سلمى الغزاوي لـ"العرب": ألوذ بالشعر هربا من الحالة البودليرية

في عالم تتقاطع فيه الكلمات بين الشعر والترجمة، تبرز سلمى الغزاوي بصوتٍ مغربيٍّ ينسج الجمال ويترجم الإحساس. شاعرة تحمل في حروفها رائحة الأرض ووهج الروح، ومترجمة تفتح نوافذ الأدب على ضوء ثقافات متعددة. تسافر بين اللغات، وتعود إلينا بقصائد تحمل همّ الإنسان وجماليات الوجدان. "العرب" كان لها هذا الحوار مع الكاتبة حول عوالمها وقضايا أخرى.
سلمى الغزاوي مترجمة، قاصة، روائية وشاعرة من مواليد عاصمة المغرب العلمية فاس، وهي خريجة كلية الحقوق قسم قانون خاص باللغة الفرنسية، لكنها اشتغلت في الصحافة وتعاونت مع عدة منابر إعلامية، ونشرت نصوصها ومقالاتها وترجماتها في العديد من الجرائد والمجلات والمواقع الثقافية العربية، ما دعّم تجربتها الأدبية.
قدمت الكاتبة المغربية عدة مؤلفات نذكر من بينها المجموعة القصصية “مقامات مخملية” وروايتي “أوركيديا سوداء” و”قبل النهاية بقليل”، كما أصدرت مجموعة شعرية بعنوان “الأبدية كرقصة التانغو”، وهي تحترف علاوة على الكتابة الترجمة الأدبية وأصدرت عدة ترجمات من بينها الترجمة الكاملة لديوان “أزهار الشر” لشارل بودلير، وترجمة رواية “آخر يوم لمحكوم بالإعدام” لفيكتور هوغو، ورواية “السقطة” لألبير كامو، وأحدث ترجماتها كتاب “رسائل إلى شاعرة” لغوستاف فلوبير.
كتابة الشعر
الغزاوي لا تعتبر ترجمة الشعر خيانة بقدر ما هي مقتنعة بأنها إعادة خلق لشعرية المؤلف الأصلي بلغة أخرى
لكل مبدع طفولة مليئة بمشاعر وأحاسيس ولحظات خاصة دفعت به للقاء كراسه وقلمه، تعلق سلمى الغزاوي لـ”العرب” على لحظتها قائلة “لا شك في أن للطفولة والنشأة تأثيرا عميقا في تشكيل وعي وشخصية الإنسان الذي اختار أن يلوذ بالقلم، تحضرني الآن مقاطع من الأغنية الفرنسية الرائعة للمطرب جان فيرا: ‘لا أحد يشفى من طفولته،’ وبالفعل أعتقد أنه سواء عاش الإنسان/ المبدع طفولة سعيدة أو تعيسة فلا بد من أن ينعكس ذلك على أعماله الإبداعية فيما بعد.”
وتضيف “بالنسبة إلي، ربما كانت تلك اللحظة المؤثرة هي حينما لوحتُ بيدي مودعة وأدرت ظهري دون أن أعي أنه الوداع الأخير، تلك اللحظة العاصفة التي تعرفت فيها وأنا طفلة لأول مرة على كابوس مباغت رهيب يدعى الفقد، إذ ذاك، لأتحرر من وجعي اخترت أولا أن أرسم، لكنني بعدما كبرت صرت أرسم بالكلمات وأطرز النصوص بعصارة تجربتي الحياتية المتراوحة بين الحزن والفرح، اليأس والأمل، والفقد الذي نجحت أخيرا في التصالح معه والإقرار بأن لكل شيء نهاية.”
تسألها “العرب” ما هو الباب الذي تفتحه القصيدة لك سريعًا عند لقائك بها في مُنحدر اللغة؛ باب الطفولة، باب الحنين، باب الحب، باب المرأة، باب المكان، باب الذكريات، باب الوجع، باب الأمل… وللشاعر في أبوابه أسرار وألغاز؟ لتجيبنا “أقتبس من الشاعر إيميه سيزار قوله: ‘الشعر هو النهج الذي يضعني في قلب الحياة وداخل نفسي والعالم من خلال الكلمات والصور والأساطير والحب،’ لطالما كان الشعر بالنسبة إلي منفذ إغاثة يفتح لي كل الأبواب المغلقة أو التي خلت أنها أغلقت في وجهي، لاسيما باب الأمل في غد وعالم أفضليْن.”
وتتابع “أردد دوما أنني ألوذ بالشعر هربا من ‘الحالة البودليرية’ التي تنتابني من حين إلى آخر، هذه الحالة التي أقوم بتعريفها على أنها مزيج من الحزن، الكآبة، السأم، النوستالجيا.. إلخ، ولهذا أقول في استهلال ديواني ‘الأبدية كرقصة التانغو’ إن ‘القصيدة محاولة مستميتة للطيران،’ محاولة للانبعاث من رماد الحزن والأسى على ما كان وما لم يكن.”
نسأل الغزاوي كيف تتجلّى صورة المرأة في قصائدها، فتجيبنا “أحب أن تنعكس المرأة في كل كتاباتي سواء السردية أو الشعرية كرمز للثورة، القوة، التغيير، الانبعاث والحرية، لأنني أكره الكليشيهات المرتبطة بالمرأة وتقديمها غالبا في صورة لا تليق بها، صورة ملؤها الضعف، أو كنموذج لضحية تم التلاعب بها أو الأنكى من ذلك نموذج للغواية.”
أما عن نظرتها إلى العلاقة القائمة بين القصيدة والنقد في مشهدنا الشعري الراهن، فتلفت إلى أن أغلب الشعراء يشتكون من شبه غياب الإضاءات والدراسات والاحتفاءات النقدية بأعمالهم الشعرية، بينما ترى هي أن ثمة اهتماما نقديا لا بأس به حاليا بالحركة الشعرية العربية وبقصيدة النثر على وجه الخصوص، مضيفة “عموما أعتقد أنه لا ينبغي للمبدع أن يرمي اتهاماته على النقاد ويحملهم مسؤولية انصراف المتلقي عن الشعر، بل كل ما علينا كشعراء هو أن نساهم ونعمل على خلق حركة نقدية مهمة وفاعلة، لأنه على الشعر أن يحرك الركود القائم نقديا لا العكس.”
وعن المهرجانات الشعرية تقول “حسب تجربتي الخاصة، تكاد المهرجانات واللقاءات الشعرية في وقتنا الراهن تكون مجرد مساحة لتبادل إنساني بين الشعراء الذين فرقتهم المسافات وجمعهم حب الثقافة والإبداع، ربما تكون هناك بعض النقاشات والتبادلات الإبداعية المثيرة للاهتمام، وأيضا قد تثمر عن تعاونات يسيرة لكنها تظل غير كافية لإيقاظ شعلة بروميثيوس في ذهن الشاعر وروحه.”
الترجمة ورهاناتها
من غير المنطقي أن يرمي الشعراء اتهاماتهم على النقاد ويحملونهم مسؤولية انصراف المتلقي عن قراءة الشعر
أكثر أعمال الغزاوي المترجمة كانت من اللغة الفرنسية إلى اللغة العربية، نسألها لمَ لا يكون العكس؟ لتجيبنا “بداية اختياري هذا جاء كوني شغوفة بالأدب الفرنسي لاسيما الأعمال الكلاسيكية لكبار الكتاب، وأيضا لأنني بحكم دراستي أتقن اللغة الفرنسية، ولهذا أردت أن أنقل بعض الجواهر الأدبية الفرنسية إلى قراء العالم العربي الذين كثيرا ما يحول عدم إتقانهم للغة حاجزا بينهم وبين التعرف والانفتاح على ثقافات وإبداعات من الضفة الأخرى، أعتقد أنه بالنسبة إلى ترجمة الأعمال العربية إلى اللغة الفرنسية فإنها مسألة تعترضها بالنسبة إلي بعض الصعوبات التقنية والتحديات وأيضا ثمة ركود ترجمي وعدم اهتمام من دور النشر بترجمة الأعمال العربية إلى لغات أخرى، ومع ذلك لا أمانع الفكرة بالمطلق.”
نسألها عن طريقة اختيارها للأعمال التي تترجمها، خاصة من الشعر، لتقول “الأمر بسيط للغاية، يكفي أن تلامسني تلك القصائد بصدقها وتحرك صورها واستعاراتها أحاسيسي، لأحس وكأنها كتبت من أجلي أو تعبر عني، لذا لا أترجم أي قصيدة كانت، ولا أهتم باسم الشاعر كثيرا، بل كل ما يهمني هو أن تكون القصيدة منفذا ينقلنا إلى سماوات شاسعة ملؤها التجارب والتناقضات الإنسانية، وثنائيات الجمال/ القبح، الحب/ الكره، الحياة/ الموت إلخ، مثلما نجد على سبيل المثال في قصائد شارل بودلير أو فلنقل أزهاره الشريرة. باختصار، أؤمن بأن الأسهل والأفضل هو نقل القصائد الأقرب إلى قلبي وإلى لغتي الأم، وهكذا أضمن أنها ستصل حتما إلى المتلقي بشكل جمالي واضح.”
وتتابع الغزاوي “لا أعتبر ترجمة الشعر خيانة بقدر ما أنا مقتنعة بأنها إعادة خلق لشعرية المؤلف الأصلي بلغة أخرى، في نظري، لا تعني ترجمة الشعر الالتزام بما ورد في النص الأصلي كلمة كلمة، بل يتعلق الأمر بترجمة إبداعية لرؤية الشاعر ومقاصده، ومعاني وأفكار نصه مهما كانت مليئة بالتعقيدات، وإعادة خلقها وصياغتها في قالب لغوي مختلف، هكذا تستحيل ترجمة الشعر أقرب إلى فك شيفرات وإعادة كتابة في اللغة الهدف، ويصبح المترجم بمثابة مؤلف مواز، وهذا يعتمد إلى حد كبير على حساسية المترجم وخبرته، ومعرفته العميقة بالشاعر وعوالمه الشعرية، كي يحتفظ النص المترجم بمعناه وبُعده والنفس الشعري الأصلي.”
أما عن تأثير الترجمة فيها وفي تجربتها، فتقول “لا أنكر أن الترجمة ساعدتني وألهمتني كثيرا، وجعلتني أعمل على تطوير حساسيتي وكذلك أسلوبيتي ككاتبة وشاعرة أكثر فأكثر، لاسيما ترجمة الشعر التي تتطلب استكشافا خاصا وسبر أغوار كبيرا لجوهر النص، حيث إن الشعر هو الجنس الأدبي الذي يحظى بقدرة فائقة على الاستغلال الكامل للقدرات الدلالية والرمزية والخيالية لكل كلمة على حدة والغوص في أقصى عمق الفكرة التي يريد الشاعر مشاركتها مع القارئ، ولهذا بالتأكيد أثْرَتْ تجربتي الترجمية تجربتي الشعرية وانعكست عليها بالإيجاب.”
في ترجمة الشعر ليس هناك حياد تام للذات الشاعرة في توجيه بوصلة النص الشعري المترجَم، وتعتقد الغزاوي أنه في خضم هذه العملية المعقدة، التي هي ترجمة الشعر من طرف شاعر، قد تتداخل أحيانا العوالم الشعرية والأسلوبية للمؤلف الأصلي والمترجم، لأنها تتفق مع الرأي القائل إن الترجمة تشجيع على أن يصير المرء شاعرا بدوره، لكن بالنسبة إليها تحاول أن تلتزم الحياد التام خلال ترجمتها للنصوص الشعرية بغية نقل معانيها وجمالياتها بأمانة إلى المتلقي.
وتضيف “أحرص على احترام أفكار وصور الشاعر إلى أقصى حد، لأن ما يهم هو نقل تجربته الشعرية هو لا تجربتي أنا، ولهذا أتوارى خلف نصه، وكل ما أفعله هو أن أعيره صوتي ولغتي لإعادة صياغة شعريته الجوهرية وأفكاره وتكييفها مع اللغة الهدف كي تتجلى مثلما هي في النص الأصلي، لأن ‘المترجم المبدع لا يترجم في الواقع معنى الكلمات فحسب، بل يترجم دلالاتها أيضا،’ كما يقول هنري ميشونيك.”
وبسؤالها عن توفيقها بين الجمالية والأمانة في ترجمة النصوص الأدبية؟ تؤكد الكاتبة والشاعرة المغربية أنه “لا بد من أن يتمكن المترجم المحترف من التوفيق بين نقل الجماليات الكامنة في النص والالتزام بالأمانة في نفس الوقت، لاسيما وأنها من المنتمين إلى مدرسة الترجمة الإبداعية التي تنتصر لإعادة إنتاج النص بمهارات لغوية وفنية وإبداعية عالية، عبر الاهتمام أولا بمواءمته مع اللغة الهدف دون الإخلال بجوهر النص الأصلي ومعناه. وفي ما يتعلق بحقوق المؤلف لا تزال هناك استباحة كبيرة للملكية الفكرية وحقوق النشر خصوصا بسبب آفة القرصنة التي تتسبب في خسائر هائلة لكل الأطراف المتدخلة في صناعة الكتاب.”