباط الجيش الجزائري للتكوين في مدرسة سان سير الفرنسية. فرد عليه بومدين “الحرب انتهت في 1962 وانتهت معها العداوة.. نحن وفرنسا ننتمي إلى منطقة واحدة، لا نحن سنرحل إلى وجهة أخرى ولا هم يرحلون من مكانهم. لقد راق لي الأمر ورأيت المسألة تقديرًا لنا بعدما تقدموا بالاقتراح.”

ونقل عنه أيضًا، أنه لما أبلغه مدير جهاز الاستخبارات الراحل قاصدي مرباح، بأن “عناصره ضبطت عبدالعزيز بوتفليقة في مظهر غير لائق ورقص وشرب في أحد الملاهي بإحدى ضواحي العاصمة،” رد عليه “لو أزيحه من منصبه، هل تملك من يتكفل بفرنسا؟ يملك لسانًا طليقًا ولينًا. سأوصيه إذا أراد أن يرقص، يرقص في بيته ويغلق النوافذ.”

بمثل هذه الحوادث، كان يفكر ويتصرف عراب مناهضة النظام الغربي والليبرالي بالجزائر في سبعينات القرن الماضي لأنه كان يدرك ضرورة التعامل الخاص مع مستعمر الأمس كشريك اليوم، وكان يفصل بين الماضي المثخن بالجراح وبين الحاضر والمستقبل كحتمية لا مناص منها. لذلك حافظت علاقات البلدين على حدها الأدنى ولم يحدث أن انزلقت إلى هذا المستوى المتدني.

الرئيس المذكور، على الانتقادات التي وجهت له من رفاق ثورة التحرير، أصر على الاستعانة بما يعرف بالعناصر الجزائرية المجندة في الجيش الفرنسي، بدعوى مساهمة تكوينهم وخبرتهم ومعارفهم في بناء المؤسسة العسكرية الوليدة في البلاد. وواجه تحذيرات الهوى السياسي والأيديولوجي وحتى العضوي بالمستعمر لهؤلاء، لأنه برأيهم يمثلون طابورًا خامسًا للانقضاض على ثورة التحرير والاستقلال.

وبغض النظر عن وجاهة طرح وحجج الطرفين، فإن اللافت هو أن المثالية التي يرفعها أنصار الشوفينية المضخمة تجاه فرنسا، عن الرئيس المذكور، لا تأخذ منه رؤيته للعلاقات المميزة المأمولة مع فرنسا لقناعته الراسخة أن التوجه يستوجب أن يتطلع إلى الأبعاد الإنسانية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية، بدل البقاء في زاوية التاريخ والذاكرة المشتركة.

◄ تراكمات الذاكرة المتوارثة لدى الأجيال تجعل الصورة الاستعمارية طاغية على أيّ لوحة يمكن رسمها، وهو ما يشجع السلطة على تأويل تكافؤ الموازين بالعناد وركوب الرأس

وبين رؤية هواري بومدين وجيسكار ديستان، أو الشاذلي بن جديد وفرنسوا ميتران، وحتى عبدالعزيز بوتفليقة وجاك شيراك، وبين رؤية عبدالمجيد تبون وإيمانويل ماكرون، فوارق كبيرة في فهم وتأويل العلاقة الخاصة بين البلدين. وإن اختلفت المعطيات والمناخ الجيوسياسي السائد بين المرحلتين، لأن الجزائر تبقى في الجزائر وفرنسا ستبقى في فرنسا على حد تعبير بومدين.

الدبلوماسية الجزائرية التي تحاول الحفاظ على شعرة معاوية، لم تهتد إلى الطريق الذي يمكنها من ذلك. فتعليق الأزمة على طرف بعينه دون غيره من أطراف الحكومة ودوائر القرار الفرنسي قد يؤدي إلى رفع مؤشرات وزير بطموحات سياسية كبيرة لدى الشارع الفرنسي واليمين تحديدًا. فهو يبحث عبر التسويق لورقة الأمن والهجرة المقلقة، عن إقناع هؤلاء بتمكينه من الحزب الجمهوري أولًا وقصر الإليزيه ثانيًا.

كما يضعها في موقع الفاقد للقراءة الصائبة للمشهد الفرنسي. وما تعتقد أنه عادي في الجزائر، لا يكون كذلك في فرنسا. وهو ما جعلها في صدمة غير معلنة بعد تبني الإليزيه لخيارات الحكومة وعلى رأسها مقاربة وزير الداخلية المنبوذ جزائريًا. وفضل الرد بنفسه على خطوة الجزائر بدل وزارة الخارجية، مما يؤكد أن ما ظهر للجزائر تباينا بين الأطراف الفرنسية، هو مجرد تبادل للأدوار لا غير في مسرحية تخضع لمخرج واحد وكاتب واحد.

المشهد الذي أفرزته الانتخابات التشريعية الأخيرة في فرنسا، هو انعكاس لإرادة الناخب الفرنسي الذي دعّم اليمين بأكثر من عشرة ملايين صوت. و برونو روتايو و جيرالد ديرمانان وغيرهما، إفراز لصناديق الاقتراع وليسوا شخصيات تكنوقراطية معينة بقرار رئاسي. ولذلك جدير بالدبلوماسية التعاطي معهم كأمر واقع يمثل جزءًا من الناخب الفرنسي، وليس أصواتًا معزولة ينتظر سقوطها في المدى القريب أو المتوسط.

9