بين الأدب والدراما نقاط اتصال وانفصال

تحويل نص أدبي إلى عمل درامي ليس أمرا جديدا، لكنه في السنوات الأخيرة بات يشهد تزايدا ملحوظا، بحثا ربما عن الأفكار الجيدة، والأعمال الرصينة، ولكن هذا لا يكفي لإنجاز عمل مرئي ناجح، إذ هناك اشتراطات كثيرة، فليس كل عمل أدبي صالحا ليكون دراما. "العرب" التقت الكاتبة المصرية شاهيناز الفقي التي لها رأي هام في هذه الناحية.
القاهرة - العلاقة بين الأدب والدراما علاقة شائكة، ملتبسة، معقدة، برغم أنهما صنوان لا يفترقان، لا يستغني أيّ منهما عن الآخر؛ فالرواية التي لا تقدم لقارئها صورة وتفاصيل وأصواتًا هي عمل باهت، والفيلم أو المسلسل الذي يخلو من حبكة محكمة وملامح نفسية واضحة لشخصياته لا يكون جاذبا للمشاهدة. وهناك من الكُتاب من قرر أن يمشي في الطريقين معًا رغم العقبات والعوائق.
الكاتبة المصرية شاهيناز الفقي روائية وقاصة، لها أعمال عدة متميزة حازت جوائز أدبية، اختارت أن تسير في طريق كتابة السيناريو، منطلقة من نقطة الدراسة الأكاديمية، فحصلت على دبلوم الكتابة الإبداعية وكتابة السيناريو من الأكاديمية الدولية الأميركية للفنون والإبداع، كما درست على يد الأكاديمي كريم بهاء الأستاذ في المعهد العالي للسينما بمصر.
عمل درامي
تقول الفقي لـ”العرب” إن تحويل العمل الأدبي إلى عمل درامي مسألة معقدة، إذ يعتمد هذا الأخير بشكل أساسي على الصورة المرئية، وعلى عناصر الجذب والتشويق، ومدى ارتباط المشاهد بالشخصيات. وفي هذا السياق، يكون المشاهد متلقيًا فقط، على عكس القارئ في العمل الأدبي، حيث يصبح شريكًا في الإبداع من خلال خياله، متصوّرًا الشخصيات والأماكن وفقًا لتجاربه وخبراته.
وتعتبر في ضوء ذلك أنه ليس كل عمل أدبي قابلًا للتحويل إلى دراما ناجحة؛ فهناك روايات ذات جودة وتميز عالٍ، لكنها قد لا تحقق النجاح عند تحويلها إلى عمل درامي. وفي المقابل، قد يكون العمل الأدبي ضعيف المستوى، لكنه يحقق نجاحًا كبيرًا عند تقديمه في شكل درامي.
تم تحويل رواية “سنوات التيه” للكاتبة المصرية إلى مسلسل من عشر حلقات باسم “الذنب”، بطولة الفنانين هاني سلامة ودرة التونسية وماجد المصري، إخراج رضا عبدالرازق، الذي كتب السيناريو له بنفسه عندما قرأ الرواية قبل أن يتعرف على الكاتبة، فاشترطت عليه ألا يتم تغيير الفكرة الأساسية التي تناقشها الرواية، لاسيما أنها كانت قد أعدت بالفعل مشروع سيناريو لها، ورغم الانتهاء من تصوير المسلسل قبل أكثر من عام، إلا أنه لم يعرض بعد على منصة “شاهد” كما كان مقررا له.
في الماضي، اعتبر الكاتب المصري الكبير نجيب محفوظ وهو أكثر من تحولت أعماله الأدبية إلى أفلام أن مسؤولية الكاتب تقف عند حدود روايته المكتوبة، أما الفيلم المأخوذ عن الرواية فهو مسؤولية صناعه.
وتتفق شاهيناز الفقي مع هذا الرأي، ولكن بحدود، بمعنى أنه لا بد من الاحتفاظ بوجهة نظر الكاتب، وفكرته الأساسية، وهدفه من العمل الأدبي. وتتساءل “إذا تم تغيير العمل بالكامل، فما الجدوى من الاستعانة باسم الأديب على العمل الدرامي؟ في هذه الحالة يصبح اسم الكاتب مجرد وسيلة للدعاية لا أكثر.”
انتشار ورش الكتابة واشتراك أكثر من كاتب في العمل الدرامي أديا إلى دخول عنصر المجاملة في الاختيارات
وبخلاف ذلك، ففي رأيها، أن بناء العمل الدرامي يختلف بالفعل عن بناء العمل الروائي، ما يستلزم مقومات وعناصر قد لا تتوفر في العمل الأدبي، وهنا يأتي دور كاتب السيناريو لإضافتها.
وتشبِّه الكاتبة الفارق بين السيناريو والعمل الروائي بأن الأول يشبه الصورة الفوتوغرافية، حيث تُظهر التفاصيل بوضوح، لكنها قد تتغافل عن بعضها لضرورات درامية. أما العمل الروائي، فهو أشبه بلوحة مرسومة بريشة فنان، تعكس رؤية المبدع، بعيدا عن التفاصيل.
وتسألها “العرب” عن صعوبة اختراق الأوساط الفنية ككاتبة سيناريو في ظل عوائق واعتبارات كثيرة تحكم طبائع العلاقات داخل الوسط الفني، فتردّ بأنه في الماضي كان عدد الكُتاب محدودًا نسبيًا، ما أتاح تحويل معظم أعمالهم إلى أعمال درامية تلفزيونية أو سينمائية. وكان للأديب نجيب محفوظ النصيب الأوفر في ذلك، يليه إحسان عبدالقدوس. أما اليوم، فقد تزايد عدد الكُتاب بشكل كبير، حتى أن البعض يتندر بالقول إن عدد الكُتاب يفوق عدد القراء. وهذه المقولة ليست دقيقة، لكنها تعكس الزيادة الملحوظة في أعداد الكُتاب، ما جعل اختيار عمل روائي مناسب لتحويله إلى دراما أمرًا شاقًا.
وتضيف إلى ذلك مسألة لجوء الكثير من كُتاب السيناريو إلى الاقتباس من أعمال غربية ناجحة، ظنا منهم أن هذا هو الطريق الأسرع والأسهل للنجاح. كما أدى انتشار ورش الكتابة، واشتراك أكثر من كاتب في العمل الدرامي إلى دخول عنصر المجاملة في الاختيارات، ما انعكس سلبًا على مستوى الدراما المصرية. ورغم ذلك، تظهر بين الحين والآخر أعمال درامية تحقق نجاحًا كبيرًا وتحظى بإقبال واسع من المشاهد المصري والعربي، ما يؤكد أن الدراما المصرية لا تزال قادرة على تقديم أعمال متميزة متى توفرت لها العناصر الإبداعية الحقيقية.
الانحياز للإنسانية
صدر للكاتبة شاهيناز الفقي روايات “سعيدة.. ملحمة العشق والحرية” وتمت ترجمتها إلى اللغة الإنجليزية، و”سنوات التيه”، و”يا شمس أيوب”، و”مذكرات نزيل جهنم”، و”حتما سوف يأتي”، ومجموعتان قصصيتان هما “الدبلة والمحبس” و”نخلة عزرا”.
وبعد أن أنجزت عملها الروائي الأول “سعيدة.. ملحمة العشق والحرية”، أدركت الفقي أنها تميل بطبيعتها إلى الانحياز للإنسانية بوجه عام كقضية رئيسية في كتابتها. ورغم أن الرواية تتناول قضية جوهرية تتعلق بالعبودية وتجارة الرقيق خلال مرحلة مفصلية من تاريخ مصر في أواخر القرن التاسع عشر، إلا أنها وجدت نفسها دون قصد تجنح نحو قضايا إنسانية متعددة.
تحولت العبودية في الرواية من مجرد واقعة تاريخية إلى حالة إنسانية تسيطر على معظم الشخصيات، حيث تجلت بأشكال مختلفة، منها؛ عبودية الكراهية التي تستولي على القلب وتدفع صاحبها إلى الانتقام بلا رحمة، وعبودية الحب التي تجبر الإنسان على التخلي عن مبادئه وقناعاته، وغيرها من صور العبودية التي تحاصر الروح. حتى أنها أدركت، في نهاية الرواية، أن الشخصية الوحيدة التي تمتلك حريتها حقًا هي الفتاة الأسيرة سعيدة.
في رواية "سنوات التيه" التي تتمحور حول مرض غامض يصيب البطلة، كان جوهر الحكاية هو ضعف الإنسان وهروبه من المواقف التي تفوق احتماله
وفي رواية “سنوات التيه” التي تتمحور حول مرض غامض يصيب البطلة، كان جوهر الحكاية هو ضعف الإنسان وهروبه من المواقف التي تفوق احتماله. بينما اقتحمت رواية “يا شمس أيوب” عالم المهمشين من كومبارس السينما، حيث تتجلى معاناتهم، وأحلامهم المهدورة، وأمانيهم التي تبدو مستحيلة.
وتوضح الكاتبة لـ”العرب” قائلة “قد يبدو هذا هو الخط الرئيسي للرواية، لكن خلف هذه القصة تكمن حكاية أعمق، هي حكاية كل من جرى تهميشه، في أروقة السينما، وكل زاوية من زوايا الوطن أو العالم، حيث تتشابه الوجوه وتتماهى الأحلام في ظل واقع لا يمنحهم سوى الفتات.”
وكذلك تفرض الإنسانية بضعفها وتناقضاتها نفسها على الكاتبة في رواية “حتما سوف يأتي” ومجموعاتها القصصية، وتشكل هاجسها الأكبر في الكتابة بصرف النظر عن القضية الأساسية التي يتناولها العمل، أو الحقبة الزمنية التي يدور في إطارها، أو طبيعة شخصيات تجسدها الأحداث، “إنها الإنسانية بمعنى القدرة على رؤية الذات في عيون الآخر، والاعتراف بأن الألم والمعاناة لغة مشتركة تتجاوز الحدود والأسماء.”
وتعتبر الفقي أن معظم أعمالها ينتمي إلى الأدب الإنساني أكثر من كونه أدبًا نسائيًا أو رجاليًا. وما يشغلها ليس تصنيف قصصها ضمن أدب “نسائي” أو “رجالي”، إنما جوهر القضية التي تطرحها، بغض النظر عن هوية الشخصيات. فبالنسبة إليها؛ الأدب هو مرآة الإنسان في كل حالاته، وتجربة إنسانية شاملة لا يمكن حصرها في جنس معين.
في روايتها “سنوات التيه”؛ رغم أن البطلة امرأة إلا أن الرواية لا تتمحور حول قضايا المرأة، بل تضيء على جوانب من الفساد الاجتماعي، مثل طبيب النساء والتوليد الذي يجري عمليات إجهاض ويعيد العذرية إلى الفتيات الساقطات، مبررًا ذلك بأنه يساعدهن على الستر، أو المحامي الذي يستغل سلطته للتحرش بأطفال الشوارع، وغيرهما من النماذج التي تعكس تآكل القيم الأخلاقية.
وكذلك في رواية “حتمًا سوف يأتي” يواجه البطل محنة تقلب حياته رأسًا على عقب، ما يدفعه إلى إعادة النظر في ذاته، وكأنه يراها للمرة الأولى بوضوح، ليعيد تقييم علاقاته ويفهمها بعمق أكبر.
وتنظر الأديبة المصرية إلى مصطلح الأدب النسائي أو النسوي باعتباره من المصطلحات المتداولة عالميًا، لكنه برز بشكل أوضح في العالم العربي خلال النصف الثاني من القرن العشرين، تزامنًا مع ظهور كاتبات بارزات مثل نوال السعداوي ولطيفة الزيات وأحلام مستغانمي، اللواتي ركزن على قضايا المرأة ومعاناتها في المجتمعات العربية.
وترى أن بعض النقاد يستخدم هذا المصطلح أحيانًا للتقليل من شأن الكاتبات أو التقليل من قيمة إبداعهن، ما يطرح تساؤلا جوهريا حول المقصود بالأدب النسائي أو النسوي؛ فهل هو الأدب المكتوب بأقلام النساء فقط، أم أنه الأدب الذي يعالج قضايا المرأة، بغض النظر عن جنس كاتبه؟
اتهامات للكاتبات
تعد العلاقة بن الخيال والحقيقة في الأدب من النقاط الشائكة، التي كثيرًا ما يتعرض الكُتاب بسببها إلى القدح فيهم أو التلصص على حيواتهم الشخصية، إذ يعتبر البعض أن الكاتب هو نفسه بالضرورة بطل قصته، ما يفتح الباب لسخافات تطال المبدعين، لاسيما عندما تكون الكاتبة امرأة.
لكن الفقي لا تعير اهتمامًا في هذا الصدد إلا للنقد البناء، ولا يشغلها تصنيف أعمالها أو وضعها في قوالب معينة، بل تترك الأمر للقارئ وحده ليحكم عليها ويتفاعل معها كما يشاء.
وترى أنه لا عيب في أن تستلهم الكاتبة أعمالها من تجاربها الشخصية، ما دامت قادرة على تحويل هذه التجارب إلى قضايا عامة تهم شريحة واسعة من الناس، وتتناولها بأسلوب احترافي وأدبي، يراعي أصول الكتابة الفنية، ويمنحها بعدًا إنسانيًا يتجاوز حدود الفرد إلى المجتمع بأسره.
وتقول لـ”العرب” إنه لا وجود للخيال الخالص في الحياة، فحتى أكثر الروايات الفانتازية والخيالية تظل مستندة، ولو بدرجة ما، إلى الواقع، فالإبداع الأدبي، مهما حلّق بعيدًا، إنما يستمد ملامحه من تجارب الإنسان ومشاعره وصراعاته، ليمنح الخيال بعدًا أكثر صدقًا وقوة.
وتعترف بأنه كثيرًا ما تُوجَّه لأيّ كاتبة تهمة الكتابة النسوية، إشارة إلى الالتفاف حول ذاتها والاتكاء على تجاربها الشخصية. غير أن هذا الاتهام ليس دقيقًا في رأيها، لأن الكاتبة، كأيّ كاتب، ليست معزولة عن مجتمعها، إنما هي جزء منه، بل تعتبر نصف المجتمع. وإذا عبّرت عن قضايا المرأة، فهي في الحقيقة تعبر عن قضايا المجتمع ككل، لأن شؤون المرأة ليست منعزلة عن السياق الاجتماعي الأوسع.
حصلت الفقي على جوائز أدبية عدة، تمثلت في جائزة واحة الأدب للكويت للقصة القصيرة عام 2018 عن قصة “لا وقت للحزن”، وجائزة إحسان عبدالقدوس لأفضل رواية عام 2020 عن رواية “يا شمس أيوب”، وجائزة المركز الأول في القصة القصيرة من منتدى الجياد الأردني للتنمية والثقافة بالأردن عام 2022، وهي تشغل في الوقت نفسه عضوية لجنة الجوائز باتحاد كتاب مصر.
وحول الجدل الدائم المصاحب للإعلان عن أيّ جائزة في مجال الأدب ومدى نزاهتها، توضح أن لجنة الجوائز في اتحاد الكتاب هي الجهة المسؤولة عن الإعلان عن المسابقات، واختيار لجان التحكيم، وإعلان النتائج بعد الاطلاع على تقارير المحكّمين. ومن ثم، فإن دورها يقتصر على الإجراءات التنظيمية، دون أيّ تدخل في تقييم الأعمال الأدبية أو التأثير على قرارات المحكمين.
وتتابع أنه يتم اختيار لجان التحكيم بعناية وبعد تمحيص، حرصًا على النزاهة والموضوعية. لكنها تساءلت في الوقت ذاته قائلة “هل هذا يكفي للجزم بعدم وجود شبهات مجاملة أو تربيطات في منح الجوائز، على المستوى العالمي أو في الجوائز العربية الكبرى أو الجوائز المصرية؟”
ترد مؤكدة أن الادعاء بذلك قد يكون إنكارًا للواقع الذي يدركه الكثيرون. ومع ذلك، تبقى هذه الحالات استثناءً لا يمكن تعميمه على جميع الفائزين أو على كل المسابقات، كما لا يجوز التشكيك في نزاهة المحكمين إلا إذا ثبتت وقائع محددة تستدعي ذلك.
ويبقى أن النقطة الفاصلة في القضية هي ما أشارت إليه شاهيناز الفقي من أن تقييم الأعمال الأدبية يعتمد، إلى حد كبير، على ذائقة المحكمين وتوجهاتهم الفكرية ورؤاهم النقدية، إلى جانب المقومات الفنية للعمل نفسه.
وأوضحت أنه في بعض الأحيان تلعب الانطباعات الشخصية دورًا في التقييم، مما يجعل العملية محكومة بمزيج من المعايير الموضوعية والرؤى الذاتية، لكن تظل الجوائز حافزًا مهمًا للمبدعين، ويبقى التكريم دافعًا للاستمرار والتطوير، مما يسهم في إثراء المشهد الثقافي والإبداعي.