حين تنسحب الولايات المتحدة تبدأ معركة تقسيم سوريا

في الثاني من مايو الجاري، سحبت الولايات المتحدة معظم قواتها من حقل كونيكو، وأبقت على نحو خمسين جنديا وضابطا فقط في حقل العمر، في خطوة تبدو للوهلة الأولى امتدادا لخطة الانسحاب التدريجي من سوريا التي أعلنت عنها واشنطن عقب سقوط نظام بشار الأسد في ديسمبر 2024. لكن خلف هذا التحرك العسكري الظاهري، تقف حسابات إقليمية أكثر تعقيدا، يتصدرها التنافس الإسرائيلي – التركي، وتداعيات التفكك السوري المستمر.
تقول الإدارة الأميركية إن مهمتها في سوريا كانت "غير دائمة" وتهدف فقط إلى مكافحة تنظيم داعش. لكن لم يُعلن رسميا بعدُ عن القضاء على التنظيم، ولم تُقدَّم مؤشرات ملموسة على تحقيق هذا الهدف. وفي مقابل الصمت حول داعش، يُعاد رسم مشهد المنطقة وفق خارطة جديدة تستند إلى توازنات قوى إقليمية، تتزاحم فيها المصالح الأميركية، التركية والإسرائيلية.
اللافت في هذا السياق هو أن الانسحاب الأميركي تم بالتزامن – وربما بالتنسيق – مع تصعيد إسرائيلي واضح. ففي ليلة الثالث من مايو، شنّت إسرائيل غارات عنيفة على مواقع في دمشق، طالت إحداها محيط قصر الشعب الرئاسي. وهنا لا يمكن الفصل بين التحركين الأميركي والإسرائيلي، خاصة مع التقارير العبرية التي كشفت عن ضغوط مارستها تل أبيب على واشنطن لتأجيل انسحابها خوفا من “الفراغ التركي”.
في المشهد الأوسع، تشعر إسرائيل بقلق متصاعد من التنامي التركي في سوريا، وخصوصا بعد تقارب المعارضة مع أنقرة وصعود الرئيس السوري الجديد أحمد الشرع، الذي يحظى بدعم تركي واضح. هذا التمدد التركي، الذي تصفه إسرائيل بـ”التهديد الوجودي”، يعيد إلى الواجهة التوتر التاريخي بين الحركة الصهيونية والدولة العثمانية، والذي بلغ ذروته في بدايات القرن العشرين، حين رفض السلطان عبدالحميد الثاني محاولات تيودور هيرتزل تمرير المشروع الصهيوني مقابل إغراءات مالية.
◙ الانسحاب الأميركي من شرق سوريا سيؤجج صراعا بين تركيا وإسرائيل وسط محاولات لتفكيك البلاد وإعادة رسم خارطتها السياسية
اليوم، تُستعاد ذات المعادلات، وإن بوجوه جديدة: هيرتزل أصبح نتنياهو، وعبدالحميد تمثله شخصية أردوغان، الطامح إلى استعادة نفوذ إقليمي بمرجعية إسلامية. إسرائيل، كما كانت سابقا، ترى في المشروع التركي خطرا مباشرا، وتعمل على تطويقه بكل الوسائل، بما في ذلك تصعيد الضربات الجوية، ودعم مجموعات طائفية داخل سوريا، كما في حالة الطائفة الدرزية التي تُوظّف الآن أداة لتفتيت البلاد، تحت ذريعة الحماية.
الرهان الإسرائيلي على “سوريا المفككة” ليس جديدا، بل يُعدّ من ركائز الإستراتيجية الإسرائيلية للهيمنة على الجوار. فكلما ازداد تفتت النسيج السوري، كلما ازدادت فرص تل أبيب لتوسيع نفوذها وشرعنة تدخلها العسكري. الدعم الإسرائيلي لبعض الجماعات بحجة “حماية الأقليات”، لم يكن يوما بريئا، بل يتقاطع تماما مع مساعي تثبيت واقع جغرافي جديد يخدم مصالحها الأمنية والوجودية.
في المقابل، يبدو أن أنقرة تدرك خطورة اللحظة. فهي لا تسعى إلى بسط سيطرة على سوريا بقدر ما تحاول منع انهيارها الكامل، لأن سوريا موحدة ومستقرة هي حليف إستراتيجي لا غنى عنه في الرؤية التركية للأمن القومي. ومن هذا المنطلق، ترفض تركيا الانجرار إلى لعبة “المحاور” وتؤكد بشكل غير مباشر على أهمية عودة سوريا إلى الحضن العربي، ورفع العقوبات الغربية عنها كشرط أساسي لإعادة الإعمار والاستقرار.
السؤال الأهم اليوم: من يملأ الفراغ الأميركي؟ الجواب ليس بسيطا. فتركيا قد تكون أبرز المرشحين، لكن إسرائيل حاضرة بقوة، وروسيا وإيران تترقبان، فيما العرب ينقسمون بين المراقبة والتوجس. كل طرف يحمل مشروعه الخاص لسوريا، ولا أحد يضع مصلحة السوريين في الصدارة.
لكن الرهان على تقسيم سوريا أو تحويلها إلى ساحة لصراع بالوكالة، سيولد المزيد من العنف والانقسام. وإذا كان التاريخ يعلمنا شيئا، فهو أن المخططات الكبرى مثل حلم هيرتزل بدولة يهودية على أرض فلسطين تبدأ بفكرة، وتحتاج إلى بيئة مفككة لتنمو. فهل ستكرر إسرائيل اليوم التجربة نفسها في سوريا أم أن القوى الإقليمية والدولية ستقف هذه المرة عند حدود النار؟