لهذه الأسباب سوريا لا تقبل القسمة

عندما يقول السوريون في أحاديثهم اليومية نحن أحفاد بني أمية، لا يشيرون إلى قصة الخلافة وما ثار حولها من نزاعات، بل يشيرون إلى ما حققته الدولة الأموية من إنجازات.
الخميس 2025/04/17
شعب لا يقبل القسمة

سوريا لا تقبل القسمة، ليس لأسباب عاطفية أو أيديولوجية، أو لأننا أمة عربية واحدة. بل على العكس تماما، لأننا مجموعة أمم في أمة واحدة، ومجموعة أديان وطوائف في بلد واحد، وعلينا أن نقبل هذا التنوع ونجد صيغة مناسبة للعيش في كنفه.

سوريا ليست قطعة مربعة أو مستطيلة أو دائرة يمكن تقسيمها إلى قطع صغيرة نتقاسمها في ما بيننا. لو كان الأمر بهذه البساطة لما تنازعنا وما اختلفنا، ولكن الأمر أعقد بكثير؛ سوريا أحشاء تتشارك جسدا واحدا لا يمكن اقتسامه، وهي ببنيتها الديموغرافية أشبه بمدينة منها بدولة، ويجب أن تُدار بعقلية المدينة.

سوريا لا تشبهها ديموغرافيا سوى لندن. عندما تسير في شوارع لندن لا تعلم في أيّ بلد أنت، وهذا مصدر مناعتها وقوتها وجاذبيتها، ليس فقط على مستوى المركز، بل حتى على مستوى أحياء المدينة. في كامدن تاون، وفي كوفنت غاردن، وفي بريكستون، وتشيلسي، وباتيرسي.. في كل بقعة منها ستجد، اليهودي والمسيحي والمسلم والبوذي وطوائف  الأرض مجتمعة، وستجد  التركي والهندي والباكستاني والجامايكي والمصري واللبناني.. التنوع فرض نفسه وأصبح واقعا تعلمت لندن كيف تتعايش معه، ليصبح مصدر مناعة لها بدلا من أن يكون مصدر ضعف.

◄ سوريا بلد لا يقبل القسمة ليس فقط لهذا التنوع الشديد الذي ذكرناه وجعل من المستحيل التفكير بتقسيمها كما تُقسم قطعة الكيك بل لأن السوريين أنفسهم شعب لا يقبل القسمة

لنتحدث عن شارع واحد من شوارع دمشق، الشارع الذي يربط بين حي الأمين وباب شرقي ويُعرف بالشارع المستقيم. هذا الشارع التاريخي يمتد من باب الجابية إلى باب شرقي، وهو أحد أبرز معالم دمشق القديمة، وهو شاهد على تاريخها العريق، ذُكر في الإنجيل باسم “الزقاق المستقيم”.

على امتداد 1570 مترا – هو طول الشارع – تتعايش طوائف سوريا؛ من شيعة وسنة ودروز ومسيحيين، وسابقا عاش فيه اليهود، ولا يزال معبدهم إلى اليوم على بعد خطوات.. من زار دمشق وعاش فيها سيعرف الكوكتيل الذي أتحدث عنه.

ما ينطبق على الشارع المستقيم ينطبق على باقي أحياء دمشق؛ من المزرعة إلى ركن الدين والأكراد والمهاجرين إلى القابون مرورا بالقصاع وباب توما ومساكن برزة وبرزة البلد.

وما ينطبق على دمشق ينطبق على حمص وحلب واللاذقية والقامشلي والحسكة والجولان..

وأنا أكتب هذه الكلمات عدت إلى خريطة معنونة بـ”خريطة التوزيع الطائفي والعرقي في سوريا” نشرتها سكاي نيوز العربية. الخريطة مرقطة كجلد النمر، وعلى جانبها وضعت أرقام وألوان تشير إلى نسب الطوائف والأقليات وتوزيعها ضمن سوريا.

الأكراد موزعون على 18 بقعة، والتركمان موزعون على 8 رقع، والسنة على عدد يصعب إحصاؤه، والمسيحيون على خمس رقع، والدروز على رقعتين.. هذا بعد التبسيط الشديد.

◄ عندما يقول السوريون في أحاديثهم اليومية نحن "أحفاد بني أمية" لا تعنيهم قصة الخلافة وما ثار حولها من نزاعات، بل ما حققته الدولة الأموية من إنجازات

الخارطة لم تُشر إلى الأرمن والشركس والإسماعيليين والمرشديين والإزيديين، وتجاهلت الخريطة، مثلا، تواجد الدروز المكثف في بلدة جرمانا التي احتلت في الأيام الأخيرة حيزا مهما في الأخبار، كما تجاهلت تفاصيل أخرى كثيرة، ووضعت الساحل السوري بلون واحد فقط يشير إلى الطائفة العلوية. صحيح أن نسبة العلويين في ريف الساحل السوري 70 إلى 80 في المئة، ولكن هذا لا ينطبق على المدن؛ اللاذقية وبانياس وجبلة وطرطوس، التي يشكل السنة النسبة الأكبر فيها، إلى جانب أقلية مسيحية وطوائف أخرى.

سوريا بلد لا يقبل القسمة، ليس فقط لهذا التنوع الشديد الذي ذكرناه، وجعل من المستحيل التفكير بتقسيمها كما تُقسم قطعة الكيك، بل لأن السوريين أنفسهم لا يقبلون القسمة.

تعرضت لهذا الموضوع من قبل، ولم أعد للحديث عنه لأسباب تتعلق بضعف الذاكرة، بل للتعليق على خبر يقول إن الرئيس السوري أحمد الشرع منشغل منذ زمن بفكرة إنشاء كيان سني، وأن هذا التوجه مغلف بغلاف من النوستالجيا يتمثل في “الأمويّة” نظرا لتداعياته السياسية الحساسة.

بعيدا عن الخلافات بين الدولة الأموية والدولة العباسية حول الخلافة ومن أحق بها، ومقتل الحسين بن علي، من منا يستطيع أن ينكر أهمية الدولة الأموية وأهمية الدور الذي لعبه مؤسسها معاوية بن أبي سفيان، في تأسيس الإمبراطورية الإسلامية وامتداد حدودها من غرب الصين في الشرق إلى الأندلس في الغرب، لتصبح أكبر إمبراطورية عرفها التاريخ الإسلامي.

◄ سوريا لا تشبهها ديموغرافيا سوى لندن. عندما تسير في شوارع لندن لا تعلم في أيّ بلد أنت، وهذا مصدر مناعتها وقوتها وجاذبيتها، ليس فقط على مستوى المركز، بل حتى على مستوى أحياء المدينة

عندما يقول السوريون في أحاديثهم اليومية نحن “أحفاد بني أمية” لا تعنيهم قصة الخلافة وما ثار حولها من نزاعات، بل ما حققته الدولة الأموية من إنجازات. والشرع ليس وحده من يسترجع هذا الإرث الأموي. يُقال إن حافظ الأسد كان معجبا بمعاوية، الذي يعتبره الحزب السوري القومي الاجتماعي “العلماني” بطلا سوريا.

السوريون معجبون بنفس القدر بسلطان باشا الأطرش، الذي ينتمي إلى طائفة الموحدين الدروز، ويُعتبر القائد العام للثورة السورية الكبرى ضد الفرنسيين عام 1925، وكان أول من رفع علم الثورة العربية في سوريا، ومن أوائل الثوار الذين دخلوا دمشق عام 1918.

والسوريون معجبون بالشيخ صالح العلي، الذي ينتمي للطائفة العلوية، وقاد الثورة ضد الاحتلال الفرنسي في منطقة جبال الساحل السوري، وكان من الشخصيات التي رفضت تقسيم سوريا أو إقامة دولة علوية منفصلة، وأصر على أن تكون جبال العلويين جزءا من سوريا الموحدة.

السوريون معجبون بالمسيحي الأرثوذكسي جول يوسف جمّال، ضابط سلاح البحرية السوري، الذي تطوع خلال العدوان الثلاثي على مصر، لتنفيذ عملية استشهادية ضد البارجة الفرنسية “جان دارك”، التي كانت تقصف مدينة بورسعيد. وقاد زورقا محملا بالمتفجرات واصطدم بالبارجة، مما أدى إلى تدميرها واستشهاده.

والسوريون معجبون أيضا بالكردي العراقي ابن تكريت صلاح الدين الأيوبي، مؤسس الدولة الأيوبية التي حكمت أجزاء واسعة من الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، واشتهر بدوره البطولي في مقاومة الصليبيين، واستعادة مدينة القدس بعد معركة حطين في عام 1187.

بلد مثل هذا وشعب مثل هذا، لا يقبلان القسمة.

8