سميرة حاج جيلالي منتجة في قلب العواصف والحروب

امرأة لم تثنها دهاليز الثقافة والإعلام عن تحقيق طموحاتها.
الجمعة 2025/04/04
مقاومة قوية اقتحمت عالم الذكور

يظن البعض أن الثقافة والفنون بمعزل عن السياسة والإدارة، وهو ظن خاطئ، إذ العلاقة بين تلك المجالات وثيقة ومهمة، رغم الاختلاف بينها. المنتجة السينمائية الجزائرية سميرة حاج جيلالي خير مثال على ذلك، وهي تتنقل من عالم السياسة إلى الفن السابع، بينما تخوض صراعاتها القوية كامرأة في عالم ذكوري.

في الصراعات هناك دائما من يثير غبارها وشرارتها، كيانا كان أو دولا أو جماعات، يخطط لها في الخفاء والعلن، ظاهرا وباطنا، وقلة من يمكنهم كشف حقائقها. من هؤلاء سميرة حاج جيلالي، المنتجة وسيدة الأعمال، أصيلة تبسة مدينة الشهداء المقاومة والثورة والنضال ضد الاستعمار الفرنسي. ومثلما قال لي صديق مقرب منها عندما أسأله عن أخبارها فيقول لي: عندما تتحرك سميرة تتحرك معها الزوابع.

البروز الشائك

سميرة حاج جيلالي ابنة عائلة كبيرة ثورية دفعت منها شهداء ومجاهدين ورجال دولة، صاحبة كاريزما نادرة، خليط من القوة والفاعلية، المواجهة والنباهة، جمعت بين السياسة، الإعلام والثقافة والفن، والبزنس، تركت الرياضيات التي كانت تتقنها وفضلت دراسة الأدب، وكان الدافع الوحيد هوسها بالتاريخ وتفاصيله وخفاياه، تنبأ لها والدها بمستقبل وشأن في عوالم السياسة، وهو ما تمّ، حيث انخرطت فيها للذقن حتى طحنتها، وأعطتها تلك الروح المقاتلة التي لا تعرف الاستسلام والخنوع، وما زالت هذه الأخيرة نابضة فيها بل أكثر حدة وحزما وحركية وخطورة.

أسست حاج جيلالي لنفسها مسارا معقدا ومتشعبا في دواليب النظام، منذ أن انضمت مع خيرة العقول التي درست معها إلى جهاز المخابرات، ليس بصفة نظامية، بل استدعيوا لكفاءاتهم العالية وقدرتهم النافذة على التحليل والاستشراف، وهي طفرة استثنائية في مسارها كما صرحت مؤخرا، انتظمت مع هؤلاء في صف واحد من أجل التكامل والتضافر، والبحث عن وسائل وطرق لتحسين وضع البلاد التي كانت على طريق الازدهار والنمو، كان أمر الاستدعاء مفاجئا في البداية، لأن المعروف عن هذا الجهاز عوالمه الغامضة والسرية، وانغلاقه على نفسه حتى أنه يوصف بالمخيف، ولم يكن يخطر في بالها وهي في تلك السن، حوالي 23 سنة، أن تخطو نحوه، وتلتقي هناك بخيرة ضباطه الذين ساهموا في بنائه والرفع من مستواه في ظل تحديات صعبة وخطيرة.

شكلت أحداث كثيرة منعطفات غيّرت الكثير من حياتها، إضرابات ومظاهرات واسعة كانت تتقدم صفوفها، تتذكر منها خاصة قصف الولايات المتحدة الأميركية لليبيا عام 1986، مشاركتها في أحداث أكتوبر 1988، مجموعة الثلاثين الذين فككوا دستور 1989، والذي فتح الباب واسعا للتعددية الحزبية، وتتذكر جيدا نجاحها في امتحان العلوم السياسية، وهو الفيصل الذي بصمها ورافقها إلى الآن، وعندما تجاوزت الامتحان النظري بسلاسة.

سميرة حاج جيلالي ابنة عائلة كبيرة ثورية دفعت منها شهداء ومجاهدين ورجال دولة، صاحبة كاريزما نادرة، خليط من القوة والفاعلية، المواجهة والنباهة

بقي أخطر سؤال واجهته لكي تستمر، هو سؤال “من يحكم في الجزائر؟” سؤال طرحه عليها الأستاذ في تلك الفترة شفيق مصباح، الضابط سابقا في الأمن العسكري، ومستشار الرئيس تبون حاليا، وكان جوابها، دون مواربة أو لف ودوران، هو “الجيش”، وهو نفس الرأي الذي أشار إليه وزير الثقافة والإعلام سابقا حمرواي حبيب شوقي، الذي عملت تحت سلطته عندما كُلف بالتحضير الإعلامي لترشح الرئيس الراحل عبدالعزيز بوتفليقة في سنة 1997، وكانت سميرة جزءا من خلية الاتصال الخاصة بهذا الأخير، حين سألته متى سيبدأون العمل، فقال لها بضرورة الانتظار حتى “يطلع الدخان من طاغارا”، مقر وزارة الدفاع الوطني.

هذه قناعة آمنت بها دائما، وهي تخوض معترك الحياة، وهي أيضا قناعة الكثيرين من أمثالها، ممن يرون في هذه الهيئة قوام الدولة والنظام وعمودها الفقري، ولا يخطر ببالهم أن يخرج أي رئيس دون ضوئها الأخضر، ولا يمكن أن تسقط أو تهتز، مهما كان حجم التحديات مؤلما.

حفرت تلك المحطات معاني عميقة في مسار حياتها، ومنحتها العديد من الامتيازات والفرص والمعارف التي كثفت خبرتها ووسعت آفاق تعلمها، لم تكن تدرك حجم ما كانت مقبلة عليه، حتى وهي تلج ثكنة الأمن العسكري، التسمية الأشهر لجهاز المخابرات، رفقة 12 فردا منهم 5 نساء، لم يراودها الخوف أو الخشية، بل استيقظت بداخلها عوالم الغموض والغرابة، وهي عوالم مثيرة ومدهشة كما في الأفلام التي لطالما حلمت بإنجازها.

برزت سميرة كمحللة إستراتيجية في المجال الإعلامي الذي تخصصت فيه، حيث كُلفت بقراءة وتلخيص وتحليل ما يُنشر في الصحف العالمية عن الجزائر والمغرب العربي، بالإضافة إلى إعداد الكثير من الدراسات والقراءات عن الأوضاع المحلية والعالمية.

سميرة حاج جيلالي اقتحمت عالم السينما وأهواله وأمواجه، وذكوريته الفجة، فكت حصاراته بمجرد أن وضعت قدمها فيه

كل هذه الخبرة الواسعة، أهلتها لتكون ضمن دفعة قررت القيادة العسكرية إرسالها إلى الخارج، للتكوين والدراسة والتدريب لتعميق المعارف والعلوم، وحتى فرص إعداد رسائل الدكتوراه، غير أن هذه المغامرة توقفت بعدما تمّ إنهاء مهام المشرف عليهم وتحويله إلى مهام أخرى، وهكذا خيّرت الدفعة بين العودة إلى البلاد أو الاستقالة، وهنا استيقظت فيها من جديد روح الواقعية والتمرد، ففضلت الاستقالة والتفرغ لحياتها الخاصة.

تلتقي سميرة مع حياتها العلمية من جديد، أكملت دراستها في إسبانيا كباحثة متخصصة في السياسة السوسيولوجية، قبل أن تعود إلى الجزائر مسؤولة في دواليب النظام في واحدة من الأهم المديريات ألا وهي الإعلام داخل وزارة الثقافة والإعلام (التسمية القديمة لوزارة الثقافة والفنون حاليا)، والملحقة بمصالح حكومة أحمد أويحي آنذاك.

أدارتها باقدار كبير، خاصة أن تلك الفترة شهدت فيها الجزائر موجة إرهاب قاتلة ومدمرة مزقت الدولة والمجتمع، كان عليها أن تتصلب وتتقوى، وتضع قلبها وروحها وعقلها في مياه باردة للتعامل مع ما يرد إلى مكتبها من أخبار مروعة عن المجازر والتفجيرات والمآسي والآلام، وسقوط الصحافيين بالعشرات تحت أزيز الرصاص والغدر.

لم تكن المهمة سهلة، كان عليها أن تنظم وترتب وتقترح، وتفاوض أفضل الإعلاميين، سواء كانوا جزائريين أو عربا أو أجانب، وتهيئة الأرضية لوضع وبلورة خطط ورؤى وأفكار ومواقف، خاصة مع تدهور خطير للوضع الأمني الذي زاد عليه تشويه بعض الأطراف لما حدث فعلا في الجزائر، والذي أدى إلى ظهور أشهر سؤال ظل يسكن مخيال الإعلام العالمي، وهو: من يقتل من؟

حاولت أن تضبط مسار الإعلام بما يتماشى والبرهة القاتلة، حيث لم يكن الإعلام الرسمي مهيكلا بشكل علمي ودقيق وناجع، وعملت مع أهم الكوادر من أجل حلّ شبكة العزلات التي أحكمت حبالها الغليظة على عنق الجزائر، مما فاقم من المشكلات الاقتصادية والاجتماعية والعسكرية والإعلامية، كانت تسعى لوضع منظور إستراتيجي يبدأ خاصة من الإعلام، فأسست المركز الدولي للصحافة، وأوكلت له هذه المهام، واليوم، تتأسف لأنه حاد عن الأهداف التي أُسس من أجلها وأصبح مجرد مصلحة تقنية بحتة.

الصدامات وشغف السينما

المنتجة تركت الرياضيات التي كانت تتقنها وفضلت دراسة الأدب وكان الدافع الوحيد هوسها بالتاريخ وتفاصيله وخفاياه

لا تخفي مواقفها، الصدامية في الكثير من الأحيان، ولا يضرها أن تسأل بحرقة كيف تحول الإعلام سواء الرسمي أو الخاص، إلى مجرد هيكل قائم على ردود أفعال، أكثر منه إعلاما مقداما، ومتحررا من الأوهام والزيف، ومفعما بنظرية المؤامرت، وهو تحول يتناقض مع الفترة التي عاشها في بداية التعددية الإعلامية، وصولا إلى مرحلة نكوصه، وتقهقر الكثير من المكاسب التي ازدهرت، حيث كانت الجزائر سبّاقة ونموذجا يحتذى به في الممارسة الإعلامية بقوته وتأثيره.

في رأيها، تكمن المسألة في نوعية الرجال الذين يقفون وراءه، لقد عملت مع العديد من الوزراء الذين تعاقبوا على إدارة الثقافة والإعلام، ولكل منهم نظرته وأفقه الخاص، هناك وزراء يستمعون ويقرأون التقارير التي تكتبها، ويأخذون برؤيتها، كالوزيرين حمرواي حبيب شوقي، أو مع الرئيس عبدالمجيد تبون الذي تولى الوزارة لفترة قصيرة، هذا الأخير كلفها شخصيا بملفين شائكين، ملف زيارة الوفد الإعلامي الجزائري إلى إسرائيل، التي أحدثت زلزالا داخل الرأي العام المحلي والدولي، وأثارت الكثير من الغبار والضجيج، ومن المثير للاهتمام أن أحد الذين نسقوا الزيارة وفقا للعديد من التقارير متواجد اليوم بلحمه وشحمه في رئاسة الجمهورية مكلفا بمهمة، وفي هذا مفارقة لا أحد يفهم تفاصيلها، والملف الثاني هو زيارة المغني اليهودي الأصل القسنطيني المولد أنريكو مسياس، لم تكشف ماذا فعلت؟ وما هو مآل متابعتها للأمر؟

ربما سيكون هذا إحدى معاركها القادمة حين تميط اللثام عن الكثير من الملفات الشائكة التي تعاملت معها، بعضها عرّضها لمشاكل صحية وهي تواجهها، والأخرى أوصلتها إلى تهديدات بالقتل من قوى غامضة، كما هو الحال عندما أشرفت على الكثير من الأمور المتعلقة بقناة “الخليفة”، التابعة لمجمع يحمل نفس اللقب لصاحبه عبدالمومن خليفة القابع اليوم في السجن منذ سنوات، وهو مجمع شهد حروبا وصراعات، وفضائح وصفها الإعلام الجزائري والعالمي بـ”فضيحة القرن”، والتي لم تسطع ظلالها الغامضة بعدُ أو تنكشف أسرارها المخفية في دهاليز المحاكم وفي قلوب صانعيها، دون أن ننسى إشرافها الإعلامي على حملة الشاعر عزالدين ميهوبي المرشح لرئاسيات 2019 والمنافس لتبون، المهمة التي لا تزال غامضة عن خلفيات اختيارها له.

حياة سميرة حاج جيلالي سارت وهي تكافح وتقاوم وتضرب وتنجح وتخفق، في وسط بطريركي لا يؤمن بحضور المرأة في مجالات يعتقد أنه السيد فيها

هكذا بوعي مرير وفطن، سارت حياة المنتجة وسيدة الأعمال سميرة حاج جيلالي، وهي تكافح وتقاوم وتضرب وتنجح وتخفق وتغضب وتقول كلمتها عاليا، في وسط بطريركي لا يؤمن بحضور المرأة في مجالات يعتقد أنه السيد فيها، أو أنه مالكها ولا أحد غيره.

بعد كل هذه المسيرة التي كشفت عن بعضها مؤخرا في لقاء إعلامي لبق وصريح وغير متحفظ في الكثير من رسائله المشفرة، اقتحمت عالم السينما وأهواله وأمواجه، وذكوريته الفجة، فكت حصاراته بمجرد أن وضعت قدمها فيه، أطلق عليها النار والرصاص والسهام، لكنها تصدت لها بصدر رحب، وسقط كل هذا في ميدان العمل والجهد، والإيمان بأنها تفعل هذا من أجل المجد والفخر بكونها امرأة تصطف خلفها نضالات طويلة، قادتها نساء خرجن من قوقعة الهامش إلى فضاء الثورة وعدم الاستسلام لموجات القهر والظلم والاحتقار والنظرة الدونية، وفي هذا تمثلت كفاح المجاهدات والرائدات الأوائل في كافة المجالات.

كانت السينما بالنسبة إليها شغفا مؤجلا إلى حين، تطل عليها بين الفينة والأخرى وهي في معمع تلك المسؤوليات الثقيلة التي أنيطت بها، وتحملتها بعزم وإرادة، وفي رأسها خدمة البلاد ومصلحتها العليا بما تملكه من رصيد هائل من الخبرة تجمعت بين يديها، صارت فيما بعد زادها ومصيرا حقيقيا ومستقبلا، وهي ترفع “لامبة” الإنتاج السينمائي، تنهل من منبع الصلابة والحيوية والقوة التي حاول خفافيش الظلام امتصاصها منها، نجحوا في ذلك إلى حين، ووجدت نفسها في خضم وعر من الاتهامات والقلاقل و”عدالة التلفون”، قذفت بها إلى السجن، هناك حيث التقت بامرأتين أخريين ظلما مثلها، وزيرتين سابقتين هما خليدة تومي وهدى فرعون، التقتهما في لحظة مضنية، تقاسمن الطعام والملح، المحن والقسوة والحزن، وظل سؤال الحيرة يلتف حولهن، وهن يجلسن معا على أرض السجن الباردة، سؤال: لماذا؟ وعن أمور حدثت لهن، ولا يعرفن كيف حدثت.

خرجت من السجن بعدما برأتها المحكمة. ارتبكت الخفافيش، وتركتهم يترقبونها بعد أن حاربوها في الظلام. ظنوا أنهم نجحوا في دفعها نحو العزلة والصمت والارتكان، وأنهم كسروا همتها وخيالها وأنوثتها، فهي في نهاية المطاف ومثلما اعتقدوا أن كونها امرأة يعني أنها تحمل كل ما يرتبط بهذا الجنس في المخيال الجمعي من جينات الضعف والهشاشة والدونية، لكنهم أخطأوا، لأنهم في الأصل لا يعرفون أنها حرة، وكطائر الفينيق الذي يولد باستمرار من الرماد، عزمت أكثر على الانبثاق والميلاد، فولدت بعفوية تامة فكرة “الجينريك الذهبي” الذي يكافئ أفضل المسلسلات العربية، ومشاريع أخرى تطلع بقوة ناعمة مثلما تصف كل خطوة تقوم بها. تطلع من العمق.

المرأة سوف لن تهدأ، ستظل تقلق، وتقض المضاجع حتى ينمحي هؤلاء من مشهد لطالما غبشوه وسيطروا عليه.

13