انحدار الدينار يزيد من تعميق الانقسام السياسي بين غرب ليبيا وشرقها

أثار خفض سعر الدينار جدلا سياسيا وشعبيا واسعا داخل الأوساط الليبية، وعمّق الخلافات بين حكومة الوحدة الوطنية في طرابلس (غرب) والحكومة الموازية في بنغازي (شرق) وسط تبادل الاتهامات بتحمّل مسؤولية الأزمة.
أدت الأزمة المالية في ليبيا إلى تعميق حالة الانقسام السياسي في البلاد، وفتح قرار مصرف ليبيا المركزي بخفض سعر صرف الدينار الليبي أمام العملات الأجنبية، الباب أمام السجال الحاد وتبادل الاتهامات بين الفرقاء الأساسيين والحكومتين المتنافستين على حكم البلاد، حيث يسعى كل طرف إلى تحميل الطرف المقابل مسؤولية الوضع المتردي الذي أصبحت عليه المالية العامة في البلد الثري الغارق في مستنقع أزمته المتفاقمة منذ 14 عاما.
وقال المجلس الرئاسي في بيان الاثنين إن الإنفاق المزدوج خلق وضعا ماليا واقتصاديا غير مسبوق تصعب إدارته بالأدوات المتاحة، مشاطرا المصرف المركزي في تشخيصه حالة الإنفاق.
وبعد أن أعرب عن قلقه البالغ بشأن التطورات المالية والنقدية حمّل المجلس الإدارة السابقة للمصرف جزءا من المسؤولية، لمساعدتها في خلق إنفاق حكومي غير منضبط، وفق البيان، مشيرا إلى رفضها مقترح إعداد ترتيبات مالية طارئة لعام 2021، وإساءتها استخدام الاستثناء المالي 12/1 لتبرير تجاوزات الإنفاق.
وتابع المجلس أن الإدارة السابقة مولت الحكومتين مباشرة بمعزل عن اللجنة المالية العليا التي أنشئت، ما أدى إلى تهميش دورها، مردفا أن الإدارة الحالية لمصرف ليبيا المركزي لا تتحمل قانونيا أو ماليا تبعات الانقسام الهيكلي في المالية العامة ومنظومة الدفع الحكومي، كما أعلن رفضه اعتبار تخفيض قيمة العملة حلا للأزمة المالية، وأكد أنه سيفاقم المشكلة بزيادة الإنفاق الحكومي والطلب على العملة الصعبة، وجدد دعوة مجلسي النواب والدولة إلى التوافق على ميزانية عامة موحدة، أو إعادة تفعيل اللجنة المالية العليا كإطار مؤقت وعاجل، باعتبارها إطارا ماليا تفاهميا مؤقتا نتج عن حوار وطني جاد أيدته القرارات الدولية وعلى رأسها مجلس الأمن، داعيا الإدارة الحالية للمصرف المركزي إلى العمل المشترك للحفاظ على قيمة دخل المواطن والالتزام بالاستحقاقات الوطنية والدولية.
ويرى المراقبون أن بيان المجلس الرئاسي جاء انعكاسا واضحا لحالة العجز التي يعاني منها ولفشل مقترحاته السابقة بخصوص اللجنة المالية، وحاول من خلاله البحث عن مبررات للقرار الذي أقدم عليه في أغسطس الماضي بعزل محافظ المصرف الصديق الكبير ومجلس الإدارة والدفع نحو تعيين قيادة جديدة في ظل الصراع القائم بين الأطراف المتنازعة على تقاسم الغنيمة بما فيها غنيمة القرار وتوزيع الاعتمادات بالمصرف المركزي.
ومن جانبه قال رئيس حكومة الوحدة الوطنية المنتهية ولايتها، عبدالحميد الدبيبة، إن الإنفاق الموازي سيدفع المواطن ثمنه من جيبه لأنه يضعف الدينار ويشعل الأسعار.
وأضاف أن التأكيد جاء لأول مرة من المصرف، بأن 59 مليار دينار (10.65 مليار دولار) صُرفت خارج الترتيبات المالية للدولة دون رقابة ولا مرور على وزارة التخطيط، واصفا هذا المبلغ بالضخم، ومشيرا إلى أن لا دخل له في رواتب، ولا دواء، ولا غذاء، ولا كهرباء، بل صرف بشكل غير قانوني.
وأشار الدبيبة إلى أن المبلغ الذي صرف يُعادل 5 مرات ما أنفقته الحكومة فعليا على المشروعات التنموية في كل ليبيا، والذي لم يتجاوز 12 مليار دينار، لافتا إلى أن الخطورة تكمن في استخدام هذه الأموال لشراء الدولار من السوق الموازية لتغطية مصروفات غير معلنة، ما يرفع سعر الصرف ويُضعف الدينار، ويدفع المواطن الثمن كل يوم في السوق.
كما وصف الدبيبة هذه الإجراءات بالعبث المالي الذي انعكس على كل بيت ليبي كعجز في النقد الأجنبي، وتآكل احتياطيات الدولة، وضغط على الدينار، وغلاء في الأسواق.
متابعون للشأن الليبي يقولون إن كل الأطراف الفاعلة حاولت التملص من مسؤولياتها في ما وصلت إليه البلاد
وبحسب متابعين للشأن الليبي، فإن كل الأطراف الفاعلة حاولت التملص من مسؤولياتها في ما وصلت إليه البلاد، بينما يستمر العبث غير المسبوق بالمال العام من خلال عمليات النهب الممنهج وتقاسم الإيرادات بشكل يخلو تماما من الشفافية وينحو إلى التوافق غير المعلن بين القوى المسيطرة سياسيا وميدانيا على نهب المال العام وتهريب مبالغ ضخمة إلى الخارج.
وعبر رئيس مجلس الدولة محمد تكالة عن قلق بالغ واستنكار شديد للوضع الاقتصادي والمالي المتدهور في البلاد، محملا مصرف ليبيا المركزي المسؤولية المباشرة عن التوسع غير المنضبط في الإنفاق العام وما وصفه بـالفوضى المالية.
وشدد تكالة، المعروف بموالاته للدبيبة، في بيانه على أن تمكين “الحكومة الموازية في شرق البلاد” -التي وصفها بأنها “كيان غير شرعي” لا يحظى بأي اعتراف- من الوصول إلى الموارد العامة والصرف منها، يعد مخالفة صارخة للقوانين واللوائح المالية وانتهاكا خطيرا للقانون المالي للدولة الذي يوجب الصرف وفق ميزانية معتمدة وتفويض قانوني، وحمّل مصرف ليبيا المركزي المسؤولية المباشرة عن هذا التوسع في الإنفاق، بما في ذلك “تمويل جهات غير شرعية خارجة عن إطار الدولة الرسمية والمعترف بها،” وطالب بضرورة إجراء “إعادة هيكلة شاملة للسياسة النقدية والمالية للدولة،” تقوم على أسس الشفافية والالتزام الصارم بالقانون المالي، والتعامل الحصري مع الجهات الشرعية الخاضعة للرقابة والمحاسبة. وأكد أن مجلس الدولة “لن يقف موقف المتفرج إزاء العبث بمقدرات الليبيين،” متوعدا بمساءلة كل من يثبت تورطه في استخدام المال العام لأغراض سياسية أو ولاءات غير وطنية.
وفي نفس السياق أعربت كتلة التوافق الوطني بمجلس الدولة عن استنكارها لقرار إدارة مصرف ليبيا المركزي بتخفيض سعر صرف الدينار الليبي، واعتبرته انعكاسا للفساد وسوء التصرف الذي تعاني منه البلاد على المستويين السياسي والاقتصادي، وهدد بالمزيد من الانهيار في كيان الدولة ومؤسساتها، مشيرة إلى أن الأرقام والبيانات الرسمية للمصرف المركزي تعد دليلاً على تدهور الأوضاع في البلاد، وأن التوسع في الإنفاق الحكومي دون رقابة أو تشريع واضح يعبر عن اعتداء على ثروات الشعب الليبي، ولفتت إلى أن “ارتفاع سعر الصرف هو بمثابة عقوبة للشعب الليبي نتيجة فساد المنظومة الحاكمة في غرب وشرق البلاد،” ما يعرضها لخطر الإفلاس واندلاع “ثورة الجياع”.
وطالب عضو مجلس الدولة الذي لا يزال ينازع على رئاسته خالد المشري بضرورة التركيز على تخفيض الإنفاق الحكومي، واعتماد ميزانية موحدة تُقلل من هدر المال العام. ورأى أن المشكلة الحقيقية تكمن في الانقسام السياسي وانقسام المؤسسات السيادية والحكومات، وليس في تغيير المحافظ أو مجلس إدارة مصرف ليبيا المركزي من عدمه، داعيا رئيس مجلس النواب إلى برمجة لقاء عاجل بحضور محافظ مصرف ليبيا المركزي لبحث سبل وضع آليات تفضي إلى اجتراح حلول سريعة وبديلة للتخفيف من وطأة هذه الأزمة.