الأردن بين فوضى مُخططة وتماسكٍ محسوب

منذ متى كانت الطائرات المسيّرة تصنع في بيوت عمّان؟ ومنذ متى صار الصاروخ يُخبّأ في حيّ سكني، ويُهيّأ للانطلاق داخل حدود لا تُجيد الصراخ؟
ما أعلنته المخابرات العامة الأردنية في الأيام الماضية، ليس مجرد كشف أمني، بل تفكيك لمخطط عابر للحدود، أُعدّ بعناية، واختير له التوقيت والموقع بعناية أكبر.
في بلد يعرف متى يُظهر أوراقه ومتى يتركها للخصم يحترق بانتظارها، اختار الأردن أن يتحدث بصوت منخفض، لكن بعيون مفتوحة على اتساعها.
إنه البيان الذي لا ينتهي عند تفاصيل القبض والمصادرة، بل يبدأ منها. يبدأ من سؤال كبير، لماذا الآن؟ ولماذا الأردن؟ ومن يتجرأ على اختبار صمته؟
عندما أصدرت دائرة المخابرات العامة الأردنية بيانا مقتضبا أعلنت فيه إحباط مخططات تخريبية، واعتقال 16 شخصا في أربع قضايا أمنية نوعية، فإن التفاصيل التي تسرّبت لاحقا كشفت عن مستوى غير تقليدي من التحضير، تصنيع محلي لصواريخ قصيرة المدى، حيازة مواد متفجرة، وتطوير طائرات مسيّرة، بعضها كان في مراحل التنفيذ الفعلي، كما في حالة صاروخ كاتيوشا الذي تم العثور عليه داخل منزل سكني في إحدى ضواحي العاصمة.
◄ الأردن بطبيعته السياسية وبنيته العشائرية والأمنية لا يتعامل مع التهديد بنفس الأدوات التي تتعامل بها دول الجوار، فالصمت الأردني لم يكن ضعفا بل جزءا من تكتيك في إدارة الأزمات
تمام، راح أضيف عنصر “فصول العدوان على غزة” بشكل طبيعي داخل الفقرة السابقة، وأكتب لك فقرة جديدة مستقلة عن قوة الدولة الأردنية وثباتها، ودهاء المخابرات الأردنية التي لم تُظهر كل أوراقها بعد. إليك النتيجة بعد الدمج والصياغة:
الحدث بحد ذاته يبدو أمنيا، لكن التوقيت واللغة المستخدمة في البيان يوحيان بغير ذلك. فنحن أمام رسالة سياسية ذات أبعاد أمنية، لا العكس. إعلان المخابرات لا يستهدف الداخل فحسب، بل الخارج أيضا، إذ جاء في لحظة إقليمية مشتعلة، غزة تقاوم فصولا متلاحقة من العدوان الإسرائيلي الوحشي، والضفة الغربية على حافة الانفجار وسط تصعيد متدرج وتحولات في المزاج الشعبي والأمني، بينما تتوسع رقعة الاجتياح الإسرائيلي نحو جنوب سوريا في ظل غياب الردع الإقليمي. أما البحر الأحمر، فالتوتر فيه يتصاعد مع كل ساعة، وتكاد الجغرافيا تختنق بين الحصار والممرات الملغومة. وسط هذا الزحام، يظهر الأردن كصندوق مغلق يثير قلق البعض واهتمام البعض الآخر. لم يكن الإعلان عن إحباط المؤامرة مجرد بيان طمأنة، بل هو تحذير غير معلن، الدولة تراقب، وتعلم، وتضرب حين يلزم.
لعدة سنوات، عانى الأردن من أدوات إيران التي كانت تقبع على حدوده الشمالية، وتعمل على تسريب السلاح والفوضى إلى الداخل، متستّرة وراء شعارات المقاومة ومحاربة الاحتلال. ومع تراجع المشروع الإيراني في جنوب سوريا وانكفاء ميليشياته، ظنّ البعض أن الحصار الأمني كافٍ لحماية الداخل. إلا أن الإعلان الأخير جاء ليثبت أن المشروع لا يزال يبحث عن منافذ جديدة، وأن أدواته موجودة داخل الأردن ذاته، حتى لو لم يُعلن ارتباطها المباشر بطهران. فمن نُسبت إليهم التهم، وإن لم يُربطوا رسميا بالمحور الإيراني، إلا أن الفكر والمنهج والنية واحدة، والتمويلات تسلك طرقا ملتوية لكن نهاياتها معروفة.
وما يجعل المسألة أكثر تعقيدا، هو الكشف عن انتماء بعض المتورطين لجماعة الإخوان المسلمين، بينهم من تبوأ مواقع قيادية ونشاطية داخل التنظيم. وهو ما يفتح باب التساؤل الجدي، هل حان الوقت للدولة الأردنية أن تعيد فتح ملف الإخوان بكل شفافية، وتُراجع الدور السياسي والأيديولوجي لهذه الجماعة؟ خاصة في ظل تاريخ طويل من ازدواجية الخطاب، والعمل تحت الغطاء القانوني في الداخل، مع الارتباط غير المعلن بأجندات خارجية تتقاطع أحيانا مع مشاريع توسّعية تستهدف استقرار الدولة لا إصلاحها.
ما كُشف عنه من معلومات يُشير إلى وجود مشروع لا يمكن وصفه بالعشوائي أو المرتجل. التمويل، التدريب، التخطيط طويل الأمد، والاعتماد على التكنولوجيا، كلها تدل على وجود جهة راعية، وإن كانت غير معلنة. من يقف خلف هذا المشروع لا يراهن فقط على تفجير الوضع الأردني، بل يتعامل مع الأردن كممر إجباري في مشروع أكبر، قد يمتد من باب المندب حتى عمّان، مرورا بمسرح العمليات في غزة وسيناء وسوريا. والأردن في هذه المعادلة ليس طرفا مباشرا، لكنه الحلقة الوسطى التي يتوقف عليها توازن هشّ. من هنا، يصبح استهدافه ضرورة إستراتيجية لأيّ طرف يبحث عن قلب المعادلات الإقليمية.
◄ لعدة سنوات، عانى الأردن من أدوات إيران التي كانت تقبع على حدوده الشمالية، وتعمل على تسريب السلاح والفوضى إلى الداخل، متستّرة وراء شعارات المقاومة ومحاربة الاحتلال
لكن الأردن، بطبيعته السياسية وبنيته العشائرية والأمنية، لا يتعامل مع التهديد بنفس الأدوات التي تتعامل بها دول الجوار. الصمت الأردني لم يكن ضعفا، بل هو جزء من تكتيك طويل الأمد في إدارة الأزمات. فالدولة التي لم تدخل في محاور، ورفضت الانزلاق نحو تحالفات متقلبة، تحتفظ اليوم بقدرتها على المناورة، ليس فقط بحكم موقعها، بل أيضا بسبب ثقلها التاريخي في منظومة القرار العربي.
ما حصل هو رسالة مزدوجة، أولا، لمن يظن أن الأردن ساحة سهلة للاختراق، وثانيا، لمن يحسب أن عمّان يمكن تطويعها بالتهديد أو الفوضى. والرسالة وصلت بصيغة غير قابلة للتأويل، هذه دولة تعرف متى تصمت، ومتى تضرب، ومتى تترك الآخرين يتخبطون في صدى تحركاتها.
الدولة الأردنية أثبتت في هذا المنعطف الحساس أنها ليست مجرد كيان سياسي عابر، بل ركيزة راسخة في توازن الإقليم، تقف بثبات في وجه أعتى العواصف. لم تهتز تحت ضغط الإقليم المشتعل، ولم تنجرّ خلف الاستفزاز أو الابتزاز. عمّان، التي واجهت مؤامرات صامتة وحملات تضليل ممنهجة، ردّت بالفعل لا بالقول، وبالهدوء لا بالضجيج.
والمخابرات الأردنية، التي اختارت أن تكشف بعضا مما تملك، لم تُظهر بعد كل فصول الحكاية. ما خفي كان أعظم، وما لم يُعلَن هو الرسالة الأقوى، أن يد الدولة أطول مما يُظن، وأن معركتها مع الفوضى بدأت قبل أن تُعلن، ولن تنتهي عند بيان.
من أراد زعزعة أمن الأردن كان عليه أن يقرأ التاريخ أولا، وأن يفهم أن هذه البلاد، وإن بدت هادئة، فإنها تُخفي في رمالها ما يكفي لإفشال مشاريع إقليمية كاملة. الأردن لا يهدد، لكنه حين يتحرك، يغيّر قواعد اللعبة دون أن يرفع صوته.
لأن من يُشعل الفوضى في بلاد العزّ.. قد يكتشف أن النار لا تُفرّق بين من أشعلها ومن أراد بها خرابا.