الدراما المغربية تتخذ من القفطان ثيمة فنية وأخرى تجارية تسويقية

يحضر القفطان بصفته رمزا من رموز الثقافة المغربية كثيمة قارة في أغلب الأعمال الدرامية، لكنه حضور يبدو تجاريا، حيث يسلط صناع الدراما الضوء على الزي ويتناسون تقديم حبكات درامية مقنعة، في حين يتجاهلون بقية مكونات الهوية المغربية والأزياء المتنوعة الأخرى التي تكشف تنوع المجتمع وثقافته.
الرباط ـ يعرف القفطان المغربي كرمز ثقافي بارز يتردد صداه في الدراما والأفلام التلفزيونية المغربية الحديثة، إذ يظهر بكثرة كعنصر يُفترض أنه يجسد الهوية الوطنية، بتطريزه الفاخر وألوانه الزاهية، كونه يحمل تاريخا من الحرفية والأناقة، لكنه تحول في أعمال تلفزيونية درامية مثل مسلسل “قفطان خديجة”، ومسلسل “عين ليبرة”، و مسلسل “مسك الليل” إلى ثيمة مكررة تثير الشكوك حول وظيفته الحقيقية، فالاعتماد المفرط على القفطان لا يكون بالضرورة احتفاء بالتراث، لأنه أصبح استهلاكا تجاريًا يخفي ضعف الكتابة الدرامية، ومعبرا عن أزمة إبداعية تتجاوز الزي نفسه لتدفعنا نحو التساؤل عن جوهر الإنتاج التلفزيوني المغربي.
بعض كتاب السيناريو يظهرون اعتمادا مبالغا فيه على القفطان كبديل عن بناء حبكات درامية غنية ومشوقة ومقنعة، كما يتضح في مسلسل “مسك الليل” للمخرج هشام جباري وشريط “بنت العم” للمخرج حميد زيان. في “مسك الليل” الذي يتناول قصة حب اليزيد وغالية وسط صراع عائلي، يظل القفطان مجرد خلفية بصرية لا تؤثر في تطور الأحداث أو تعمق التوتر، ليجعله زينة شكلية فقط، بينما في شريط “بنت العم” يُقحم القفطان كاستعراض في سياق تكميلي للقصة، دون أن يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالحدث الرئيسي، وهو ما يكشف عن نهج كسول يستند إلى الرمزية السهلة بدلا من الابتكار في السرد.
وتبرز أعمال مثل مسلسل “قفطان خديجة” و”عين ليبرة” أن هذا التكرار ينبع من منطق تجاري يخدم السوق أكثر من الفن، في “قفطان خديجة” تُقدم ليلى كشخصية تعود لصناعة القفطان بعد أزمة مالية، ويُروج للعمل كاحتفاء بالتراث والتنمية الاقتصادية، لكن الحبكة تبدو سطحية ومكررة وتفتقر إلى العمق الذي يليق بموضوع الحرفة، بينما في “عين ليبرة” تنجح نورا عبر عرض القفطان، لكن التركيز على الزي يغطي على ضعف معالجة الاستفزازات الاجتماعية على وسائل التواصل، وهذا يؤكد تحول القفطان المغربي إلى سلعة بصرية تُصمم لجذب المشاهدين في مواسم درامية مثل موسم رمضان الحالي.
وتضاف هذه الأعمال إلى أخرى تاريخية مثل مسلسل “الرحاليات” لتبين الفارق بين الاستخدام المدروس والإفراط غير المبرر، ففي مسلسل “الرحاليات” يظهر القفطان كجزء من فترة الحماية الفرنسية وهو ما لا يبدو أمرا منطقيا فطغيان القفطان واللباس المغربي فيه نوع من اللبس، بينما من الغريب أن يكون القفطان عنصرا بارزا أو زخرفيا بلا ضرورة درامية ويحضر كاستغلال تجاري، وهذا التباين يبرز كيف يمكن للمنتج أن يبيع منتجه الفني على حساب تسويق المنتج الوطني.
ويحد هذا الإصرار على حصر الدراما في القفطان من قدرتها على عكس التنوع المغربي، فالبلاد تزخر بثقافات متعددة، مثل الأزياء الأمازيغية والجبة الصحراوية والحياة الحديثة، لكن هذه الجوانب تظل مهملة بينما يُختزل الموروث في زي واحد ودون سياق يخدم تنوع الأزياء المغربية. في مسلسلي “عين ليبرة” و”شريك بنت العم”، يغيب استكشاف مواضيع مثل الحرف التقليدية أو الصراعات المعاصرة، ليتبين أن مشاهد القفطان كمشروع يشير إلى خضوع الكتاب لتوقعات السوق التي تفضل الرموز المضمونة على التجريب، وهو ما يهدد بتحويل التلفزيون إلى منصة استهلاكية لا إبداعية.
ونحن لسنا ضد استخدام القفطان المغربي في الأعمال الدرامية التلفزيونية أو المسرحيات أو حتى السينما، فهو جزء من التراث الثقافي الغني الذي يعكس الهوية المغربية، لكن ما نعترض عليه هو استغلال هذا التراث والتاريخ المغربي كأداة تجارية بحتة بين كتاب السيناريو والشركات المنتجة، كما يحدث الآن في بعض الأفلام الوثائقية أو السينمائية التي تتناول قضية الصحراء المغربية، وهذا التوجه يشكل خطرًا حقيقيًا على الإبداع، فإذا ما التزم كتاب السيناريو بالقوانين الأخيرة التي وضعها المركز السينمائي أو وزارة الثقافة، والتي تحث على الترويج للقضايا التاريخية والموروث الثقافي المغربي بشكل مبالغ فيه، فإن ذلك سيؤدي إلى تكرار النمط نفسه، إذ يصبح الكل شبيهًا بالكل ونفقد التنوع والإبداع، وكأننا نموت سريريًا بينما يظل التاريخ المغربي السياسي والاقتصادي والديني والمعرفي حقلًا واسعًا وخصبًا يمكن استكشافه وكتابة السيناريوهات عنه بطرق ذكية تمكن السيناريست من بيع عمله من جهة، وتمنعه من السقوط في مشكلات قانونية من جهة أخرى.
لكن هل تستطيع الدراما المغربية التحرر من هذا القفطان الرمزي لتعبر عن تنوعها، أم ستبقى أسيرة التكرار والسوق؟ القفطان يستحق مكانته كجزء من التراث، لكن استخدامه المفرط يثير تساؤلاً جوهريًا عن طبيعة الإنتاج التلفزيوني: هل هو فن يحتفي بالهوية أم تجارة تستغلها؟ الإجابة تعتمد على استعداد صناع الدراما لتجاوز القوالب الجاهزة والمغامرة خارج حدود المألوف، وغير هذا سيظل القفطان رمزًا مزدوجًا، يجمع بين الجمال والقيد، تاركًا الإبداع معلقًا بين الماضي والحاضر، بين التراث والاستهلاك، في حين أن السينما والتلفزيون هي القصة، هي الرسالة، هي المضمون، وليس الشكل.
بعض كتاب السيناريو يظهرون اعتمادا مبالغا فيه على القفطان كبديل عن بناء حبكات درامية غنية ومشوقة ومقنعة
وتناول مسلسل “حرير الصابرة” للمخرج يزيد القادري الذي عرض في رمضان 2024، القفطان لكن ضمنيا ضمن سياق تاريخي أصيل، إذ تنقل حكاية «حرير الصابرة» المشاهد إلى مدينة فاس في العصر المريني خلال القرن الرابع عشر، في عهد السلطان المتوكل فارس أبوعنان (1348-1358)، حيث كانت عاصمة السلطنة المرينية التي امتدت من المغرب إلى شمال أفريقيا وبعض المناطق الإسبانية. وأظهر المسلسل الأزياء التقليدية، ومنها القفطان، كعنصر بارز في الحياة اليومية آنذاك، حيث كانت النساء يرتدينه داخل المنازل كرمز للأناقة والرقي، بينما يظهر الحايك كلباس خارجي لهن.
وتتجلى الأندلس في قلب الأحداث، حينما كانت تعيش سقوطها التدريجي، بينما فتح المغرب أبوابه للمهاجرين الأندلسيين الذين استقروا في فاس بحثا عن الأمان، ويبرز القفطان في حياة النساء لا سيما في جنان المعلم بن إبراهيم الأندلسي، حيث كانت زوجته المعلمة كنزة ترتديه أثناء عملها في صناعة الحرير وتعليم اليتيمات الأندلسيات، وهذا يبرز التقارب الحضاري بين المغرب والأندلس، وأظهر المسلسل هذا الزي التقليدي بتصاميمه الغنية، مشددا على استمرارية التراث المغربي من الماضي إلى الحاضر، ومبرزا دوره في تعزيز الهوية الثقافية للشخصيات والمكان.
وعُرض مسلسل “عين الكبريت” للمخرج المغربي عهد بنسودة في رمضان 2023، واستمد أحداثه من التراث الثقافي المغربي في عصر المرينيين، مجسدا الحياة اليومية بأزيائها التقليدية التي تعكس الهوية المغربية العريقة، إذ برز القفطان في العمل كزي أساسي للنساء داخل البيوت، مصنوع من أقمشة فاخرة ومزين بتطريزات دقيقة، ويعبر عن الأناقة والرقي اللذين تميزت بهما المرأة المغربية في تلك الحقبة، وظهرت هذه الأزياء كجزء لا يتجزأ من المشاهد الداخلية، حيث كانت النساء يرتدين القفطان في الجنان والبيوت.
وتناولت السلسلة قصة حب مولاي يعقوب وابنة التاجر غيثة، وربطتها بموروث شعبي وتاريخي، لكن القفطان كان رمزا للتقاليد التي تحافظ على استمرارية الهوية المغربية، وارتدت الشخصيات النسائية القفطان بألوانه الزاهية وتصاميمه المتنوعة، بينما كان الحايك يظهر كزي خارجي يعكس الحشمة والوقار عند الخروج من المنزل، وجسدت هذه الأزياء، إلى جانب العمائم والجلابيب للرجال، تفاصيل الحياة في زمن المرينيين، معززةً البعد الثقافي للعمل.
واحتفى العمل بالتراث المغربي من خلال إبراز القفطان كعنصر مركزي في الحياة اليومية، عندما كان يُصنع يدويا بمهارة عالية، عكست الأزياء التقليدية، بما فيها القفطان، والتداخل الحضاري بين المغرب والأندلس، إذ استلهمت تصاميمه من التأثيرات المتبادلة بين المنطقتين، وأضفت هذه العناصر التراثية عمقا بصريا وثقافيا على السلسلة، وأوصلت رسالة مفادها أن اللباس التقليدي هو جزء حي من تاريخ وذاكرة الشعب المغربي.