هل المطلوب أميركيا التغيير في المشهد الدولي أم النظام

قالت المتحدثة باسم البيت الأبيض كارولين كلير ليفيت ، الاثنين 17 مارس الجاري، ردا على تصريحات النائب الأوروبي الفرنسي رافاييل غلوكسمان، الذي طلب من الأميركيين “أن يعيدوا تمثال الحرية”، أن “الفرنسيين لا يتكلمون الألمانية اليوم بفضل الولايات المتحدة دون سواها.” وأضافت كارولين، أن “عليهم أن يكونوا ممتنين جدا لبلدنا العظيم”، واصفة غلوكسمان بأنه “سياسي فرنسي صغير غير معروف.”
مهلا كارولين، ألا يحمل ردّك على النائب الفرنسي شيئا من الثقافة الترامبية “المتعالية” على أوروبا، التي تجلّت بشكل واضح في اللقاء الذي جمع الرئيس الأميركي دونالد ترامب ونائبه جي دي فانس بالرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي الذي طُلب منه تقديم الشكر للولايات المتحدة على دعم بلاده في حربه مع روسيا. فهل هذه اللغة الجديدة التي تنتهجها واشنطن في دبلوماسيتها الخارجية تجاه أوروبا تحديدا تهدف إلى إجراء تغيير في النظام العالمي أم في المشهد الدولي؟
بدأ التخوف الأوروبي من إحداث طلاق عام داخل الحلف الغربي، الذي استطاع بعد سقوط الاتحاد السوفياتي عام 1991 من فرض نظام عالمي جديد أحادي القطب. عرف هذا النظام نموذجا من التعاون بين الدول الغربية المتمثلة في الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة إضافة إلى انضمام اليابان، فكان النظام العولمي الذي فرض الثقافة الغربية وسهل عمل شركاتهم العملاقة لاحتلال الأسواق الاقتصادية والمالية.
◙ الرئيس الأميركي سحب البساط من تحت أقدام الدول الأوروبية التي شكلت على مدى التاريخ أماكن للتجمعات واللقاءات لحل النزاعات وإنهاء الحروب في العالم
"كان الاتحاد الأوروبي مسيئا فظيعا لهذا البلد، تمّ تشكيل الاتحاد الأوروبي للاستفادة من الولايات المتحدة وقد استفادوا." هذه الجملة لم ينطق بها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ولا الصيني شي جينبينغ اللذين يشكلا سويا حلفا لإحداث تغيير في النظام العالمي، بل قالها ترامب الذي من المفترض أن يكون الحليف الرئيسي للاتحاد الأوروبي.
سيطرت “اللاّثقة” على العلاقة بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، وتفاقمت التحديات مع وصول ترامب إلى سدة الرئاسة لولاية ثانية، حيث باتت كافة الفرضيات مطروحة للنقاش على رأسها إنهاء دور حلف شمال الأطلسي (الناتو) بعد سلسلة من الانتقادات التي وجهها ترامب لدول الحلف.
في إطار التفكك التركيبي للحلف، حذرت الغرفة التجارية الأميركية لدى الاتحاد الأوروبي الاثنين 17 مارس الجاري، من أن حرب الرسوم الجمركية بين الولايات المتحدة وأوروبا تعرض للخطر أعمالا عبر الأطلسي بقيمة 9.5 تريليون دولار سنويا. ويتحدث التقرير عن عام 2025 باعتباره عاما مليئا بالمخاطر لأكبر علاقة تجارية في العالم.
لترجمة ما يحمله ترامب من حقد على أوروبا، يسعى الرجل في سياساته الخارجية إلى تحجيم دور وحضور الدول الأوروبية، لاسيما في ما يتعلق بالحرب الدائرة في شرق أوروبا، بين الروسي والأوكراني. هذا ما يجده المراقب من التقارب الواضح بين الأميركي والروسي على حساب أوكرانيا وأوروبا عموما، وهذا ما كشفه نجاح المكالمة الهاتفية التي حصلت بين الرئيسين الروسي والأميركي لمدة ساعتين ونصف الساعة الثلاثاء 18 مارس الجاري. إذ قال المبعوث الأميركي ستيف ويتكوف إن محادثات وقف إطلاق النار بين روسيا وأوكرانيا ستستأنف في وقت لاحق وفي جدة أيضا.
لا يبدو أن ترامب يريد الذهاب نحو إحداث التغيير في النظام العالمي، بل جلّ ما يسعى إليه هو إحداث التغيير في المشهد الدولي تحديدا من قلب العاصمة الأوكرانية، كييف. أليس مستغربا أن يتعمد ترامب تحديد مصير أوكرانيا في المملكة العربية السعودية وبغياب الأوروبيين؟
لقد سحب الأميركي البساط من تحت أقدام الدول الأوروبية التي شكلت على مدى التاريخ أماكن للتجمعات واللقاءات لحل النزاعات وإنهاء الحروب في العالم، لتصبح اليوم السعودية مركزا دبلوماسيا لحل الأزمة الأوكرانية. ليس هذا وحسب، بل اختارت الولايات المتحدة بقيادة ترامب تجديد الحوار مع روسيا بقيادة بوتين دون مشاركة أوكرانيا ولا الاتحاد الأوروبي. كما أجبرت واشنطن كييف على قبول وقف إطلاق نار مؤقت بشروط ملزمة تجعلها في موقف ضعيف أمام روسيا.
◙ ترامب يعمد إلى إبعاد أوروبا عن المشهدية الدولية للتفرد بالقرارات الدولية ويجعل بلاده دولة عظيمة، بالتوازي فلن يسمح لروسيا والصين بإحداث التغيير في النظام العالمي
يعمد ترامب إلى إبعاد أوروبا عن المشهدية الدولية، للتفرد بالقرارات الدولية ويجعل بلاده دولة عظيمة، بالتوازي فلن يسمح الرجل لروسيا والصين بإحداث التغيير في النظام العالمي. إذ بالمنطق الترامبي أخذ روسيا إلى طاولة المفاوضات، لا يعني مشاركتها في وضع بنود الاتفاق بقدر ما يهدف إلى فرض شروط وقف إطلاق النار عليها، وهذا ما يجعلها دولة تفاوض للتوقيع على اتفاقية وقف إطلاق النار برعاية ووساطة أميركية، ما يبعدها عن دور الشريك.
ما ينطبق على روسيا كذلك ينطبق على الصين حيث يستمر ترامب على النهج السابق لإدارة الرئيس جو بايدن في تطويق بكين، وهذا ما نقرأه في إصراره على ضرب ممرها الاقتصادي (الطريق والحزام) من خلال إحداث الفوضى في منطقة البحر الأحمر عبر رفع منسوب التوتر مع حركة الحوثي، بهدف عرقلة الملاحة البحرية في قناة السويس على حساب رفع مستوى العمل في قناة بن غوريون التي ستشكل نقطة الارتكاز للممر الهندي الاقتصادي الذي تمّ التوقيع عليه في 10 سبتمبر 2023 في نيودلهي ضمن قمة مجموعة دول العشرين.
لن يسمح ترامب بإحداث تغيير في النظام العالمي، بل جلّ ما يريده هو إحداث التغيير في المشهد الدولي من خلال إقصاء الاتحاد الأوروبي عن المشاركة في أيّ دور لو تعلق بأمنها القومي على حساب بناء “أميركا القوية” التي يريدها ترامب، فهل ستستيقظ أوروبا والصين وروسيا وتقطع الطريق أمام جنون ترامب قبل فوات الأوان؟