سردية الواقع والتاريخ تنصف الدراما التونسية في رمضان

رغم تفاوت قيمة الأعمال الدرامية التونسية في الموسم الرمضاني هذا العام، فإن هناك ما يشبه الإجماع على تحسن في المسلسلات التونسية، لا تقنيا وأدائيا فحسب، بل في القضايا المطروحة، والتي حملت في طياتها هواجس التونسيين وعالجت قضاياهم الحاضرة والماضية بأساليب مختلفة.
تقف الدراما التونسية مع كل موسم رمضاني عند حدود المنتهى والمراد من تطلعات المتابع الشغوف بالأعمال الجديدة التي يتمنى أن تلامس واقعه وتحيط بمشاغله وأن يجد حضوره فيها، على الأقل من باب الفرجة. هُناك أيْنَ يتحلّق “التوانسة” أمام الشاشة الصغيرة ويهمس كل واحد منهم في أذن الآخر متكهّنا بأن هذا العمل محبوك ببراعة وسيشدّ الأنظار إليه في رمضان هذا العام.
في الأثناء يهيم آخرون ببعض الأعمال الدرامية المأخوذة من الذاكرة القصيرة والتي تفنّن فيها مبدعوها واستطاعت حرفيتهم أن تأخذهم إلى عوالم أخرى من خيال التونسي المتمسك بجذوره وأصالته، بأن يكونوا بدورهم حاضرين طيلة الموسم الرمضاني بالتكرار والإعادة بلا كلل أو ملل.
مصالحة الجمهور
لأن التونسيين عاشوا ويعيشون على وقع الأعمال القديمة التي حرّكت سواكنهم ودغدغت مشاعرهم طيلة مواسم غابرة، فإنك تجدهم مع حلول كل موسم رمضاني يمنون النفس بأن يعود مخرجو الأعمال الدرامية الجديدة بالذاكرة إلى تلك الفترات، ويحاولوا اختزال الصورة في ما اشتهاه هؤلاء ورغبوا وطمعوا في أشياء تعالج الكامن فيهم وتخرجه للناس ليتناقشوا فيه ويبدوا آراءهم حوله.
ولأننا في عصر طغت عليه التقنيات التكنولوجية الحديثة وأبرزها تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي بصورها المنمّقة وجودتها العالية وباختبارات تجريبية كثيرة قبل البثّ الأخير، فإن الهالة الإعلامية تركز كل موسم على ما بحثت عنه كاميرات هؤلاء المخرجين لتصل إلى مبتغى الجمهور الواسع ومراده.
كالعادة ومع كل موسم رمضاني تتزايد التكهنات والمراهنات بانتظار هذا العمل أو ذاك ممن استطاع بكفاءة مخرجه وحبكة نصه والأهم الأداء البارع لممثليه ليكون الحُكم في النهاية للمشاهد النهم، الذي لا يسدّ رمقه إلا ما كان ذا أهمية ويمس واقعه ويحرّك مشاعره سلبا أو إيجابا.
بين أزمان متفاوتة تتدخل ملكة النقد لتحكم على هذه الأعمال بالسلب أو الإيجاب، لتتيح لهذا الكاتب أو ذاك أن يكون نصه في مستوى الممكن والمأمول، ولهذا المخرج أن تجول كاميراته بين الأمكنة الطبيعية الخلابة والوجوه الشابة التي يتم استقطابها لأداء المهمة لتتوّج هذا العمل بأن يكون هادفا ويصل إلى عمق المشاهدين.
◙ المسلسلات الرمضانية قدّمت صورة قريبة لما استأنس به التونسيون، ألا وهو دراما الواقع التونسي بتجلياته وقضاياه
الموسم الرمضاني 2025 على خلاف المواسم الرمضانية القليلة الماضية تمكّن من مصالحة التونسيين مع شاشتهم الصغيرة، على الأقل هذا ما استشفه الكثيرون لجهة عدد الأعمال المعروضة والقيمة الفنية للمخرجين الذين تجولوا بعدساتهم في ربوع تونس من شمالها إلى جنوبها، ومنهم من عاد بالذاكرة إلى حقب زمنية غابرة وحاول النبش في قضايا واقعية رأى أنها الأقرب إلى قلوب الناس و”شهواتهم الفنية”.
الأعمال الدرامية التي عرضت هذا العام تعتبر مقبولة في مجملها بشهادة كبار الممثلين والنقاد في المجال، الذين اتفقوا على كون هذا الموسم يعتبر الأغنى، أين بدا الحصاد أوفر حظا والحصيلة معتبرة بإنتاج خمسة مسلسلات مقارنة بثلاثة في الموسم الدرامي الماضي.
قد تنطلق الأعمال الدرامية من حيث ينتهي المنطق وقد تكون بدايتها أيضا من الحد الفاصل الذي رسمه لها الخيال، لكنها حتما تملك الشجاعة لطرح العديد من الأسئلة المحرّضة على تفكيك الواقع واستنطاقه من أجل الخروج بأجوبة فاعلة تنمّ في النهاية عن حلول مركزة على واقع “التوانسة” وهواجسهم.
الموسم الرمضاني لهذا العام كان غنيّا من حيث الإنتاج وغزارة المحتوى الدرامي وكثافته مقارنة بالأعوام القليلة الماضية، ويُحسب للقناة التلفزيونية الأولى (الوطنية 1) بأن نالت نصيب الأسد من حيث عدد الأعمال المعروضة، حيث تم عرض عملين دراميين هما “وادي الباي” و”الرافل” مناصفة طيلة شهر رمضان، فيما اكتفت القنوات الثلاث الخاصة الأخرى بعرض مسلسل وحيد وهو “رقوج 2″ (الكنز) على قناة نسمة (خاصة) و”الفتنة” على الحوار التونسي (خاصة) و”الزعيم” على “تلفزة تي في” (خاصة).
وبالعودة إلى مجمل الأعمال المعروضة نجدها تحفر في خانة الدراما النقدية الفاعلة، اشتهاء بتخمينات كتاب السيناريو وما آلت إليه آلية البحث والنبش في الذاكرة والواقع ورغبة في ما يتطلع إليه جمهور واسع من المشاهدين الذين أثنى الكثير منهم على جودة الأعمال دون أن يغفلوا الاجتهاد في نقدها والوقوف عند رؤية أن الدراما الرمضانية ما زالت تَحيدُ عن القيام بدورها الإيجابي ألا وهو تجميع العائلة الموسّعة حولها.
أعمال حققت النجاح
عاد “وادي الباي” بجمهوره إلى فترة زمنية مهمة ومفصلية من تاريخ تونس (ثلاثينات القرن الماضي)، حيث يتحدث المسلسل في إطار اجتماعي وتاريخي عن عمال المناجم وداموس الفسفاط بالمظيلة والتحركات النقابية بقفصة زمن الفترة الاستعمارية وما خلّفته من مشاغل وحوادث لا يزال الكتاب والمخرجون يبحثون عن تفصيلها وتقريبها للناس.
في تعامل ثان مع المخرج ربيع التكالي بعد مسلسل “الجبل الأحمر” سنة 2023 حاول مسلسل “الرافل” اقتفاء أثر أحداث اجتماعية وسياسية في إطار دراما اجتماعية وتاريخية. و”الرافل” مسلسل مستوحى من قصة حقيقية تدور أحداثها حول شخصية “رعد” الذي ولد بجزيرة جالطة، في الأثناء يفقد والديه على يد المافيا الإيطالية، الأمر الذي استوجب نقله إلى دار للأيتام حيث قضى طفولته فيها.
أما المسلسل الثالث فيعتبر تكملة لجزء أول كان قد عرض في الموسم الرمضاني الماضي، وبعد أن حقق الجزء الأول من مسلسل “رقوج” (المرمة) نسب مشاهدة عالية وشعبية كبيرة داخل العائلات التونسية حاول مخرجه الشاب عبدالحميد بوشناق تقديم جزء ثان تحت مسمى “رقوج” (الكنز) وبدا أنه شد جمهورا واسعا إليه.
في عمل جديد للمخرجة التونسية سوسن الجمني التي تمكنت من أن تفرض مكانا لها للمنافسة في مشهد يتميز بسيطرة الرجال على مستوى إخراج الأعمال الدرامية، وبعد مسلسل “فلوجة 2” في رمضان الماضي، لم تحد عدسة الجمني عن النبش في قضايا اجتماعية معقدة وعلاقات إنسانية متشابكة تتقاطع مع الواقع وتتشابه في بعض وجوهها مع المجتمع التونسي.
تحت شعار “عمل عائلي ومشروع تربوي وثقافي” دخل مسلسل “الزعيم” السباق الرمضاني على القناة الخاصة “تلفزة تي في” على امتداد 15 حلقة وتمحورت أحداثه حول حي شعبي تحكم شخصياته الرئيسية ثنائيات أزلية وقدرية على غرار الخير والشر، التسامح والانتقام، الوفاء والغدر.
ما يُحسب لدراما رمضان المنقضي كونها تمكنت، ولو على مضض، من شدّ نسب متفاوتة من التونسيين إليها بشخصيات طغى عليها أسلوب النقد الهزلي الهادف لعدة ظواهر اجتماعية لا تغيب عن واقع “التوانسة” وهواجسهم.
تفاعل التونسيون كثيرا مع شخصيات برزت وتركت أثرها في الموسم الرمضاني مثل صابر الوسلاتي في شخصية “الديناري” في مسلسل “رقوج 2” (الكنز) فيما أخذ بعضهم الآخر سحر اللهجة الجنوبية لشخصيات مثل سوسن معالج في دور “فالحة” ويسرا المسعودي بدور “شيحة” ووجيهة الجندوبي بدور “تايڨة” في “وادي الباي” أين تفنّن عمالقة الدراما التونسية في أداء الدور الموكول لهم على أكمل وجه ضمن مواقع أثرية بحاضرة مدينة قفصة (الأحواض الرومانية) تثمّن التراث وتستلهم من رواسب الماضي خدمة للحاضر بمشاغله المتفاقمة.
شدّت شخصية “الديناري” المشاهدين في “رقوج 2” بقوة. برع الممثل صابر الوسلاتي في تقمّص الدور وأخذ المخرج الشاب عبدالحميد بوشناق “التوانسة” إلى عوالم الإدارة التونسية ليفضح العديد من السلوكيات الواقعية والظواهر مثل الفساد والرشاوى والمحسوبية التي ثار من أجلها التونسيون وانتفضوا ولا تزال الدولة تشّ حربا ضد الضالعين فيها والقضاء يبتّ في قضايا لمن يثبت تورطهم.
الفساد في الإدارة التونسية تعكسه شخصية “الديناري” رئيس بلدية “رقوج 1” بجشعه ونفوذه والذي فعل كل شيء تقريبا من أجل تحقيق مآربه الشخصية ونزواته ومصلحته الذاتية، بدءا من التزوير والتلاعب بالوثائق، وصولا إلى التحيّل واستغلال النفوذ وكل ذلك من أجل شيء واحد ألا وهو “Je mange.. tu mange” (أنا آكل.. أنت تأكل) مثلما عبّر عن ذلك الوسلاتي بطريقة هزلية حفّزت جمهورا واسعا على متابعته في الجزء الثاني هذا الموسم “رقوج الكنز”.
في الأثناء سار أبطال مسلسل “فتنة” في خط مواز يهتم بقضايا واقعية ويبحث عميقا في مشكلة الميراث والعنف ضد المرأة بعد رحيل الأب. ثلة من أبرز الوجوه الدرامية التونسية (محمد مراد، ريم الرياحي، محمد علي بن جمعة، نجيب بلقاضي، نجلاء بن عبدالله…) سافروا بـ”التوانسة” بعيدا وأبدعوا في التعبير عن هموم المكلومين ممن يعايشون مثل هذه المشاكل يوميا وتدغدغ مشاعرهم وأهواءهم آثارها.
قدّمت الأعمال الدرامية الرمضانية صورة قريبة لما استأنس به التونسيون وألفوه طيلة مواسم غابرة، ألا وهي دراما الواقع التونسي بتجلياته وثراء أمكنته وتعدد قضاياه التي يمكن الغوص فيها وإخراجها للناس رغم التقدم في العمر الذي لم يمنع بعض النجوم من تأدية رسالتهم على أكمل وجه.